ثمة مستجدات طرأت علي خريطة العلاقات العربية الفلسطينية, بفعل التطورات المحمولة علي الربيع العربي بعد أن أصبح لدينا بيئة إستراتيجية جديدة تجري فيها التفاعلات العربية الفلسطينية, أبرز ملامحها تراجع الفرز التقليدي ما بين اعتدال وممانعة, مع تغليب منطق الانفتاح ولو المؤقت علي كل الأطراف. فضلا عن أن الصعود السياسي لتيار الإخوان المسلمين في العديد من الدول العربية, أظهر حاجة العديد من الأنظمة العربية( لأسباب مختلفة بكل قطر) للانفتاح النسبي علي حركة حماس. فالنظام الأردني, علي سبيل المثال, احتاج وهو يقارب الاحتجاجات الداخلية المتصاعدة التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين الأردنية, إلي إعادة ترتيب أوراقه الفلسطينية, من خلال تطبيع العلاقة مع حركة حماس, مع محاولة ضبطها بما يتوافق والشروط السياسية الأردنية. في الوقت نفسه فإن سقوط مبار.ك وصعود الإخوان في مصر, دفع النظام الأردني إلي زيادة مستوي التنسيق مع السلطة الفلسطينية في رام الله. وذلك كمحاولة لملء الفراغ الذي خلفه سقوط مبارك, وفي الوقت نفسه مخافة الانحياز المصري مستقبلا نتيجة نتائج الانتخابات البرلمانية التي أعطت الإخوان المسلمين الأغلبية في البرلمان, وربما تعطيهم لاحقا تشكيل الحكومة المصرية المقبلة, وانعكاس ذلك علي كيفية التعامل مع السلطة الفلسطينية, ما يزيد الأمر تعقيدا بعد التعقيدات التي صنعها اليمين الإسرائيلي بتطرفه وإمعانه في رفض استحقاقات التسوية, ومواصلة الاستيطان وتهويد القدس. ومما يذكر في هذا السياق, تلك الزيارة المهمة والمفاجئة التي قام بها العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لرام الله في أواخر العام.2011 وهي الزيارة الأولي له لمناطق السلطة في عهد أبومازن. حيث استهدفت تدعيم موقف السلطة السياسي عقب خسارة أول جولة من جولات طلب الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأممالمتحدة والمنظمات الدولية المنبثقة عنها. فضلا عن أنها كانت بمثابة رسالة تطمين قوية لمحمود عباس والسلطة, مفادها أن العلاقة النشطة مع حماس, لن تكون بحال من الأحوال, علي حساب العلاقة مع الشرعية الفلسطينية, وأن عمان ليست بصدد تغيير تحالفاتها, أو نقل بندقيتها من كتف إلي كتف. بل لاتزال علي موقفها الذي لا يعترف سوي بالمنظمة( واستتباعا السلطة) كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وعلي العكس من الحالة الأردنية, تبدو الحالة السعودية ومعها كل أنظمة الخليج, باستثناء قطر. فالقيادة السعودية خاصة, والخليجية عامة, التي ظلت حريصة( قبل الربيع العربي) علي الانفتاح النسبي علي حركة حماس بهدف ضبط علاقة حماس مع إيران, ومنع الأخيرة من الاستمرار في اللعب بالورقة الفلسطينية( لاحظ استقبال قيادات المملكة العربية السعودية ل خالد مشعل, مطلع عام2010 ضمن جولة عربية لقيادات حماس شملت دول الخليج كالإمارات وقطر والكويت والبحرين أصبحت لديها الآن مقاربة مختلفة للعلاقة مع حركة حماس, بحيث يمكن القول إنه في ظل شرق أوسط جديد تحظي فيه حركات الإخوان المسلمين بمواقع سياسية متقدمة, يصعب الجزم بأن مقاربة النظم الخليجية لحركة حماس لن تتأثر بالخصومة, أو الحساسية الشديدة, التي تبديها تلك الأنظمة لتيارات الإخوان المسلمين في المنطقة. فالتفاعلات والاتصالات سوف تسير علي حبل مشدود, وستكون مشوبة بمحاذير متعلقة بتأثير النموذج الإخواني علي الداخل الخليجي. ولن يخفف من وطأة هذه الرؤية, أو يحيد مفاعيلها السلبية, علي حركة حماس, سوي إدراك المملكة العربية السعودية بأن القضية الفلسطينية ربما ستكون مقبلة علي انفجارات قريبة( نتيجة الممارسات الإسرائيلية وتراجع فرص التسوية) ومن ثم فإن مقتضيات الحرص علي الاحتفاظ بدور فاعل في الملف الفلسطيني تتطلب الإبقاء علي علاقات ذات مستوي ما مع فصيل كبير كحركة كحماس, لاسيما في ظل استمرار تراجع حركة فتح. أما قطر, صاحبة العلاقات المتميزة مع تيار الإخوان المسلمين, فتبدو حساباتها مختلفة, لاسيما وأن أجواء الربيع العربي وفرت لها فرصا أكبر كي تتصدر المشهد الدبلوماسي العربي. والمفارقة أن دبلوماسيتها التي كانت دوما محل جدل بسبب مقاربتها المتطرفة في براجمانيتها, منحتها قدرا أكبر من الحرية في الحركة والعمل علي أكثر من ملف في الوقت نفسه. إذ جمعت الدبلوماسية القطرية, حتي وقت قريب, بين دعمها الإعلامي والمادي والدبلوماسي لحركة حماس, وبين الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وفوق كل ذلك حازت الدوحة أيضا علي علاقات متميزة مع دمشق وطهران!!. جديد الدبلوماسية القطرية منذ اندلاع الثورة السورية, يتمثل في القطع نهائيا مع النظام السوري, واستغلال الفراغ الناشئ عن تغييبه في السعي للقيام بدور إقليمي أكبر من خلال الدخول بقوة علي مسارات القضية الفلسطينية, لاسيما ملف التسوية السياسية. وفي هذا الإطار ثمة من يعتقد بأن دخول قطر علي خط التسوية, سيؤدي إلي إضفاء المزيد من التعقيد علي محاولات بلورة استراتيجية فلسطينية جديدة علي هذا الصعيد. لاسيما وأن الدبلوماسية القطرية لن تغادر بشأن هذا الملف ذات المنطلقات الاستراتيجية لدول معسكر الاعتدال. وعادة يشار في هذا السياق إلي التصريحات المثيرة التي أدلي بها رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم في يناير2012 خلال اجتماعه بأعضاء المجلس الوطني السوري في القاهرة, وقال فيها إن حماس انتهت كحركة مقاومة مسلحة. حيث يري البعض أن تلك التصريحات من قبل المسؤول القطري البارز, تعكس في واقع الأمر الرغبة القطرية في دفع حركة حماس نحو الاعتدال ومربع التسوية مع إسرائيل. وربما من الصعوبة بمكان, في هذه المرحلة المبكرة, الإحاطة بتداعيات هذا الأمر, أو التكهن بشأن مستقبل السياسات القطرية نحو هذا الملف. لأن السياسة الخارجية القطرية لاتنطلق من أسس فكرية أو أيديولوجية ثابتة, معروف قواعدها ويمكن القياس عليها. وأخيرا تبقي مصر( وهي التي تظل مفتاحا شديد الأهمية للتحولات داخل الإقليم) منشغلة حتي هذه الحظة بترتيبات البيت الداخلي, فضلا عن أن الوضع الجديد في مصر يقف الآن في مواجهة تركة ثقيلة من الأعباء والأزمات الداخلية. والأكثر من هذا أنه وعلي الرغم من زيادة وزن الرأي العام المصري, لم يطرأ تغير كبير علي ماهية المصالح المصرية الأساسية, في أعين القيادة المصرية... ربما هناك تغير في الإيقاع, ولكن ليس في المحتوي بكل تأكيد. لهذا لم تتجاوز مستجدات السياسة المصرية تجاه ملفي القضية الفلسطينية, والعلاقات المصرية الإسرائيلية( وهما الملفان المرتبطان بشدة) حدود التغيير التكتيكي المحسوب. فإذا بدت القاهرة الآن أكثر انفتاحا, من ذي قبل, علي حركة حماس فهذا لن يصل بأي حال من الأحوال إلي مستوي الاعتراف بشرعية الحكومة المقالة في غزة. والشاهد علي ذلك تراجع رئيس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني, كمال الجنزوري, في اللحظات الأخيرة عن لقاء إسماعيل هنية, أثناء زيارته للقاهرة في يناير الماضي. كذلك, إذا بدا أن شكل العلاقات المصرية الفلسطينية الجديدة, أبعد عن منطق التحالف المطلق أو العداء المطلق, وأقرب منه إلي المقاربة شبه المتوازنة بين فتح وحماس, فليس هناك من ضمانة علي أن تلك الأوضاع ستستمر فيما بعد.. فالدولة المصرية لاتزال تكابد أعباء المرحلة الانتقالية التي تقع ما بين الثورة وبداية تشكل ملامح النظام السياسي والاجتماعي الجديد, وهي فترة يصعب في خضمها التمييز بين ما هو حقيقي وما هو من قبيل الشائعات, أو حتي الأمنيات الطيبة أو الخبيثة.