"إن عَلَى "قُم" مَلَكا يرفرف عليها بجناحيه، لا يريدها جبار بسوء إلا أذابه الله كذَوْب الملح في الماء". (قول ينسبه الشيعة للإمام جعفر الصادق رضي الله عنه) المرة الأولى التي قرأت فيها اسم مدينة "قُم" الإيرانية كانت منذ سنوات عندما وقع في يدي كتاب "بروتوكولات آيات قُم" الذي يتحدّث عما أسماه المؤلّف "المؤامرة الشيعية على العالم".. بعد ذلك بسنوات أتيحت لي معرفة المزيد عن تلك المدينة المقدّسة عند الشيعة، خلال قراءتي عن الثورة الإيرانية ونظام ولاية الفقيه. "قم" واحدة من أربع مدن شيعية مقدسة سنة 21ه فتح الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري مدينة "قُم" الفارسية، وفي العصر الأموي كثر عدد سكانها من العرب، خاصة المتمرّدين على الحكم الأموي. خلال عودة السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق -الملقّبة ب"المعصومة"- من سفرها، مرضت وتوفّيت بالمدينة، فبنى لها الشيعة ضريحا يُعتبر من أبرز معالم "قُم"، وبدأت المدينة تكتسب أهمية دينية لدى الشيعة، وخلال عصر حكم أسرة الصفويين لإيران برزت أهمية المدينة كمركز لعلماء الشيعة الذين حرصوا على أن يكون لهم تجمّع مستقلّ، وهي الآن واحدة من أربع مدن شيعية مقدسة هي "النجف" و"مشهد" و"كربلاء" و"قُم". عاصمة إيران الدينية مكانة "قُم" عند الشيعة يمكننا تشبيهها بمكانة الفاتيكان عند المسيحيين الكاثوليك، فهي العاصمة الدينية لإيران، ومركز الدراسات والأبحاث الفقهية الشيعية، ومكان التجمّع المفضّل لمؤتمرات رجال الدين الشيعة، وموقع مسجد "فاطمة المعصومة" الذي هو أحد أهم مدرستين علميتين للمذهب الشيعي، والمدرسة الأخرى هي جامع "علي" بالنجف، وثمة مزيج من التنافس والتعاون بين المدرستين. والدارس بمدرسة مسجد "فاطمة" يتدرج في ستّ مراتب، الأولى من التحاقه حتى تخرّجه هي "طالب علم"، ثم بعد التخرّج يتم تصنيفه ك"مجتهد"، بعدها يترقّى إلى "مبلّغ الرسالة" ثم "حجة الإسلام"، وهي المرحلة التي يمكنه عندها أن يؤسس "حوزة" (أي حلقة للعلم يدرس فيها لطلابه)، والدرجة التالية هي "آية الله"، وهي التمهيد للوصول إلى أعلى رتبة، وهي "آية الله العظمى"، ولكن بشرطين، أولهما أن يكون هناك مكان شاغر، حيث لا يمكن أن يزيد عدد آيات الله العظمى عن خمسة، والآخر أن يوافق كل أصحاب تلك الرتبة على ضمه إليها بعد تقديمه بحثا دينيا ذا قيمة كبيرة. ووفقا للدستور الإيراني يكون "آية الله العظمى" محصّنا من القبض عليه والملاحقة، ومن هذه الرتبة يتم اختيار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وهو الذي يحلّ محلّ الإمام الثاني عشر الغائب، حتى يعود من غيبته، حسب المذهب الشيعي.
على الزائر أن يقف عند رأس قبر "فاطمة المعصومة" مستقبلا القبلة منها قامت ثورة الخميني عندما قرّر علماء الشيعة -خلال العهد الصفوي- أن تكون لهم مدينتهم الخاصة، وافقت رغبتهم رغبة المؤسسة الحاكمة أن تفصل مكانيا بين القيادتين الدينية والمدنية، وبهذا كان ثمة فصل -نسبي- بين الدين والسياسة، ولكن الإمام الخميني أنهى ذلك الفصل بثورته على الشاه، فقد أعلن موقفه المعارض من مقرّه بمدينة "قُم"، كما قام بإعلان إنهاء العمل ب"التقية" (وهي تخفّي الشيعة بمذهبهم عمن سواهم)، وحماية له قام آيات الله العظمى بترقيته لرتبة "آية الله العظمى" كي يحموه من الاعتقال. وبعد نجاح الثورة، ودمج القيادتين الدينية والسياسية عملا بمبدأ "ولاية الفقيه" أصبحت "قُم" مركزا للقيادة العليا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فصحيح أن طهران هي العاصمة الرسمية للدولة، ولكن كما أن للفقيه المرتبة الأعلى عن رئيس الجمهورية، فإن الوضع هو ذاته بين العاصمتين الدينية والمدنية. "قُم عِشّ آل محمد ومأوى شيعتهم" ولأن الشيعة يحرصون على ربط كل مواقفهم بنصوص دينية، فقد كثرت الأقوال المرتبطة بالمدينة المقدسة، ومنها: - "قُم عِشّ آل محمد ومأوى شيعتهم" (منسوب للإمام موسى الكاظم). - "إن لنا حرما وهو بلدة "قم"، وستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة" (منسوب للإمام جعفر الصادق). - "إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم ب"قم" وحواليها ونواحيها، فإن البلاء مرفوع عنها" (منسوب للإمام الرضا). ولزيارة ضريح "فاطمة المعصومة" بالمدينة عند الشيعة آداب وطقوس، فمما نُسِبَ للإمام الرضا قوله: "من زارها عارفا بحقها فله الجنة"، وعلى الزائر أن يقف عند رأس قبرها مستقبلا القبلة مكبّرا أربعا وثلاثين تكبيرة، ومسبّحا ثلاثا وثلاثين تسبيحة، وأن يحمد الله ثلاثا وثلاثين مرة، ثم يقرأ دعاءً طويلا فيه الصلاة على الأنبياء وآل البيت النبوي الشريف، ثم يدعو: "السلام عليك يا صدّيق الأمة، السلام عليك يا خليفة رسول الله، أسأل الله لك الرحمة، أشهد أنك المستحقّ للخلافة بعد رسول الله، وأشهد أنك أدّيت الأمانة، ونصحت الأمة وجاهدت في سبيل ربك، حشرني الله معك في زمرة نبيه". المعاهد والمدارس والمدينة تزدحم بحوالي ستين منشأة تهتمّ بالعلوم الدينية وأبحاث الشريعة والدعوة والتبليغ، منها المدرسة "الفيضية"، وهي مركز الحوزة العلمية، والجامعة "المعصومية"، وهي من المنشآت الشيعية الحديثة، والمدرسة "الحجتية" المخصصة للطلبة غير الإيرانيين، وجامعة "الزهراء" الخاصة بالنساء، وجامعة "الصندوق" التي تُعتبر أكبر مدينة جامعية حديثة. وإن كانت أصبهان العاصمة التاريخية لإيران، وطهران العاصمة الحديثة، فتبقى "قُم" عاصمتها الدينية، وقلعة المذهب الشيعي، ومركز بثّه لأنحاء العالم، والمصدر الرئيسي لتوجيهات أصحاب القرار.. لهذه الأسباب استحقّت مكانتها عند الإيرانيين والشيعة بشكل عام، ولهذا أيضا استحقّت منا هذه النظرة السريعة.