فيما يعد مفاجأة كبيرة من وجهة نظر المراقبين فاز "موريسيو ماكري" رئيس بلدية العاصمة الأرجنتينية بوينس ايريس ورجل الأعمال المعروف ومرشح يمين الوسط برئاسة البلاد منهيا بذلك حقبة استمرت 12 عاما من حكم آل كريشنر، تولت خلالها الرئيسة كريستينا فرنانديز الرئاسة لفترتين وسبقها زوجها الراحل بفترة واحدة، ليحقق بذلك انجازا وصفه بأنه تاريخي لعدة أسباب أولها، أنه ومنذ عام واحد فقط كان المراقبون والمحللون باستثناء قلة قليلة ينظرون له باعتباره لاعبا غير مؤثر علي الساحة السياسية وأن فرصته في الوصول للمنصب ضئيلة، وثانيها أنه استطاع الصمود في الجولة الاولي للانتخابات وأجبر منافسه "دانيال سيكيولي" مرشح اليسار والمدعوم من الرئيسة فرنانديز علي الدخول في جولة اعادة لأول مرة في الانتخابات الرئاسية في الارجنتين منذ عام 1973، حيث حسمت سبعة انتخابات رئاسة منذ تلك الفترة من الجولة الأولي، كما أنه وهذا هو الأهم أول رئيس يأتي من تيار يمين الوسط منذ عودة الأرجنتين الي الديمقراطية عام 1983، ليعد فوزه بالمنصب ليس فقط انتصارا لتوجه سياسي مغاير وانما أيضا انعكاس لرغبة بدت واضحة لدي البعض نحو التغيير واختبار سياسات جديدة مختلفة عن المرحلة التي ارتبطت باسم الرئيسة السابقة وزوجها. وهنا يشير المراقبون إلي أن هذا الفوز الذي تحقق بهامش ضئيل لم يتخط الثلاثة بالمائة سيلقي بمزيد من التحديات والاعباء علي الرئيس، فالي جانب أنه لا يمكن مقارنته بالكاريزما التي تمتعت بها عائلة كريشنر بعد أن ارتبط عهدها باقالة الارجنتين من أزمتها الاقتصادية الحادة أوائل القرن الحالي، فهناك جملة من التحديات السياسية والاقتصادية ستكون بانتظاره. ولعل ذلك هو ما دفعه للقول في خطاب الفوز بضرورة الوحدة ونبذ الخلافات والتركيز علي تحقيق برنامج عمل مشترك يحقق طموحات الجميع خلال الفترة المقبلة. وتتمثل التحديات السياسية في أنه- بالرغم من نجاحه في أن يوحد خلفه العديد من القوي السياسية والشبابية الراغبة في التغير في ائتلاف سمي "كامبيموس" أو "لنغير" وحظي بتأييد رجال الأعمال والنشطاء، فضلا عن أن حملته اكتسبت زخما بفضل الشباب المتحمس الذين استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول لأكبر عدد من الناخبين- فانه سيتعين عليه ليس فقط العمل علي بقاء تحالفه الذي أوصله للمنصب متماسكا ولكن العمل علي كسب تأييد المعارضين، خاصة وأن حزب الرئيسة السابقة مازال يحظي بالاغلبية في البرلمان وهو ما يعني ضرورة الحصول علي دعم وتأييد البرلمان لأي مشروع قانون سيتقدم به. فضلا عن أنه علي مستوي الشارع فهناك أيضا انقسام رصده المراقبون واعترف به ماكري بنفسه، بين طبقة متوسطة تؤيده وتطالب بمزيد من الليبرالية الاقتصادية، وطبقة عمالية تتحسب من أي اصلاحات تأتي علي حساب برامج الرفاهية الاجتماعية التي تتمتع بها أو تمس مكتسباتهم. وهو ما دفعه خلال حملته الانتخابية لمحاولة كسب أصوات هؤلاء بتقديم خطة لتحسين البنية