ينتابك شعور غريب..عندما تعرف الارقام التى اعلنها نائب محافظ البنك المركزى جمال نجم عن فاتورة الواردات التى قفزت فى العام 2015/2014لتصل الى 60 مليار دولار ، وفقا لبيانات المركزى ، والى 76 مليار دولار وفقا لبيانات الجمارك ، وبالطبع هذا الامر يمكن تفهمه. ، حيث ان الاستيراد الشخصى الذى تسجله الجمارك ، اضافة الى ان كل السلع المستوردة التى تقل قيمتها عن 5 الاف دولار،لا تتطلب من صاحبها الحصول على نموذج 4 من البنوك سواء كانت هذه السلع فى صورة ملابس او بضائع او ادوات لغرض الاستخدام الشخصى، او الاتجار . العجز فى الميزان التجارى قفز ايضا من 34 مليار دولار فى 2014/2013 الى 38.8 مليار دولار فى العام المالى الماضى 15/14 ، السبب لايبدو صعبا ، فهناك كثير من المنتجين الذين وجدوا فى الاستيراد امرا سهلا لتحقيق ارباح طائلة دون مشقة التعامل مع البيروقراطية ، وليس هناك صعوبة فى تدبير الدولار فكل زيادة ينقلها المستورد على المستهلك مباشرة وبنسبة اكبر من ارتفاع الدولار . هيكل الواردات يشير – بشكل واضح – إلى ان الزيادة فى فاتورة الاستيراد لم تخدم الانتاج ، فلم تكن لصالح السلع والخامات الوسيطة ومستلزمات الانتاج والسلع الرأسمالية من آلات ومعدات ،والدليل ان الزيادة فى فاتورة الاستيراد لم يقابلها زيادة بنفس المستوى فى الانتاج ، بل انها ذهبت الى السلع الاستهلاكية ،يكفى ان استيراد السيارات – الركوب للاستخدام الشخصى فقط - قفز بنسبة تصل الى 110 % فى عام واحد من 1.5 مليار دولارعام 14/13 الى 3.2 مليار دولار فى عام 15/14، الى جانب فاتورة الورادات من الموبايل التى بلغت 1.1 مليار دولار ، والملابس الجاهزة التى سجلت 272 مليون دولار ! . هل اصبحت مصر سوقا رائجة اوعلى حد تعبير استاذنا الكاتب الراحل احمد بهاء الدين سداح مداح – لاستيراد السلع الاستهلاكية حتى لو كانت رديئة وغير مطابقة للمواصفات ، والمهم ان تكون رخيصة ، وليس مهما عمرها الافتراضى ، و بالطبع الاضرار بالصناعة والمنتج المحلى ، وما يتبعه من بطالة- ارتفعت معدلاتها الى مستوى ينذر بمخاطر – المهم هو تحقيق الارباح ، وربما تعكس القفزة الكبيرة فى الوارادت من الصين فى العام الماضى بنسبة 75 % ، مقارنة بمعدل زيادة سنويةمن قبل 10 % . لابد اذنا من وقفة من الدولة لمراجعة المفاهيم والتوجهات والسياسات الاقتصادية .. اذ ليس مطلوبا من المستورد ان يراعى الصالح العام ، وهذا الامر دور اصيل للحكومة التى هى مسئوليتها تحقيق التنمية المستدامة وفق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية الكلية للدولة بما يحقق التوازن فى معدل النموالاقتصادى، وهو لن يتحقق بدون استقرار اجتماعى ، من هنا يمكن تفهم قرار البنك المركزى الاخير بشأن تنظيم الاستيراد ، للحد من الاستيراد السلعى – عمال على بطال دون ضوابط – لصالح تحفيز الانتاج ومن ثم التشغيل لمواجهة مشكلة البطالة بين الشباب التى عادت للزيادة مرة اخرى فى الربع الاول من العام المالى الحالى بعد ان كانت قد تراجعت فى الربع الاخير من العام المالى الماضى ، وسجلت 12.6 % بما يقدر ب3.5 مليون عاطل معظمهم من الشباب وفقا لبيانات جهاز الاحصاء ، فى حين تقدرها بعض الدراسات بنحو 5 ملايين .. الامر جد خطير ، ولن يتم معالجة المشكلة طالما بقى باب الاستيراد الاستهلاكى مفتوحا دون ضوابط ، لاسيما فى ظل نقص فى موارد النقد الاجنبى يلزم باجراءات سريعة ومتكاملة لاحتواء واستيعاب التطورات . عجز الميزان