(1) تكرر ذكر كتب أو مقالات الأستاذة سناء البيسي أكثر من مرة كمصدر في سلسلة صنايعية مصر, و تكررت الرسائل التي تتفنن في الحكي عن قيمتها و رسائل أخري تسأل عن مسيرتها الصحفية و أخري تطالب بالكتابة عنها في صنايعية مصر, و كنت قد كتبت عنها قبل فترة, أعيد اليوم نشر ما كتبته عنها كواحدة من أهم صنايعية المهنة, كنت محظوظا بالعمل معها ومعاينة عبقريتها عن قرب,أعيد النشر لألقي عليها تحية الصباح وفي المقال أيضا رد علي كل الأسئلة التي وصلتني. (2) لم تتعالي يوما علي فكرة الصحافة النسائية بل أعلت من شأنها, و استطاعت عبر تجربة نصف الدنيا إن تحول المجلة النسائية من مجرد أداة تسلية في محلات الكوافيرالحريمي إلي مرجع مهم يحرص الجميع علي اقتنائه, بل إن أرشيف الصحافة العربية التي أنشئت في الخمسة عشر عاما الأخيرة هو أرشيف سناء البيسي الذي صنعته في مجلتها, أرشيف الحوار النادر و الملفات الثقيلة بخلاف أرشيف الصورة التي استطاعت البيسي أن تغير علاقة الصحافة الحديثة في مصر بها من مجرد سنيد للموضوع الصحفي إلي بطل أساسي قادر علي إحداث الفرق في قيمة المنتج الصحفي, أضف إلي ما سبق أن اختصها نجيب محفوظ هي بالذات في نشر أحلام فترة النقاهة و أصداء السيرة الذاتية, وبدأ النشر برسالة صغيرة لها قائلا هيهات أن أبلغ ذروة البلاغة التي تتمتعين بها. استهلكت البيسي في حب المهنة قلبين, عملت معها بعد أن عادت من مستشفيات أمريكا بقلب جديد, سبع سنوات شكلت خلالها طريقة تفكيري و علاقتي بالكتابة, هاتفتني في بيتي عدة مرات أذكرها جيدا, مرة قالت لي الأميرة ديانا ماتت في حادثة بص ألاقيك قدامي في المكتب دلوقتي, ومرة قالت لي فرانسواز ساجان ماتت عايزة ملف عشرين صفحة عنها تكاسلت يوما و في اليوم التالي ذهبت فوجدتها كتبت بنفسها25 صفحة, ومرة اتصلت غاضبة لم تلق السلام وقالت احترم المجلة اللي عملت لك اسم و سلم شغل و سيبك من الكتابة برة ثم أغلقت السكة في وجهي, حقيقة لم أكن أكتب برة وقتها و لكن هاجمتني حالة اعتزال للمهنة لمدة عام و نصف كنت أقضيها في تأمل سقف الغرفة و تلقي إنذارات شئون العاملين, وفي نهاية هذه الفترة أرسلت لي بنفسها علي البيت رسالة بتوقيعها تحمل جملة واحدة فقط بخط كبير الأستاذ عمر طاهر.. حالة ميئوس منها. يوم بلغت سن المعاش الرسمي كنا نخشي أن تترك المجلة, وعندما صدر قرار التجديد لها ونشرته الصحف, دخلنا مكتبها فرحين للغاية فوجدناها عابسة, قالت: منهم لله مصر كلها عرفت اني عديت الستين. (3) حضر الأستاذ مصطفي أمين ليلقي علينا محاضرة لم أفهم معظمها لأنه كان ينفث كلماته بين أنفاس سيجارته التي غرسها بين شفتيه فضاعت مع الدخان. كانت هذه هي أول كلمات كتبتها البيسي في حياتها, كان مصطفي أمين في زيارة لقسم الصحافة بجامعة القاهرة, وعقب انتهاء محاضرته طلب تقريرا خبريا من كل طالب عن الحدث, ووجد عند البيسي في سطورها القليلة ما يبحث عنه, فاصطحبها إلي أخبار اليوم. الطفلة المنطوية الرافضة لخروجات العائلة مفضلة رفقة روايات كتب ديستوفيسكي