التحتية واطلاق الوعود بتوفير الدعم لبرامج الرفاهية الاجتماعية، ثم تعهده عقب فوزه بالمحافظة علي بعض السياسات التي طبقتها الرئيسة السابقة وفي مقدمتها المزايا الخاصة برعاية الطفولة وذلك في محاولة لطمأنة من لم ينتخبوه. أما التحديات الاقتصادية في دولة تصنف علي أنها ثاني أكبر اقتصاد في أمركا اللاتينية فتبدو أكثر تعقيدا بكثير، فخلال حملته الانتخابية شن ماكري هجوما شديدا علي سياسات الرئيسة كريستينا متهما ادارتها بأنها تعمدت عدم تقديم معلومات واضحة ودقيقة عن الاقتصاد الارجنتيني، ومن ثم كانت أول تعهداته أنه بالاشتراك مع فريقه الرئاسي سيراجعون حقيقة الوضع الاقتصادي للبلاد وسيسلكون مسلك الشفافية ومصارحة الرأي العام بالحقائق كاملة. وهنا يشير المراقبون إلي أن الخلاف مع الادارة السابقة لا يتعلق فقط بالشفافية أو ما شابه، ولكنه خلاف حقيقي يتعلق بمجمل التوجهات الاقتصادية، ويهدف لتقليص تدخل الدولة في الاقتصاد، بدءا من السياسات الحمائية سواء الخاصة بفرض ضرائب علي تصدير الحاصلات الزراعية خاصة الحبوب، رغم أن هذه الضريبة ساهمت في تمويل برامج الرعاية الاجتماعية، أو القيود المفروضة علي حصول المواطنين علي النقد الاجنبي، فضلا عن تطبيق الدولة لسياسة ضبط الاسعار الذي تطبقه علي عشرات السلع الغذائية، وهي اجراءات تعهد ماكري بالغائها أو مراجعتها، معتبرا أن اجراء تغيرات سريعة سيكون أمرا ضروريا لاستعادة ثقة السوق. هذه السياسات الي جانب تزايد معدلات التضخم، والدعم الحكومي للطاقة وقطاع النقل الذي يبلغ 20% من الانفاق، فضلا عن الخلاف الموروث من الادارة السابقة مع الدول الرأسمالية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالامريكية علي ادارة صناديق الديون، ومطالبتهم الارجنتين بتسديد ديون تبلغ قيمتها 1,5 مليار دولار، كلها أعباء تلقي بظلالها علي طموحه الخاص بتطبيق سياساته الاقتصادية. ويبقي أخيرا ملف العلاقات مع محيطه اللاتيني، فرغم انه وعد باستمرار العلاقات الطيبة مع جيرانه، معلنا تلقيه اتصالات هاتفية من العديد من الرؤساء، فان هناك قدرا من التشكك في أن تستمر العلاقات مع جيرانه علي وتيرتها، خاصة أن معظمهم لديه ميول يسارية واضحة، وفي مقدمة الملفات المرشحة لذلك العلاقات مع فنزويلا، التي اعتبرت من أقرب الحلفاء للأرجنتين خلال حكم الرئيسة السابقة، بل أن كريستينا كانت من أقرب أصدقاء الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورا"، وذلك بعد وعد أكثر من مرة بالنضال من أجل الافراج عن بعض رموز المعارضة والنشطاء في فنزويلا، وهو ما يؤشر لاحتمال حدوث خلافات مع حكومة مادورا ومن ثم لتغيرات في خريطة التحالفات في المنطقة. وفي كل الاحوال تبقي الأيام المقبلة هي الحكم علي ما إذا كان شعار "التغيير" الذي رفعه ماكري خلال الحملة الانتخابية وكرره في خطاب الفوز سيطبق كما وعد بذلك، أم أن تعقيدات الوضع الداخلي ستجعل منه مجرد شعار براق يصعب تطبيقه علي أرض الواقع.؟