ربما شعر الأتراك في ذلك الزمان البعيد نسبيا بالصدمة لاعتراف بلادهم باسرائيل نهاية أربعينيات القرن المنصرم، والمفارقة أن العلاقات دشنت في عهد الثنائي الإسلامي جلال الدين بيار وعدنان مندريس ، اللذين حكما البلاد طيلة عقد الخمسينيات ، قبل أن يطيح بهما الانقلاب العسكري في 1960 . وبمرور السنين بدت الأمور تسير في مجراها الطبيعي، واعتاد الأتراك على الدولة العبرية وسياحها الذين يفدون بأعداد وفيرة إلى منتجعاتهم ، نفس الحال كان مع الأحزاب والقوي السياسية على تباين توجهاتها ومشاربها الايديولوجية ، بل إن بعضها الفاعل والمؤثر ذهب باللائمة على حزب العدالة والتنمية الحاكم وحمله مسئولية ما حدث أمام سواحل غزة نهاية مايو عام 2010 لإصراره على مساندة من انتهكوا ( في إشارة إلى جمعية مظلوم المدعومة حكوميا ) سيادة دولة صديقة . وهذا ما أدركه رجب طيب اردوغان في الوقت الذي اصبح فيه رئيسا للجمهورية ، ولكن بعد فترة ليست بالوجيزة ، فيها علت صرخاته وهو رئيس وزراء، تنديدا وشجبا للاحتلال الغاشم ، وممارساته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وعبثه بالمقدسات الإسلامية ، ومع هجوم البحرية الإسرائيلية على سفينة " مافي مرمرة " للمساعدات الإنسانية ، تمادي ولم يضع سقفا لشروطه التي باتت تعجيزية. زاد على ذلك طوق العزلة والوحدة وتل أبيب ليست أبدا بعيدة عنه الذي بات يشتد حول تركيا ، إذ بقت ، والعهدة على الكاتب مراد يكتين ، دولة معزولة في منطقة الشرق الأوسط ، بسبب سياستها الخارجية الخاطئة التي اعتمدت على أسس ثيوقراطية تقدم الدعم لجماعة الإخوان المسلمين في كل مكان ، على عكس حقبة كانت الثقة بالبلاد عنوانها والحوار منهجها بدءا من توليها دور الوسيط بين اسرائيل وسوريا برعايته هو شخصيا وبمباركة من " الأخ المخلص " بشار الأسد ، مرورا بمحاولات المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة حماس وفتح ، وانتهاء بدخولها بتعاون وشراكة مع مصر والسعودية وبلدان خليجية دون قطر في الاستراتيجيات المناوئة لحكم الملالي في الجارة الفارسية . إضافة إلى ذلك إنتهاجها ( أي تركيا ) دبلوماسية تعارضت إجمالا مع الحليف الأمريكي خاصة والغرب الأوروبي عامة ، والدليل على ذلك هو إنها تركت خلافات عميقة شملت أبرز القضايا ، وعلى رأسها الأزمة السورية وكاتب آخر ( وهو صباح الدين اونكيبار ) نقل عن رجل مخابرات سابق رفض الافصاح عن أسمه ، تشديده بأن الولاياتالمتحدة وكذا الاتحاد الاوروبي إضافة إلى روسيا جميعهم لا يريدون أن يحكم تركيا رجل مثل أردوغان الذي بقى معزولا بدون أي حليف أو صديق. لكل هذا كان لابد من التراجع ومد اليد مستنجدا بالصداقة مع اسرائيل ولكن كيف هذا هو الإشكال ؟ من هنا وضع السيناريو الانسحابي، وبدا التوزيع الممنهج للأدوار ، في مخاطبة البسطاء من مواطنيه الذي سبق وزايد على مشاعرهم الدينية ، بغية التدرج حتى الوصول للهدف المنشود الذي هو أصلا معلوم لديه وتم الإتفاق بشأنه قبل شهور خلت غير أن الحذر واجب وأخذ الحيطة لا مناص عنه، كي لا يشعر المؤيدون بأن هناك ثمة هرولة لا سمح الله نحو الكيان الصهيوني. وكعهد قطعه صناع القرار على أنفسهم منذ الأول من يونيو عام 2010، فالقاصى والدانى بعموم الاناضول يعلم أن زعماءه أو بالأحرى زعيمه لا ولن يفرط في الثوابت التي أعلنها هو نفسه ، فلا تنازل البتة عن تنفيذ الشروط الثلاثة مجتمعة دون استثناء. وهكذا صارت الخطة المحكمة المعد لها بعناية ، في سيرها الذي إستهدف أن يكون بطئ الخطي فلا مجال للعجلة. لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن ، بوقوع تفجير السبت الدامي في السابع عشر من مارس الفائت بجادة " إستقلال " الشهيرة وسقوط ضحايا أجانب كان الاسرائيليون أغلبهم . ورغم أن زيارة دوري غولد المدير العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية والتي كانت الاولى من نوعها على مستوى رفيع منذ قطيعة حادث مرمرة جاءت على خلفية هجوم قلب إسطنبول الإنتحاري إلا أن الحكومة حرصت على ألا تشوبها شائبة ، وبما أن معظم القتلي وكذا ثلث الجرحي إسرائيليون ، كان طبيعيا أن تكثر التكهنات ومعها الشكوك ، ونتيجة للهواجس التي تسارعت وتيرتها شيئا فشيئا في غضون الساعات القليلة التي تلت التفجير قررت قيادة حزب العدالة والتنمية ، إبعاد السيدة " ايرم اكتاش " من رئاسة فرع المرأة بالحزب الذي يمثل ضاحية " أيوب " بإسطنبول وطردها فورا من كافة تشكيلاته ، لنشرها تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي " تويتر " تمنت فيها موت الإسرائيليين الجرحى الذين كانوا يعالجون بالمستشفيات قبل بدء نقلهم إلى بلادهم ، الأمر الذي أثار ردودا غاضبة وحادة بالأوساط السياسية في تل ابيب. وسارع الحزب إلى التأكيد أن ما قالته " العضوة " يعبر عن وجهة نظرها الشخصية ، ولا يعكس بأي حال من الأحوال موقف الحزب الذي لا يفرق بين العرق أو المذهب أو الدين ، واللافت أنه تم التعتيم علي تلك الخطوة من قبل وسائل الاعلام وبالذات المرئية منها التي باتت جميعها تحت سيطرته الكاملة. وبعث رئيس الوزراء احمد داود اوغلو برسالة تعزية الى نظيره الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو ابدي فيها أسفه وأسف الشعب التركي لمقتل وإصابة المواطنين الاسرائيليين، مؤكدا أن تلك العمليات الجبانة توضح للجميع ضرورة التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. وخلال زيارته المهمة لواشنطن التقي اردوغان مع ممثلين للجالية اليهودية في الولاياتالمتحدة مستهدفا بالأساس طمأنتهم بأن العلاقات التركية – الاسرائيلية ستعود إلى طبيعتها وأن مباحثات في هذا الشأن ستجري في شهر إبريل الحالي وهو ما حدث بالفعل . وفي عبارات تميزت بالود الخالص عكس مثيلتها المتشنجة طالب اردوغان من مجتمعيه " أصدقائه " اليهود تقديم المساعدات اللازمة لسد النقص الجدي للطاقة الكهربائية للفلسطينيين بقطاع غزة. وقبل أيام ودون أن تكون هناك مناسبة خرج داود أوغلو ، بتصريحات مقصودة بطبيعة الحال ، قال فيها إن مفاوضات بلاده مع الدولة العبرية والتي جرت على أراضي المملكة التي كانت لا تغرب عنها الشمس سارت في اتجاهها المحمود وقريبا ستعلن نتائجها المبشرة. كلمات موجهة لمن يهمة الأمر .. فهل هذا الأخير سيكف عن انتقاداته ويرضى عن حليفه ؟