تحل اليوم الذكري 68 للنكبة العربية الأولي في فلسطين، في ظل أجواء مازالت ملبدة بغيوم نكبة ثانية، أكثر دموية واتساعا ودمارا من حرب 1948، التي انتصرت فيها اسرائيل علي الجيوش العربية مجتمعة، واحتلت أرض فلسطين. ربما كان للنكبة الأولي ما يبررها، فالدول العربية كانت تحت الاحتلال جميعها تقريبا، مسلوبة الإرادة بحكم التدخل الاستعماري، وتكاد الشعوب والحكام لا تدري بحجم ما يحاك حولها، بينما كان الجيش الصهيوني يفوق الجيوش العربية عددا، رغم قلة عدد اليهود، وكانوا أكثر تسليحا بأحدث الطائرات والدبابات التي تمرسوا في استخدامها أثناء مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية مع الحلفاء ضد دول المحور، وتحظي بدعم معظم الدول الكبري المنتصرة في الحرب، بينما كان العرب مازالوا في غياهب أفكار وبقايا الدولة العثمانية المتفسخة. في ظل هذا الوضع لم يكن بإمكان العرب تحقيق انتصار، أو إحباط أهداف المؤامرة الاستعمارية الصهيونية، فقط كانت تأمل طليعة شعوبها أن توقظ المؤامرة العرب من سباتهم، لعلهم يستطيعون رد المكيدة.لكن النكبة الحالية تختلف كثيرا، فالعرب شركاء في صنعها، سواء عن قصد أو جهل أو غباء، فأعاصير الإرهاب المتنقل في الساحات العربية، وقودها شباب عربي يشارك في اقتلاع أمته، وينبعث من تفجيراتها غبار سام يخنق بلداننا، انبعث من ركام تراث ضرب العفن جذوره، وأطاح بالعقول إلي غياهب الشعوذة، تحركهم فتاوي عصور تقطر دما وظلمة، وأرادوا بعثها بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة ومدافع جهنم وجرانوف، أما الحكومات التي تعيش بعضها في بحبوحة النفط، فلم تستثمر أموالها إلا في قشور الحداثة، والتنافس في التآمر علي بعضها البعض، وخوض حروب القصور، وتفخر بجيوش كثيرة السلاح عديمة الجدوي، لأنها فقدت البوصلة والارادة، تحمي العروش لا الشعوب. وتاهت المنظمات الفلسطينية، وتفرقت أشلاؤها بين العرب، لتشارك في قتال بعضها بعضا، وحملت خيامها من عمان إلي بيروت، ومن أيلول »سبتمبر« الأسود الذي شهد أعنف الاشتباكات بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1970 إلي حزيران «يونيو» الأشد سوادا عام 1982 الذي بدأ فيه الجيش الصهيوني اجتياح لبنان في الذكري 15 لنكسة 1967، وانتهاء بالانقسام الفلسطيني بين دعاة إلقاء السلاح، ومن يحملون سلاحا ضحاياه من الفلسطينيين والعرب أكثر من ضحاياه من الصهاينة، فالمخيمات الفلسطينية في سورياولبنان تحولت إلي معاقل لتنظيمات الإرهابيين من داعش والنصرة والفتح وغيرها من الجماعات الإرهابية، بينما انجرفت منظمة حماس إلي أوهام جماعة الإخوان، التي تحالفت مع قطر وأردوغان، لتشارك في عمليات التقسيم والفتنة باسم دولة الخلافة.مازالت حروب النكبة الكبري تدور رحاها في معظم البلدان العربية، وتشكلت مئات الجماعات الإرهابية، لتوظف الشباب العاطل واليائس والمغيب في مشروع التوحش الداعشي بألوانه ودرجاته، لتقتل عشرات أضعاف من سقطوا في الحروب مع إسرائيل.ربما كان مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق يجسد حجم المأساة الفلسطينية، حيث تتنازع داعش والنصرة وحماس للسيطرة عليه، ويقتل فيه »المجاهدون« إخوانهم »المجاهدين« من أجل الانطلاق منه لضرب دمشق ولتحرير فلسطين. وفي الضفة الغربيةالمحتلة تبخرت السلطة الفلسطينية الوهمية، ولم يعد منها إلا مجموعات صغيرة من موظفين وشرطة فلسطينية، لا تفعل شيئا إلا مطاردة من يحاول التمرد علي الاحتلال، ويقدمون للمحتل المعلومات عن الشباب الفلسطيني المزعج، الذي مازال يحلم بمقاومة المحتل، ولا يجد سوي الحجر والسكين ليقاتل أحدث آلة عسكرية في العالم وأكثرها عنصريةوتوحشا. أما في سجن غزة الكبير والمزدحم بالعاطلين والجوعي والعطشي، والمحرومين من الكهرباء والتعليم والعلاج، فلا يعانون من الحصار الصهيوني وحده، بل من سلطة منظمة حماس أيضا، والتي ضاعفت الألم الفلسطيني، وجعلت سجن غزة لا يحتمل.الاحتفال الاسرائيلي بالانتصار علي العرب هذا العام له مذاق خاص، حيث تنعم إسرائيل بأكثر سنوات عمرها أمنا، بينما العرب يتقاتلون علي كل الجبهات، وجيوشهم مستنزفة في الحروب الداخلية، فمنظمة »بيت المقدس« الإرهابية تحارب الجيش المصري في سيناء، ولم توجه أسلحتها إلي إسرائيل، رغم تسميتها الخادعة، فالعمليات لم تقترب من بيت المقدس، بل تقصف رفح والعريش وغيرها من المدن ومعسكرات الجيش والشرطة. وعلي حدود هضبة الجولان السورية المحتلة تشن جماعات النصرة وغيرها الهجمات ضد الجيش السوري، ويتلقي جرحاها العلاج في اسرائيل، وحرص رئيس الوزراء الصهيوني نيتانياهو علي زيارة »المجاهدين« وهم يتلقون العلاج في المشافي الاسرائيلية، تقديرا لدورهم في تدمير أوطانهم. في ظل هذا التمزق العربي غير المسبوق يجري بلورة نظام جديد في المنطقة، تكون إسرائيل مركزه وعاصمته، حيث يسعي المزيد من العرب إليها الآن طلبا للتحالف وليس السلام فقط، طالبين منها العون والحماية، بعد أن تورطوا في الكثير من الحروب فيما بينهم، وتركتهم أمريكا فجأة، ليكون أمامهم فقط الباب الاسرائيلي مفتوحا، لكي يدخلوه غصبا أو حبا لاستجداء رضاها، ولن يكون بمقدورهم في هذه الحالة إلا أن يطالبوا الفلسطينيين بالكف عن تذكر ضياع فلسطين، لأن كثيرا من بلدان العرب ضاعت، وأخري قد تكون في سبيلها إلي الضياع لو لم تنتبه شعوبها. لكن يبقي الأمل في أولئك الذين يرفضون الاستسلام، ويصرون علي المقاومة، ولو بالحجر أو السكين، في وجه المحتل والجماعات التكفيرية معا. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد