ونحن صغار فى القرية، كان الأطفال ينشدون ببهجة: خُض القِربَة يا عم حسن طَلِّع زبدة يا عم حسن حين كانت القِربَة أساسية فى كل منازل القرية. وكانت السيدات كل ليلة يضعن لبن الجاموسة فى قربة معلقة على حائط المنزل المبنى من الطوب اللَّبن، ويفصلن بعض اللبن فى طاجن من الفخار. وبعد صلاة الفجر يأخذن «القشدة» من « وِش الطاجن» ويضعنها فى القربة مع اللبن، ثم يفردن «جحش القربة» وهو مكون من ثلاثة عصى جريد مربوطة بحبل ليف من أعلى، تصنع مثلثا قائما، ثم تعلقن «القربة» فى «جحش القربة»، ثم ينفخن القربة ويربطنها جيداً بشريط من القماش، ويمسكن بطرفها ويحركنها للأمام والخلف بحركة منتظمة، ويصدر ارتطام اللبن بجلد القربة من الداخل صوتا يشبه إيقاع الطبول (دوم دوم تك دوم)، وحين يصبح الصوت حادا، يقولون «القربة بترِن»، يقمن بفك الشريط، ويضعن أيديهن فى فتحة القربة للتأكد من تَكَون «الزبدة»، ثم يقمن بتصفية القربة مما بداخلها من اللبن والزبد الذى تكون نتيجة «خضَّ القربة»، ويفصلن الزبد عن اللبن الذى يصبح حامضاً فى إناء، ثم يضعن اللبن الحامض فى كيس من القماش ويراكمن منه كميات متتالية، ليستعملنه فى تجهيز «الكِشك» أثناء شهر رمضان، واللبن المتبقى فى الطاجن بعد فصل القشدة يستعمل فى صناعة الجبن. ولتجهيز الزبد تُسخَّن كمية منها على النار، فيما يعرف بعملية «تسييح السمن»، فأثناء تسخين الزبد تتكون على السطح حبيبات بيضاء تسمى «مِرده»، أو «مُرته»، تؤخذ وتُخزن فى إناء، وتؤكل بالخبز، و«المِرده» هى حبيبات اللبن التى إلتصقت بالزبد أثناء عملية «خضَّ القربة»، وبعد التسخين يتكون «السمن البلدى»، بلونه الأصفر الشفاف، ورائحته المميزة فى الطبخ. وهذه العملية البسيطة، التى توارثتها الأمهات عن الجدات عبر مئات السنين، كانت مرتبطة بالزراعة، وتربية الماشية، ووعى السيدات الريفيات بفكرة الاكتفاء الذاتى فى المنزل الريفي، وكانت الحالة فى عمومها ترمز لوجود الخير فى البيوت، واقترنت فى تراث الصعيد الشعبى بالنساء، وبعض الأغانى تُعدِّد فضل الأمهات وقيمتهن فى إعمار البيوت، وبعضها يسخر من البخل رغم وجود القِربة: يا أم القِريبة .. قِريبتِك فاحت لا عطت محروم ولا باحت يا أم القِريبة .. قِريبتِك رَنَّت لا عطت محروم ولا مَنَّت وارتبط وجود القِربَة فى قرى الصعيد بالإنتاج والوفرة، فالزُبد يستخدم فى طهى الطعام، وأحياناً يباع فى السوق إذا فاض عن حاجة المنزل، ومنها يستخرج الجبن، وهو طعام أساسى فى البيوت، وأيضاً يباع فائضه فى السوق، وكذلك يُصنع الكِشك، طعام الإفطار لدى الجماعة الشعبية فى الصعيد خلال شهر رمضان. صناعة القربة وصناعة القربة نفسها تمر بعدة مراحل، أولها وضع جلد الماعز فى إناء به «جير» لمدة ثلاثة أيام، ثم ينزع عنه الشعر، ويُنظف تماما، وبعد ذلك يُحضر «القَرَض» لمستخرج من شجر السَنط، وهو مُرّْ جداً، ويُطحن ثم يوضع فوق الجلد لمدة يومين لتطهيره من الميكروبات، ثم تقوم السيدات بخياطة الجلد بخيط من البلاستيك القوى، ويربط الجلد من أسفل بحبلين من الليف، ومن الأمام بحبل واحد، ويتم التأكد من عدم وجود فتحات بالنفخ فيه، للتأكد من إحكام الخياطة حتى لا يتسرب اللبن أثناء الخضّْ، ثم يُصنع « جحش القربة » من ثلاثة أعواد من جريد النخل الجاف وتُربط من أعلى بحبل من الليف، وتُعلق أحبال القربة بارتفاع مترين تقريبا. وبعد رحيل جيل السيدات الذى كان يمتلك مهارة صناعة « القِربة »، وبراعة استخدامها فى تصنيع الزبد والسمن، تم إستبدالها بقربة من الألومنيوم تُسمَّى « خَضَّاضَة »، وظهرت أيضا قربة معدنية لها موتور وتعمل بالكهرباء، توفر الجهد والوقت على السيدات، وأصبحت « قربة جلد الماعز » فى ذمة التاريخ، وتراثا غادر البيوت مع أجواء الزراعة ولبن المواشي، وطقس صناعة الخير، الذى كان يؤمن البيت الفلاحى بالاكتفاء الذاتي. وباتت المنازل الحديثة فى القرى خالية من السمن والزبد، ولأنها أصبحت شققا منفصلة، فقد اختفى الحوش الكبير فى باحات الدور الرحبة، وبالضرورة اختفت السيدات المثابرات، المدبرات، اللائى كن يصنعن كل تفاصيل الحياة بأيديهن، واختفى معهن صوت إرتطام اللبن بجلد القربة، وأصبحت الموظفات يشترين حاجاتهن من المحال التجارية مثل أهل المدن، واختفى من الوجود مشهدا ريفيا عاش آلاف السنين.