التجارى بدوره يدفع الى تساؤلات مشروعة بل وضرورية – فى هذه المرحلة بالغة الاهمية – من مراحل التطور الاقتصادى والاجتماعى بعد الصعوبات التى افرزتها ثورتان متتاليتان 25 يناير 2011 ، و30 يونيو 2013 ، وكان المطلب المحرك الاساسى هو تحقيق العدالة الاجتماعية .. التساؤلات المهمة تدور فى اغلبها حول .. دور القطاع الخاص .. وماذا قدم فى سجل التقدم والتنمية الاقتصادية ؟.. ليس هناك شك فى ان الدولة وفرت للقطاع الخاص المناخ المناسب للتطور والنمو، لاسيما الدعم على الغاز الطبيعى والاعفاءات الضريبية فى المناطق الحرة وتخفيض سعر الضريبة الى 20 %،كما افسحت امامه المجال واسعا بدون مزاحمة القطاع العام فى معظم – ان لم تكن غالبية – القطاعات التى كان يرى البعض انها تزاحم القطاع الخاص ،ومنحته 80 % من مشروعات خطة التنمية ، ومهدت لمنتجاته الطريق للنفاذ الى الاسواق الخارجية من خلال توقيع الاتفاقيات التجارية التفضيلية مع التكتلات الاقتصادية من الاتحاد الاوروبى الى الكوميسا الى الاسواق العربية ، واتفاقية اغادير .. وغيرها، الى جانب صندوق المساندة التصديرية ، الذى يكلف ميزانية الدولة نحو 6 مليارات جنيه سنويا حتى 25 يناير،و 4 مليارات حاليا . ما الحصاد .. للاسف الواقع والارقام صادمة .. والشاهد العجز المتفاقم فى الميزان التجارى ..بسبب السعى الدءوب وراء المكاسب السريعة ، دون النظر الى التراكم والبناء التكنولوجى والمعرفى فى الصناعة والانتاج وتطويره ورفع تنافسيته للتصدير ، ومن ثم زيادة موارد النقد الاجنبى ، وتحقيق التوازن او حتى تقليص عجز الميزان التجارى .. ارقام الاستثمارات فى السنوات الاخيرة دليل آخر .. فلم نر اعادة استثمار للارباح الضخمة التى حققتها الشركات الكبيرة او حتى – فى اضعف الايمان – وضعها فى صورة ودائع فى البنوك بمصر للاستفادة منها فى تمويل مشروعات التنمية . لو ان القطاع الخاص استفاد من الفرص المواتية لكانت ارقام التصدير فاقت الاستيراد ، مثل كثير من الدول التى بدأت خطتها فى التنمية الاقتصادية مع مصر ، ومنحت القطاع الخاص فرصا ربما ليست بنفس المستوى الذى وجده فى مصر .. ومن هنا فان مراجعة السياسات الاقتصادية اصبح ضروريا ، من اجل توجيه ثروات وموارد البلاد لصالح التنمية المستدامة لخدمة التشغيل الذى يعد احد العناصر الاساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية التى تصدرت مطالب الثورة . ويمكن تفهم قرار البنك المركزى لترشيد الاستيراد الاستهلاكى لصالح تشجيع وتحفيز الصناعة المحلية من اجل التشغيل ، وننتظر اعلانه عن برنامج تنمية المشروعات الصغيرة واستراتيجية التنمية الزراعية الذى قال محافظ البنك المركزى طارق عامر انهما قيد الدراسة وسيلزم البنوك فى مصر بالتوسع فى تمويل هذه المشروعات لانها ليس فقط توفر فرص العمل كثيفة العمالة ، ولكن لانها ايضا تحقق هدفا لا يقل اهمية وهو توسيع القاعدة الانتاجية ودفع معدل النمو لاحلال المنتج المحلى محل المستورد وتقليص عجز ميزان المدفوعات، فلو ان المليارات التى ذهبت لاستيراد المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية تم استثمارها فى الاستصلاح والزراعة ،لحققت اكتفاء ذاتيا بل وزادات من ايرادات التصدير لاسيما من الحاصلات الزراعية والتصنيع الزراعى الذى تتمتع فيهما مصر بمزايا تنافسية عالية ، ولوفرت ملايين فرص العمل بدلا من تسرب ثورة البلاد الى الخارج لخدمة اقتصادات اخرى بدلا من تحقيق الرفاهية لفئات المجتمع .