و تشيكوف, كانت شعلة نشاط في أخبار اليوم, من هناك كانت الانطلاقة, و بعد سنوات من التألق, طلب منها السادات أن تتولي رئاسة مجلة حواء, فكرت قليلا و لم تتحمس للفكرة فرفضت, ثم أرسل لها يطلب منها أن ترأس قسم المراة في جريدة مايو جريدة الحزب الحاكم وقتها, لكنها تهربت أيضا, في المرة الأخيرة يبدو أن السادات قد فقد أعصابه فأصدر أمرا بان تكتب مقالا أسبوعيا في الأهرام, وهناك وبعد فترة أصبحت رئيس قسم المرأة, وكان نجاحها غير مألوف حتي إن رئيس مجلس الإدارة طالبها بإصدار مجلة نسائية تابعة للمؤسسة, ظلت تؤجل الفكرة و تتهرب منها عشر سنوات إلي أن أمهلها شهرا واحدا فقط لإصدار العدد الأول, فكانت نصف الدنيا التي تركتها و توزيعها يتجاوز أحيانا عدة مئات من الآلاف, كان الأستاذ هيكل يقول لها دائما معلقا علي إخلاصها للمهنة يا بنتي أنتي الوحيدة اللي بتشتغلي في مصر. (4) كانت مهمتها الاولي في أخبار اليوم هي رسم المقالات, هي رسامة ماهرة جدا, ولكنها تحولت من رسامة إلي ملهمة للرسام الكبير منير كنعان, تقول: أدمنت الجلوس أمامه ليرسمني, ساعات تمضي في وضع متحجر, أعاني جاهدة فيه ألا يهتز لي طرف أو أرعش عيني أو أطرقع مفاصلي أو أسند فقرات عمودي الفقري المتيبس لظهر المقعد الجهنمي, ويهون التعب كله في لحظات للحوار والوئام والتهافت والتراحم والحب والارتباط ورسائله الخاصة التي يدندن لي بها عندما يستغرقه الرسم: ياللي نويت تشغلني طاوعني وابعد عني.. إن حبيتك يبقي يا ويلك من حبي.. وراح أشغل فكري وبالي عليك وأحبك وأفضل أعيش في هواك لحد ما ييجي يوم وألاقيك آمنت بحبي وجيت برضاك, ثم أصبحت زوجته فتوقفت عن الرسم, لكنها لم تتوقف عن الإلهام. بعد وفاته قالت لم أعد أسكن لوحاته ولكن أصبحت لوحاته هي التي تسكنني. ألهمت البيسي كثيرين من الذين عملوا معها و تخرجوا من تحت يدها و يشكلون الآن قوام المهنة في مصر, علمتنا أن الإنفراد الحقيقي في احترام القاريء, وأن الصحافة تحديدا علي قد ما تديها تديك, وأن الصحفي الناجح يجب أن يكون واعيا بالسياسة والثقافة والرياضة والطب والتاريخ والأدب والشعر وعلم النفس والتصوير والطباعة وأن يعرف شيئا عن كل شيئا, وكانت تؤكد أنه هناك فرق بين الكتاب( بضم الكاف) و الكتبة, الأول قلمه متصل بضميره و الثاني قلمه متصل بالتليفون يملي عليه ما يكتبه وما لا يكتبه. حتي عندما كتبت قصص هو وهي ألهمت كثيرين تحويلها إلي مسلسل تليفزيوني, لكن فاز بهذا الشرف العم صلاح جاهين, وفي أثناء اندماجه في كتابة سيناريو و الحوار إحدي الحلقات اتصل بها علي هاتف منزلها, كانت الثانية صباحا, فقامت لترد منزعجة, كان المتصل جاهين يسألها: باقولك إيه يا سناء لما تحبي تتدلعي علي جوزك بتطلبي منه إيه؟, نظرت إلي ساعتها و تمالكت نفسها قائلة: عادي باطلب منه يجيب لي شيكولاته, فقال لها جاهين: شيكولاته؟ إممم.. طب لو الشيكولاته ساحت ؟, هنا فقدت أعصابها فقالت له: لو الشيكولاته ساحت تبقي راحت مطرح ما راحت يا صلاح, ضحك جاهين فضحكت البيسي فغنت سعاد حسني.