ينهض الرجل من مقعده فى البرلمان الفائت ويقطع جلسة مجلس الشعب، ويرفع يديه إلى أذنيه معلنا الأذان فى أداء استعراضى بينما اكتفى رجل الإخوان فى المجلس ساعتها، بإخباره أنه سيتحدث إليه عقب استكمال الأذان فى موافقة ضمنية لم تزعزعها الصيحات التى تواترت عن مخالفة ذلك لمتن الجلسة، وإلى جوار الرجل الاستعراضى ثمة مشجعون يتقدم بعضهم لمجلس النواب الآن، فى مفارقة مؤسفة، وعلى حواف الحكاية برمتها بشر يعيشون فى الماضى بامتياز، يودون احتكار كل شيء: الدين والسياسة والحياة بتفاصيلها المختلفة، فلا فتوى دونهم، ولا سياسة تفوتهم، والدين فى حجرهم تماما، يقلبون نصوصه كيفما يشاءون، فيعلنون الجهاد والسلم حسب أهوائهم، ويمنحون الناس صكوك الإيمان والكفر كل صباح. هؤلاء أنفسهم يفعلون الشيء ونقيضه، يحتقرون المرأة ويعتبرون صوتها عورة، لكنهم يقدمونها فى الانتخابات لأن قانون مجلس النواب يفرض ذلك، والنص الدينى جاهز دائما: الضرورات تبيح المحظورات، فتجد بشرا بلا ملامح، وصور المرشحات تحل مكانها صورة البعل/ الزوج صاحب الولاية على المرأة التى يجب أن تمثلنا، أو وردة ذابلة، أو صورة لا ترى فيها شيئا سوى السواد الحالك، وكأنك ستختار الظلام ليمثلك فى البرلمان. وقد تتفتق الذهنية الرجعية عن حيلة أخري، فتترك الصورة فارغة، وليضع فيها الناخب ما يشاء، ما دام تحت الصورة اسم المرشحة، حتى لو كان اسمها أم الصحصحاح أو القعقاع أو أم أى شيء. وقبل البرلمان ومعه يستمر قصف الفتاوى التكفيرية للدولة المدنية، وتشن الحملات الضارية على كل من يسعى بحق للانتصار لمفهوم الحداثة ولقيم التقدم، فيهان الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة على مواقع التواصل الاجتماعى ليل نهار من المتنطعين ودعاة الرجعية لقراره المهنى والجسور بمنع المنتقبات من التدريس، نظرا لانعدام التواصل فى الموقف التعليمى بينهم وبين المتعلمين، واستغلت قوى الإسلام السياسى فى مصر بشقيها الإخوانى والسلفى قرار رئيس الجامعة وزعمت أن هناك حربا على الإسلام!، على الرغم من أن دار الإفتاء المصرية وبها علماء أجلاء قد أقرت بأن النقاب عادة وليس عبادة، وبما يعنى أن محاولة الزج بالمقدس فى اللعبة السياسية خيار أساسى لقوى التأسلم الساعية إلى تدمير مقدرات الأمة المصرية وإهانة تاريخها عبر المكوث فى منطقة مظلمة من التاريخ الإنساني، بدعوى امتلاك اليقين المطلق عن الإسلام! ولو يعلم هؤلاء الخفافيش ماذا فعلوا بهذا الدين الحنيف لصمتوا للأبد، ولكنها الرغبة العارمة فى السلطة، والتى تدفعهم لخلط الدينى بالسياسى واللعب على المشاعر الغضة للجماهير. إن ضرب فكرة الإسلام السياسى لمعنى الدولة ومدنيتها يمثل خطرا عظيما على مقدرات أمة تتجه صوب الأمام، فتوجد أجواء من الحيرة والشك والإحباط العام، حيث تبث هذه التيارات الظلامية سمومها ليل نهار، وتتواطأ معها نخب الاستخبارات العالمية من أذناب السيد الأمريكي، ونخب أخرى متثاقفة من ممثلى الرجعية بتجلياتها المختلفة، والأدهى أن بعضهم يعمل فى صلب الجهاز الإدارى للدولة المصرية، يتمترسون فى الثقافة، فيضعون قدما فى متن الدولة وقدما أخرى مع قوى الرجعية، هؤلاء هم خدم كل الأنظمة وصنائع كل العصور، ويكرس لهذه المشكلات الحقيقية حالة التمدد لصيغة التحالف المشبوه منذ السبعينيات بين الفساد والرجعية، إلى الحد الذى يضعنا أمام حتمية الخروج من المأزق التاريخى الذى وضعنا فيه، وبما يفرض على الدولة المصرية ذاتها ضرورة تفعيل نصوص الدستور المصري، خاصة فيما يتعلق بحظر الأحزاب القائمة على أساس ديني، فإذا لم يكن هؤلاء الصحراويون من دعاة الحزب الديني، فأين توجد الأحزاب الدينية إذن؟!. إن ثمة عملا كثيرا ينتظر الدولة المصرية كى لا تجعل السلفيين ومن معهم يطفئون مصابيح الحرية ومشاعل التنوير، بدءا من ضرورة تبنى مشروع وطنى جامع له ملامحه المستقرة، يتكيء فى شقه السياسى على استقلال القرار الوطنى المصري، والحق أن الدولة المصرية قد قطعت شوطا كبيرا فى هذا السياق، وربما كان إعلان الموقف المصرى على نحو لا لبس فيه من الشقيقة العربية سوريا تعبيرا دالا عن هذا التوجه، فضلا عن التخلص من التبعية لصاحب القرار فى البيت الأبيض. يتبقى جناحان أساسيان فى المشروع الوطنى المصري، لا يحتملان التأخير أو التردد، هما الجناح الاجتماعى الذى ينهض على الانحياز للطبقات الشعبية والمقهورة، وبما يعنى أن تتحول فكرة العدالة الاجتماعية من محض رطان نظرى إلى حقيقة متعينة وملموسة، أما الجناح الآخر فهو الجناح الثقافى الذى يجب أن يكون فى متن المشروع الوطنى المصري، على غرار ما رأينا فى الستينيات من القرن الماضي، حين كانت الثقافة خبزا يوميا للمصريين، وكانت الأداة الفاعلة عبر قيم التنوير ورموزه وشخوصه الكبار فى مجابهة كل التصورات الماضوية عن الحياة والعالم والأشياء. وبعد.. أثق فى الجين الحضارى المصرى الذى دفعنى مثلما دفع عشرات المثقفين الحقيقيين أن يعلنوا صبيحة مجيء المعزول أن الهوية الوطنية ستنتصر على جماعة الظلام، وأثق أيضا فى أنه لا السلفيين ولا غيرهم يستطيعون إطفاء المصابيح، غير أن حملة التنوير يجب أن يكونوا حملة حقيقيين لقيم التقدم والاستنارة والإبداع، هم ومن معهم، فكل ما فى العالم قبض ريح عدا ما نكرس له من قناعات، وما نحمله من أفكار، والمثقف الحقيقى هو من يجده ناسه وسط العتمة، حاملا إليهم راية الحق والخير والجمال، وكل القيم والمقولات الفلسفية الكبري، التى يعرفها كل مثقف يؤمن بناسه أكثر من إيمانه بالسلطة، ويعرف الفارق الجوهرى ما بين الدولة المصرية والنظام. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله