لعل أعظم مآثر الإسلام, وربما سر عبقريته, هو خلوه من سلطة الكهنوت التي تحتكر فهم الدين, وتدافع عن عقيدة تصوغ هي قواعدها, وتضطلع برعايتها, باعتبارها وكيلة للإله علي الأرض. وفضلا عن ذلك لا توجد في الإسلام وساطة بين الله والإنسان, لأن رجل الدين في الإسلام لا يعدو أن يكون فقيها, له فقط حق التعليم أو التفسير وليس الرقابة علي الإيمان, ولأن القرآن الكريم كتاب يقرأه الجميع ولا احتكار لقراءته أو تأويله بشرط وحيد' موضوعي' وهو العلم بأساليب البيان, وليس بشرط انتقائي/ تفضيلي أو' تحكمي' هو الانتماء للسلك الكهنوتي. غير أن المذهبية الشيعية التي انفجرت في التاريخ الإسلامي الباكر قد نحت إلي بناء ما يشبه سلطة معرفية وأخلاقية, اتخذت صورة إمام معصوم تمثل أولا في علي بن ابي طالب رضي الله عنه, قبل أن تتحول تلك المذهبية إلي طقس ذي طابع أسطوري بفعل استشهاد الحسين رضي الله عنه علي يد يزيد بن معاوية, ثم إلي نزعة مهدوية كاملة تبلورت في صيغتها النهائية بعد وفاة الإمام الحادي عشر' الحسن العسكري' عام 874 م, حول الإمام الغائب (محمد أبا القاسم), والمفترض أن يحمل الرقم الاثني عشر في سلسلة الأئمة, والمفترض له كذلك أن يعود في نهاية الزمان كي يخلص الناس من المظالم ويملأ الأرض بالعدل. وبعد قرون عديدة, رأي علماء الشيعة خلالها أن كل الحكومات غير شرعية في ظل غياب الإمام, ولكن من دون تفكير في حكم العلماء للدولة, أخذوا يدعون إلي الأخذ بمقاليد الحكم لضمان حاكمية الله. ورغم أن العالم/ الفقيه لن يكون علي نفس مستوي الرسول والأئمة, فإن معرفته بالقانون الإلهي تعني أن باستطاعته أن يمتلك نفس سلطتهم, وأن يرأس مجلسا يشرف علي تطبيق الشريعة في كل مناحي الحياة اليومية بدلا من وجود مجلس نيابي يأتي بتشريعاته البشرية الوضعية. وفي كتابه' الحكومة الإسلامية' المنشور عام 1971 م, تمكن الخميني من تطوير المفهوم الذي صار أثيرا عن (ولاية الفقيه), والذي كان بمثابة تطور ثوري لأيديولوجيا شيعية جديدة (سياسية) تطالب صراحة بمنح الحكم للفقيه باعتباره الأقدر علي امتلاك الحقيقتين الروحية والسياسية, وعلي تحقيق العدالة المهزومة منذ استشهاد الحسين علي أيدي يزيد. عند صدور الكتاب, الذي قدم بديلا إيديولوجيا كاملا لحكم الشاه, كان الرجل قد غادر الحوزة العلمية في قم منفيا إلي النجف بالعراق, وبعد صدوره انتقل إلي باريس مواصلا نضاله ضد نظام الشاه (العلماني الملحد الموالي للشيطان الأكبر) علي نحو حفز الثورة الإيرانية, حتي بلغت ذروتها بعودة الخميني من منفاه إلي إيران علي أعناق الجماهير التي رفعته إلي موقع الولي الفقيه, نائب الإمام الغائب علي الأرض, فصار آية الله العظمي, مالك الحقيقتين الروحية (الباطنية) والسياسية( العملية).. اليوم, وفي المقابل من الشيعية السياسية, تثير ظاهرة حازم أبو اسماعيل في المشهد المصري الراهن مخاطر ما يمكن تسميته ب( السلفية الثورية), حيث يذكرنا مشهد السلفيين الملتفين حوله بمشهد الشيعة حول الخميني, بينما يسعي الرجل إلي تقمص دور( المناضل), الذي يحط علي أرض مصر الثائرة. غير أن المشابهة لا تزيد في الحقيقة علي هذا المشهد, وما عدا ذلك إنما يكشف عن فوارق عميقة, فالخميني كان ربيبا لنزعة مهدوية متجذرة في تاريخ إيران الشيعي تبرر له هذا الانتقال, بينما الشيخ حازم لا يرتكز علي مثل تلك النزعة التي لا يعرفها لا الفقه ولا التاريخ السني العام. كما أن الخميني كان مجتهدا كبيرا أصدر كتابا انعطافيا في تاريخ الفقه والسياسة معا, فيما لم يعرف للشيخ حازم مثل هذا الاجتهاد. كما كان الخميني مناضلا كبيرا تحدي الشاه وهو في عز سلطانه, ما أدي لنفيه مرتين ولنحو العقد من الزمان في النجف ثم باريس, بينما لم يعرف للشيخ ابو اسماعيل عشر معشار هذا النضال, ولا غادر مصر حتي يعود محلقا إليها. ناهيك عن أن الخميني لم تكن له أم أو أخت تذوبان عشقا في بلد الشيطان الأكبر, ولم يكن كاذبا مجترءا علي قانون البلد الذي كان يحلم برئاسته, لأجل نزوة شخصية بالغة الدنيوية وإن تحت ستار الدعوة الدينية! المزيد من مقالات صلاح سالم