عقيدة ولاية الفقيه بعض الدول تقوم بتبني عقيدة لها ترتبط بقيامها ووجودها، كتبنّي روسيا المبادئ الشيوعية خلال الحقبة السوفيتية، أو كتبنّي الجمهورية الفرنسية مبادئ "الإخاء - المساواة - الحرية"، والبعض الآخر يقوم من الأساس على عقيدة مبنية مسبقًا، كالدولة الإسلامية الأولى، أو دولة إسرائيل، أو "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، وعن هذه الأخيرة نتحدّث. نوع "الدول القائمة على العقيدة" -الذي تنتمي إليه إيران- يختلف عن نوع "الدولة المتبنية لعقيدة" في أن تلك الأخيرة إذا ما تخلّت عن عقيدتها فإنها -غالبًا- لن تسقط كدولة، وإنما سيتغير نظامها الحاكم، بينما النوع الأول ترتبط عقيدته بوجوده، فهو ينهار مع انهيارها. وإيران الجمهورية الإسلامية رغم أنها تشغل نفس حدود إيران الشاهانية (حكم الشاه)؛ فإن سقوط نظامها العقائدي الحالي، وإن لم يترتب عليه تغيير في شكل حدودها إلا أنه سيكون نهاية لإيران التي نعرفها، وبداية لإيران جديدة تمامًا لا تتفق مع سابقتها إلا في الاسم والشكل الجغرافي.. وحتى هذان غير مضمونين! دولة الشيعة رغم أن الشيعة قد أقاموا لأنفسهم دولاً من قبل، كدولة الفاطميين في المغرب العربي ثم في مصر، ودولتي بني بويه وآل حمدان في ظل السيادة الاسمية للخلافة العباسية، فإن إيران تختلف؛ فهي أول دولة شيعية مستقرة الوجود تُعلن بشكل صريح انتهاء تشتّت الشيعة وتخفّيهم والتزامهم مبدأ "التقية" -أي إخفاء الاتجاه المذهبي- وهي كذلك الدولة الشيعية الأولى التي تقيم بشكل رسمي صارم نظام "ولاية الفقيه". بمعنى أوضح يَعتبر النظام الإيراني الحالي أن دولته هي الميناء الأخير ل"التغريبة" الشيعية ل"المضطهدين" منذ استشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في مذبحة كربلاء، وأن هذه هي المرحلة الأخيرة من رحلة انتظار الإمام الغائب الذي سيعود لينصر المستَضعَفين، ويقيم دولته العادلة في الأرض. ولاية الفقيه يعتقد الشيعة في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل له وصيًا -أي خليفة حاملاً لأسباب العلاقة بالسماء- هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم انتقلت الإمامة من علي لابنه الحسن، ومن الحسن للحسين، ثم من الحسين لابنه علي زين العابدين الذي أورثها ابنه محمد الباقر، ومنها لابنه جعفر الصادق، وهكذا حتى اثني عشر إمامًا، آخرهم هو المختفي المنتظَرة عودته. ومنذ اختفاء الإمام الثاني عشر سنة 256ه/ 870م (الغيبة الصُغرى) وبعد ذلك وفاة آخر وكلائه سنة 329ه/ 941م (بداية الغيبة الكبرى الممتدة إلى عودة الإمام) عاش الشيعة في مشكلة عدم وجود إمامة عليا لهم، حتى قامت في إيران دولة الصفويين سنة 1501، وأعلنت المذهب الشيعي مذهبًا رسميًا لها، فيما يوصف بأنه "القيامة الصغرى" للشيعة، وعادت لرجال الدين مكانتهم التي أخذت في التزايد عبر عهود الأسرات الحاكمة المختلفة؛ بسبب مكانتهم الدينية العظيمة لدى العامة، وما ترتّب على ذلك من ثقلهم السياسي، حتى كانت النتيجة الطبيعية في ظهور الإمام الخميني كقائد لثورة الإيرانيين على نظام الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1979، وقيام الدولة الإيرانية القائمة على ولاية الفقيه، وهو ما يوصف بأنه "القيامة الكبرى". وتقوم فكرة ولاية الفقيه على أن مصدر الشريعة هو الله تعالى