ضعف إقبال قطاعات عريضة من المصريين، بمختلف فئاتهم، باستثناء النساء وكبار السن، على التصويت فى انتخابات المرحلة الأولى لمجلس النواب، مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية والاستفتاءات الدستورية فى مرحلة ما بعد الحراك الثورى فى عام 2011، على نحو يثير تساؤلا جوهريا بشأن «المتغيرات الوسيطة» التى دفعت نفس الشرائح للعزوف عن المشاركة وعدم الاستجابة لدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى بالنزول للتصويت، وتحديدا من جانب الشباب المسيس، بالنزول وعدم إهدار قيمة الصوت فى الاستحقاق الثالث من خارطة الطريق الذى تأخر كثيرا عن موعده. ووفقا لما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات، على لسان رئيسها المستشار أيمن عباس، فى مساء الأربعاء الماضي، فقد أدلى 7 ملايين و270 ألفا و594 ناخبا بأصواتهم فى المرحلة الأولى من الانتخابات بحيث بلغت نسبة المشاركة 26.56%، وبلغت عدد الأصوات الصحيحة 6 ملايين و584 ألفا و128 صوتا، بنسبة 90.46%، وعدد الأصوات الباطلة 694 ألفا و466 ناخبا بنسبة 9.54%، وجاءت محافظة الوادى الجديد أعلى المحافظات فى نسب التصويت حيث بلغت 37%، والجيزة أقل المحافظات بنسبة 21%. وتعد هذه النسبة أقل من مثيلتها فى المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب 2011-2012، والتى بلغت 62% وفقا للجنة العليا للانتخابات. ثمة تفسيرات عدة، تحمل أوزانا نسبية مختلفة وربما متناقضة، وفقا لرؤية كل كتلة تصويتية، بشأن تراجع معدلات التصويت الانتخابى فى المرحلة الأولى، ومن المتوقع أن تستمر فى جولة الإعادة، ولا تتغير هيكليا فى المرحلة الثانية، على النحو التالي: (u) انتفاء الشعور بالخطر السياسى الحاد المهدد لبقاء الدولة المصرية، إذ تزامن إجراء هذه الانتخابات مع قدرة مؤسسات الدولة على البقاء فى مواجهة التحديات التى كانت تحدق بالبلاد، وخاصة خلال حكم الإخوان المسلمين، ونجاح نظام ما بعد 3 يوليو 2013 على تنفيذ اثنين من استحقاقات خارطة الطريق التى توافقت عليها القوى السياسية المختلفة، فضلا عن قدرة قوات الجيش والشرطة على مواجهة خطر الإرهاب العابر للحدود، سواء فى المركز أو الأطراف، لاسيما فى ظل سياق إقليمى يشهد انهيارا لدول مركزية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن وصعودا للفواعل المسلحة العنيفة والجماعات الإرهابية، فى حين أن مصر لا تتجه نحو التفكك أو الانهيار. بعبارة أخرى، تزيد معدلات المشاركة لدى الرأى العام فى مصر مع الشعور بالخطر وتتراجع مع الاطمئنان والاستقرار. (u) غياب المنافسة الحادة بين الأطراف المشاركة، إذ تتسم هذه الانتخابات بغياب الاستقطاب السياسي، الذى كان قائما بين الحزب الوطنى والإخوان المسلمين خلال حكم مبارك، وبين القوى المدنية والتيارات الإسلامية خلال حكم المجلس العسكري، وإنما المنافسة الحالية بين أفراد وأحزاب وقوائم، لا يستطيع أى منها تشكيل أغلبية داخل المجلس النيابي، وهو ما تشير إليه بوضوح النتائج الأولية للمرحلة الحالية. وفى هذا السياق، يرى قطاع من الرأى العام أن صوته ليس فارقا فى اتجاهات التصويت. وقد ساعد على حدوث ذلك أيضا التحولات الحادثة فى خريطة التحالفات داخل التيار السياسى الواحد، على نحو ما تشير إليه حالة التيار السلفي، الذى شهد خلافا حادا بين القيادات الدينية والسياسية فيما يخص المشاركة الانتخابية، مما أثر على فرصه الانتخابية حتى فى قواعده الرئيسية. الإضراب السياسي (u) تبنى الإضراب عن المشاركة فى المجال العام. وفقا لنظرية النفاذية، فإن الإضراب الذى ينتهجه العمال للتوقف عن العمل والإنتاج ورجال الأعمال عن التجارة والاستثمار والمهنيين عن الترشيح والانتخاب (حالة نقابة الأطباء مثلا)، سوف يقود المواطنين تباعا للإضراب السياسى و«الاحتجاج الصامت»، كما يشير المفكر المصرى د.عبدالمنعم سعيد، بالإمتناع عن المشاركة فى التصويت بالانتخابات، بما يجعلها أقرب لشبكة مجتمعية تتكاثر فيها خصائص الانسحاب من تفاعلات المجال العام، الذى شهد عودة للسياسة من أسفل بعد ثورة يناير. وفى مرحلة لاحقة، وتحديدا منذ ثورة 30 يونيو ومرورا بتفكيك التحالف الرابط بين مؤيدى 30 يونيو على خلفية فض اعتصامى رابعة والنهضة وإصدار قانون التظاهر وصولا إلى انتخابات الرئاسة فى منتصف 2014، فضل قطاع من ما يطلق عليه «حزب الكنبة» الانسحاب الطوعى من مساحات العمل السياسى لاعتبارات تتعلق بالإجهاد الانتخابي، وهو ما عبر عنه الفنان عادل إمام أثناء إدلائه بصوته فى دائرته بالدقى «إحنا بننتخب كل كام يوم». لوغاريتمات الانتخابات (u) هندسة معقدة للنظام الانتخابي، إذ إن القانون الخاص بتقسيم الدوائر الانتخابية يمثل أحد العوامل المعرقلة للتصويت فى الانتخابات، وخاصة فيما يتعلق بعدد المقاعد المخصصة لكل من المقاعد الفردية فى كل دائرة انتخابية، والتى تتغير من حالة لأخرى، بخلاف الجهل الانتخابى بغالبية المرشحين الجدد، وخاصة فى مرشحى القوائم، خاصة بعد الاتساع الجغرافى للدوائر. ووفقا لآخر استطلاع أجراه قام به المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» فى بداية أكتوبر الحالى فإن 40 فى المئة من الناخبين المستطلع أراؤهم لا يعرفون المرشحين من المقاعد الفردية، وأن 84% منهم لا يعرفون مرشحيهم فى القوائم. فضلا عن غياب المعرفة بمحتوى الاختيار بين المرشح «س» والمرشح «ص»، وضعف التواصل بين الناخب والمرشح، لاسيما مع الضعف الشديد للفترة الزمنية المخصصة للدعاية الانتخابية. وهنا، تحولت الانتخابات إلى لوغاريتمات، يتعين فك شفرتها، بل من الأفضل تجنبها. (u) غياب الشخصيات الكاريزمية المرشحة فى الانتخابات الحالية، فباستثناء مرشحين يعدون على أصابع اليدين فى دوائر قليلة فى المرحلة الأولى، لم يكن هناك أسماء تعد «صناعة ثقيلة»، سياسيا أو قانونيا أو إعلاميا أو اجتماعيا، بل أن ثمة حالة جهل بالفروق بين البدائل (المرشحين) المطروحين فى انتخابات 2015، بما يحد من القدرة على المفاضلة، وهى نظرية شهيرة فى علم الاقتصاد، نظرا لأن الفوارق فى الدرجة وليس فى النوع، الأمر الذى دفع بعض الصحفيين إلى تشبيه المشهد الانتخابى الحالى ب «مباراة كرة قدم بلا نادى الأهلى والزمالك».. فلم يكن هناك مرشحون بوزن وقيمة نوال عامر فى السيدة زينب وفايدة كامل فى الخليفة وسيد جلال فى باب الشعرية وفخرى عبدالنور فى الوايلى وكمال الشاذلى فى الباجور وغيرهم من النواب ذائعى الصيت. انتهازية النواب (u) عدم ثقة الناخبين بقطاع من المرشحين (الذين أصبحوا نوابا فى المجالس السابقة)، لاسيما فى ظل صورة انطباعية فى ذهن الناخب عن النائب بالانتهازية وإطلاق الوعود غير المنطقية، إذ بمجرد أن يتم انتخابه يقل مستوى اهتمامه بالتواصل مع الناخبين، ويظل نهمه الأساسى الأساسى الاستفادة من منصبه لتحقيق أهداف ذاتية، الأمر الذى يدفع الناخبين إلى عدم الرغبة فى المعرفة بالمرشحين والتعامل معهم ثم المفاضلة بينهم، لأن المسألة لا تتعلق بطبيعة المدخلات وإنما تخص جوهر المخرجات، وهو ناخب خائن لوعوده فى أغلب الأحيان، وفقا لقناعات حاكمة لتفكير قطاعات من المواطنين، وخاصة الأغلبية الصامتة التى تعتبر نفسها ليست طرفا فى التفاعلات السياسية الجارية، وتركز على شئونها الحياتية الخاصة، لاسيما فى ظل ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه وتزايد قيمة الدولار والتخوف من مصير أموال التأمينات والمعاشات وغيرها. عودة الماضي (u) استنساخ أوضاع ما قبل ثورة يناير 2011، إذ أن قطاعا من المرشحين فى انتخابات 2015 كانوا أعضاء فى دورات نيابية متتالية، وينتمى أغلبهم للحزب الوطنى الديمقراطى فى أمانات المحافظات المختلفة، وخاصة من أبناء العائلات والقبائل، فى الريف أو الصعيد، وهو ما كان يود الناخب أن يحاربه، لاسيما الاحتكار العائلى والقبائلى للمناصب. وفى هذا السياق، برز ملمح جديد وهو التمثيل القبائلى بأكثر من مرشح مما سبب إحراجا لبقية أفراد القبيلة فى الانحياز لمرشح بعينه على حساب المرشح الآخر. فضلا عن الممارسات الخاصة بالمال السياسى كمحدد لنجاح بعض المرشحين. وهنا، كان توجه الناخب محددا وهو أن المشاركة تعنى «تكرار الماضي». وقد أطلق د.مأمون فندى على هذه الظاهرة «البناء على الأنقاض خطر». (u) تراجع أدوار الشبكات الاجتماعية (وخاصة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين) الدافعة للمشاركة التصويتية، والتى تجعل للناخبين مصلحة محددة فى إنجاح أو إسقاط مرشح بعينه. فالإخوان المسلمون كانوا القوة السياسية المنظمة التى تستند لرأسمال اجتماعى كثيف، ناتج عن العامل الدينى أو المحفز المالى أو الرابط التنظيمي، بما يسمح لها بالحشد والتعبئة فى لحظات الاختبار الانتخابي. ومع غياب قيادتها وكوادرها، سواء بالسجن أو الهرب خارج البلاد، وكمون المتعاطفين معها والغياب عن المشهد الانتخابى تراجعت معدلات المشاركة بدرجة ما، لاسيما فى ظل دفع بعضهم لقطاع من المواطنين للمقاطعة للإيحاء بأن ثمة علاقة ارتباطية بين غياب الإخوان وضعف المشاركة، وأنها يمكنها العودة للمشهد الانتخابى فى لحظة ما، فهى تمرض ولكنها لا تموت، وفقا لما شهدته من محن مختلفة. (u) التخوفات من علاقة البرلمان بمؤسسة الرئاسة، إذ إن بعض وسائل الإعلام نجحت فى تسويق رسالة مفادها أن دستور (2014) أدى إلى تقليص صلاحيات الرئيس فى مقابل ازدياد صلاحيات البرلمان، على نحو يعطى انطباعا بأن ثمة صراعا قد يكون محتملا بل ووشيكا بين الرئيس والبرلمان، بحيث يقود مجلس النواب البلاد إلى العودة للوراء لاسيما مع امتلاكه صلاحيات تشكيل الحكومة ومراجعة القوانين التى أصدرها الرئيس خلال الفترة الماضية. كما يملك سلطة محاسبة الرئيس وعزل الحكومة والوزراء.. غير أن هناك اتجاها آخر عكسيا يرى أن هذا المجلس قد يكون خاضعا لإرادة الرئيس، لاسيما أن بعض منسقى أحد القوائم صرحوا بأن أولى المهام التى سوف يقومون بها هى تغيير مواد الدستور التى قلصت صلاحيات رئيس الجمهورية، مما يدل على أن البرلمان المقبل سيكون معبرا عن السلطة وليس عن المجتمع. فجوة الموارد (u) الفجوة بين ثورة التوقعات وواقع الإحباطات، وهو ما ينطبق على شريحة من المواطنين، ويقع فى القلب منها «الشباب المسيس». وتتمثل أهمية هذه الشريحة فى كونها مؤثرة فى محيطها السياسى والاجتماعي، بما جعل غيابها مؤثرا بشكل أو بآخر، لاسيما فى ظل الاتهامات التى تتعرض لها بالعمالة والخيانة، من قبل بعض وسائل الإعلام، فضلا عن مقاطعة الشباب المحبط من أوضاع اقتصادية واجتماعية ضاغطة عليه، وهو ما يريد أن يرسل إشارات لنظام الحكم فى مصر بأن ضعف المشاركة فى الاستحقاق النيابى يعد مؤشرا لتآكل الرئيس السيسى قدرا من رصيده الشعبي، لاسيما أن الاستحقاقات السبعة السابقة لم تؤد إلى ما كانوا يتوقعونه، رغم النزول والتفويض والتأييد والاستفتاء و«الاستبشار»، ورغم وجود قدر من الاستجابات لكنها لم تتواز مع حجم التطلعات المجتمعية فى ظل ضعف الموارد الاقتصادية. خلاصة القول أن هذه تفسيرات محتملة للضعف الانتخابى القائم فى المرحلة الأولى، والذى لا يمكن تداركه كليا فى المرحلة الثانية، وإنما تحتاج إلى دراسات عميقة لكيفية الخروج الانتخابي Voters Turnout عبر تحفيز قطاعات مجتمعية واسعة للمشاركة المستمرة لأنه يمكن استعادتها مرة أخرى لاسيما وأنها مهمومة بأحوال وطن يعاد بناؤه من جديد بآليات جديدة وبشخوص مختلفة، دون الاضطرار للحشد الإعلامى «غير المبرر»، لأن الاختيار العقلانى سيكون بمفرده الحافز للتصويت الانتخابي.