تشهد العلاقات المصرية اليابانية حاليا واحدة من أفضل مراحلها على مر التاريخ الحديث لما تتميز به من تقارب سياسى واستراتيجى ووجود فرص هائلة للتعاون الأمنى والاستثمارى والتجارى والسياحى والتعليمي. وتمثل الزيارة التى يقوم بها الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى إلى طوكيو فى الفترة من 28 فبراير إلى 1 مارس، مؤشرا مهما على ذلك، لأنها ليس فقط أول زيارة لرئيس مصرى منذ 16 عاما، فضلا عن كونها الأولى للرئيس السيسى إلى اليابان منذ توليه السلطة فى يونيو 2014. وإنما أيضا لأنها شهدت قيام الرئيس المصرى بإلقاء كلمة أمام البرلمان اليابانى، مما يجعله أول رئيس عربى، وربما إسلامى وشرق أوسطى، يتحدث أمام هذا البرلمان العريق، والذى لم يتحدث أمامه سوى عدد قليل من زعماء العالم. ولعل فى ذلك رسالة بالغة الأهمية مفادها أن مرحلة التوتر والفتور وسوء الفهم التى غلبت على العلاقات بين الجانبين عقب ثورة 30 يونيو قد تم تجاوزها للأبد، وأننا أمام شراكة جديدة للمستقبل من أجل تحقيق غايات وتطلعات الشعبين المصرى واليابانى فى التنمية والأمن. تأتى القمة المصرية اليابانية هذه المرة بعد «زيارة تاريخية» لرئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى لمصر فى يناير 2015، أسفرت عن التوصل إلى توافق ملموس بين الزعيمين على إيلاء اهتمام خاص للتعاون الاقتصادى والتنموي، إضافة إلى تعزيز التشاور والتنسيق السياسى بشأن الأوضاع المتفجرة فى منطقة الشرق الأوسط ومنطقة شرق آسيا، بما فى ذلك التحديات المرتبطة بالإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، خاصة فى ظل عضوية الدولتين فى مجلس الأمن لعامى 2016 و2017. كما اتفق البلدان أيضا خلال القمة الماضية على تقديم الجانب اليابانى 360 مليون دولار كقروض ميسرة لتطوير شبكة الكهرباء وتوسيع مطار برج العرب وغيرها من المشروعات المهمة. أهداف متعددة هدفت زيارة الرئيس السيسى الحالية إلى طوكيو إلى إعطاء دفعة قوية للعلاقات التاريخية الوثيقة بين الشعبين المصرى والياباني، فى وقت تسعى فيه مصر لتنويع دوائر تحركاتها شرقا وغربا، وبناء شراكات مع كل الدول التى يسهم التعاون معها فى تحقيق الأهداف المرتبطة بإعادة بناء الاقتصاد المصرى بما يسهم فى تحقيق معدلات التنمية المنشودة، وبالتالى رفع مستوى معيشة المواطن المصري. حيث تنظر القاهرة إلى اليابان باعتبارها دولة صديقة، تحتل مرتبة ثالث أكبر اقتصاد فى العالم، ولديها امكانات اقتصادية ومالية واستثمارية وتكنولوجية مهمة تستطيع المساهمة بشكل ملموس فى المشروعات القومية الكبرى، التى يسعى المصريون إلى تحقيقها فى الفترة المقبلة، وفى مقدمتها محور تنمية قناة السويس، والمثلث الذهبي، وتنمية الساحل الشمالى والعلمين، والعاصمة الإدارية الجديدة ومشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة وغيرها. كما تتطلع القاهرة أيضا إلى عودة السياح اليابانيين إلى مصر، بعد أن تسببت الأعمال الإرهابية الأخيرة ووقف تسيير خطوط مصر الطيران المباشرة، فى إحجامهم عن زيارة المقاصد السياحية، وبالتالى فقدان صناعة السياحة المصرية موارد ضخمة كانت تعود عليها من السائح اليابانى «المستريح»، والذى كان يعد من أفضل «زبائن» هذه الصناعة. وإلى جانب ذلك، تتطلع عدد من الدوائر الأمنية المصرية إلى الاستفادة من التكنولوجيا اليابانية المتطورة فى كشف الأعمال التخربيبة والإرهابية التى تستهدف تقويض المرافق الحيوية للدولة المصرية، مثل محطات وأبراج الكهرباء وخطوط أنابيب نقل الغاز والبترول ومحطات المياه والصرف وغيرها. علاوة على ذلك، تعتبر اليابان من أكثر الدول التى تسعى مصر للاستفادة من تجربتها التنموية، خاصة فى مجال التعليم وتطوير الموارد البشرية، وهو الأمر الذى عبر عنه الرئيس السيسى أكثر من مرة. وفى هذا الصدد، يتطلع المسؤولون المصريون إلى التعاون مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولى (جايكا) من أجل زيادة المنح الدراسية فى مجالات التعليم الأساسى والفنى والدراسات العليا، مشيرين إلى أن هناك دراسات وصلت لمرحلتها النهائية لتطوير 100 مدرسة مصرية على النمط الياباني. كما يشير هؤلاء المسئولون أيضا إلى أنه من المنتظر أن يتم خلال عامين التوسع فى تطوير الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا ببرج العرب، المتخصصة فى مجال الدراسات العليا، لتضم خريجى المرحلة الثانوية. «نجمة الأمل» ومن جهتهم، ينظر اليابانيون إلى مصر باعتبارها دولة محورية فى تحقيق الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، التى تعتبر المصدر الرئيس لواردات الطاقة، اللازمة لضخ الدماء فى شرايين الحياة الاقتصادية اليابانية. ولذلك لم يكن غريبا أن يصف رئيس الوزراء اليابانى مصر بأنها «نجمة الأمل لمستقبل منطقة الشرق الأوسط»، فى ظل انتشار الفوضى وعدم الاستقرار فى عدد من دول المنطقة، خاصة سورية واليمن والعراق وليبيا. ومن ناحية ثانية، تتطلع الدوائر العسكرية اليابانية إلى الاستفادة من الخبرة الطويلة لأجهزة الأمن المصرية فى التعامل مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، خاصة فيما يتعلق بمسألة تبادل المعلومات حول هذه الجماعات وأساليب عملها وشبكة علاقاتها. حيث تولى اليابان اهتماماً كبيراً بمكافحة خطر الإرهاب، خاصة بعد أن أثبتت التجربة أنه لا توجد دولة، أيا كان موقعها وأيا كانت درجة تقدمها، إلا وعانت هذا الخطر. فقد عانت اليابان نفسها وهى فى أقصى شمال شرق الكرة الأرضية الأذرع الأخطبوطية للإرهاب حين استهدف مصالحها ورعاياها فى منطقة الشرق الأوسط. ويشار هنا تحديدا لحادثة عين أميناس فى الجزائر التى أودت بحياة عشرة مواطنين يابانيين عام 2013، وذبح تنظيم داعش الإرهابى مواطنين يابانيين فى العام الماضي، وكذا مقتل ثلاثة مواطنين يابانيين فى حادثة متحف باردو الوطنى فى تونس فى مارس 2015. ومن هنا أصبحت مسألة تأمين الشركات اليابانية العاملة فى منطقة الشرق الأوسط، وسلامة المواطنين اليابانيين الذين يعملون أو يزورون هذه المنطقة، فى مقدمة اهتمامات صانع القرار الياباني. وفى هذا السياق، يمكن القول إنه قد حدث «تحول تاريخي» فى الفكر الاستراتيجى الياباني، فى العام الماضي، عندما تم تعديل تفسير المادة التاسعة من الدستور اليابانى وإصدار تشريعات أمنية جديدة لتمكين قوات الدفاع الذاتى اليابانية من توسيع دورها خارج حدود اليابان فى إطار التحالف مع الولاياتالمتحدة وحلف الناتو، مما قد يمهد لتصاعد انخراط القوات العسكرية اليابانية فى التحالفات العسكرية الدولية لمكافحة الإرهاب والتصدى للتهديدات الخارجية. أحفاد الفراعنة وأبناء الساموراى لديهم رغبة قوية للتعاون معا من أجل تحقيق المصالح والمنافع المتبادلة. وقد ظهر ذلك بوضوح من مشاركة اليابانيين الكبيرة فى مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى فى مارس 2015، والزيارات الكثيرة للوفود اليابانية (من برلمانيين ورجال أعمال وأكاديميين) إلى مصر خلال العام الماضي. وإلى جانب المشروعات المتعددة للاستثمار فى مصر، وعلى رأسها مشروعات الطاقة والنقل، تم طرح كثير من الأفكار التى تتعلق بتعزيز التعاون الاقتصادى بين مصر واليابان فى إطار شراكة اقتصادية ثلاثية بين اليابان ومصر وإفريقيا لاستغلال الموقع الجيو - ستراتيجى لمصر فى تعزيز العلاقات الاقتصادية بين اليابان ودول القارة الأفريقية، وتم طرح نموذج المناطق الصناعية فى مصر كآلية لتعزيز التعاون الاقتصادى بين مصر واليابان والدول الأفريقية. ولكن الأصدقاء اليابانيين لا يخفون قلقهم من «ضبابية» مناخ الاستثمار فى مصر، وعدم توافر دراسات جدوى دقيقة حول بعض المشروعات المطروحة، واستمرار التعقيدات البيروقيراطية، ونقص العملة الاجنبية لتحويل الأرباح إلى الخارج، وغيرها من العوامل التى قد تقف أمام عمل الشركات اليابانية فى مصر خلال الفترة المقبلة. وتجاريا، يحتاج البلدان من أجل تعزيز شراكتهما المستقبلية إلى اتخاذ خطوات مدروسة لدفع التبادل التجارى بينهما، خاصة وأنه ليس فى أفضل حالاته، حيث تراجع حجم هذا التبادل من نحو 3 مليارات دولار عام 2012 إلى أقل من 1.5 مليار دولار العام الماضي، منها حوالى 1.3 مليار دولار واردات مصرية من اليابان، و150 مليونا فقط صادرات مصرية، وهو ما لا يتناسب مع إمكانات مصر التصديرية إلى سوق كبيرة كاليابان. من جهة أخرى، ربما يكون لمراكز البحث والتفكير دور فى استكشاف الفرص وطرح التوصيات بشأن تعزيز التعاون المستقبلى بين الجانبين، خاصة فى المجالات ذات الأهمية الحيوية بالنسبة لأهداف التنمية فى مصر، والتركيز على مجالات محددة تتمتع فيها اليابان بميزات نسبية مقارنة بغيرها من دول العالم المتقدم، ويأتى فى مقدمة تلك المجالات الكهرباء والبترول والغاز والتعليم والصحة ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وفيما يتعلق بدعم الحرب على الإرهاب، تعد الاستفادة من التجربة اليابانية فى مجال التعليم وسيلة فعالة للقضاء على ظاهرة الإرهاب والتطرف اللذين ينتشران فى المنطقة، لأن التعليم هو الركيزة الأساسية لتكوين شخصية الفرد وتنمية قدراته. ومن ناحية ثانية، يمكن الاستفادة من اليابان فى تشجيع الحوار الحضارى بين الشعوب، خاصة فيما يتعلق بالتحامل على الدين الإسلامى وربطه بالإرهاب. فاليابانيون يكنون كل الاحترام للإسلام كدين وثقافة وحضارة، ولا يشعر المسلمون فى اليابان بأى تمييز أو روح عدائية بأى قدر، إذ تعتبر اليابان نموذجاً حياً للتعايش بين الثقافات والحضارات والأديان وكفالة حرية الاعتقاد بلا أى قيود. أفكار واعدة وإلى جانب ذلك، يطرح عدد من الدوائر الاستراتيجية والأمنية اليابانية مجموعة من الأفكار المهمة لبناء شراكة مثمرة بين الجانبين المصرى واليابانى فى المستقبل من أجل تحقيق التنمية المستدامة، واستعادة الأمن والاستقرار، ومواجهة الإرهاب والتطرف والعنف والصراعات فى منطقة الشرق الأوسط. ومن هذه الافكار، على سبيل المثال، ما يلي: أولا، الإصلاح الداخلى فى الدول العربية من أجل تعزيز دولة القانون والحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة والمستدامة التى تقوم على توزيع عادل لعوائد التنمية، فضلا عن التصدى لتحديات التنمية البشرية من خلال إصلاح نظم التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة وحماية حقوق الأقليات والتصدى لانتهاكات حقوق المواطنين مما يؤدى لتعزيز الرضاء العام فى هذه الدول. ثانيا، تأسيس نظام جديد للأمن الإقليمى يقوم على التوافق بين غالبية القوى الإقليمية الرئيسية بشأن تحقيق المصالح المشتركة، واحترام سيادة الدول، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، ومواجهة حالات انهيار نظم الحكم ومؤسسات الدولة، خاصة فى سورياوالعراق واليمن وليبيا، وكبح صعود الفاعلين المسلحين من غير الدول مثل: التنظيمات الإرهابية، والميليشيات المسلحة ذات الانتماءات القبلية والعشائرية والطائفية. ويعد هذا النظام الجديد ضرورة ملحة لمواجهة حالات الاستقطاب الإقليمى الحادة المتمثلة فى وجود أربعة تحالفات رئيسية حاليا، أولها يتمثل فى التحالف العربى السنى ممثلا فى دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن والسودان، وثانيها التحالف الدولى لمواجهة الإرهاب فى العراقوسوريا بقيادة الولاياتالمتحدة، وثالثها التحالف الروسى الذى يضم إيرانوالعراق ونظام الأسد فى سوريا، ورابعها تحالف التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود بقيادة تنظيم داعش. مثل هذه الأفكار اليابانية، وغيرها، ينبغى الاشتباك معها من جانب صناع القرار ومراكز الفكر فى مصر والدول العربية من أجل بناء شراكة واعدة لمستقبل أفضل مع الأصدقاء اليابانيين وغيرهم من دول العالم الصديقة.