ووحيه، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم خلفاؤه (الأئمة الاثنا عشر)، ثم من ينوب عنهم من وكلائهم، ثم الفقيه، وهو حاليًا "آية الله العظمى" الذي تكون ولايته المطلقة على المؤمنين ولاية "الحاجر على القاصر" أو "الوصي على الضعيف"، فهي ولاية لا يصحّ إيمان المؤمن إلا بها. وتعبّر عنها بدقة مقولة الإمام الخميني أن الفقيه العالم العادل إذا ما قام بتشكيل الحكومة فإن سلطته على المؤمنين تكون حدودها نفس حدود سلطة الرسول عليه الصلاة والسلام في حال وجوده بينهم. إيران وما وراء حدود الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه وفقًا لهذا الفكر لا تقف عند حدود سياسية، بل تتخطى كل الحدود وتعلو كل النظم، فولاية الفقيه هنا ليست مجرد ولاية رجل مسلم على أمور رعيته، بل هي بمثابة تجسيد للولاية الكبرى، ووجود لسلطة تعادل سلطة الرسول نفسه الذي لا يحدّ نطاق مكاني من سلطته على المؤمنين، مما يعني أن الإمام الأكبر بإيران "آية الله العظمى" يعتبر نفسه قائدًا للمسلمين في العالم أجمع، في وضع أشبه بوضع بابا الفاتيكان بالنسبة للكاثوليك، ومن يتصدى لسلطة الإمام يكون خارجًا على الإسلام، تمامًا كمن يتصدى لله ورسوله. ولهذا فإن أجندة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم في قسم كبير منها على نشر الولاء للفقيه الشيعي الأكبر، ولأن المذهب الشيعي قائم على الاجتذاب، فإن من مهام قيادات الدولة الإيرانية -وعلى رأسهم الرئيس- التعهد بنشر المذهب الشيعي وحمايته قدر المستطاع. هذا الفكر من أهم أسباب حالة التوتر في العلاقات بين العرب وإيران، فمن الطبيعي أن تنفر الأنظمة والحكومات من مجرد فكرة وجود ولاء من بعض أفراد الشعب لجهة خارجية، وأن تتوجس الدول من فكرة نشر المذهب الشيعي، خاصة بالنسبة للدول المتمسّكة -ولو ظاهريًا-بصورة الدولة السنّية السلفية، كالسعودية مثلاً. الدم الشيعي الساخن التراكم التاريخي للاضطهادات والمذابح عند الشيعة، وكذلك فكرة "دماء الشهداء" القائمة على استشهاد الحسين رضي الله عنه في كربلاء، واستشهاد الكثير من آل بيت النبي عبر عصور الاضطهاد لهم من الأمويين والعباسيين، خلقت في الوجدان الشيعي نوعًا من "سخونة الدماء" والسعي الداخلي للصدام، باعتبار أن الشيعة كانوا قديمًا مستضعفين، ثم نصرهم الله، وجعل لهم دولة، وانتهت فترة "التقية"، وآن الأوان للقتال من أجل العقيدة. تلك الطبيعة -إضافة لفكرة قرب عودة الإمام المُنتَظَر- ربما تفسر نزوع الإيرانيين لتحدي القوى الدولية، وأخذ المواقف الحماسية الصلبة، حتى أن ثمة فكرة -تبدو مبالَغا فيها- انتشرت بين البعض، تقول بأن إيران تسعى لإيصال العالم لنقطة الانفجار في حرب طاحنة تدمّره؛ لأن الإمام المنتظر لن يعود إلا بعد دمار العالم! الخلاصة ما سبق ليس سوى نبذة بسيطة عن العقيدة المؤسِّسة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، أما من يرغب في الاستفاضة فيها فعليه أولاً قراءة تاريخ نشأة المذهب الشيعي، ومحتويات هذا المذهب وفِرَقه، وقراءة التاريخ الإيراني منذ قيام الدولة الصفوية وحتى يومنا هذا، وهو أمر عسير مرهق، ولكنه ضروري لفهم مكوّنات فكر تلك الدولة التي يمكن أن يكرهها البعض، ويحبها البعض، ويرهَبها البعض الآخر، ولكن لا أحد يمكنه تجاهلها كدولة مستفزّة للعقل ومثيرة للتساؤلات!