بدا رحيل وزير الثقافة السابق حتميا ومتوقعا في آن، فالمتابع لحركة الثقافة المصرية والراصد لتبايناتها المختلفة، يدرك أن مساحة الإخفاق قد باتت واضحة لكل مهموم بالثقافة المصرية وأوجاعها المستمرة، خاصة حالة الإخفاق الثقافي في معركة الأمة المصرية ضد قوى التخلف والرجعية، وهي المعركة التي جاء الوزير السابق من أجلها بعد أن كان آخر وزراء الثقافة في عهد مبارك، فضلا عن استمرار السياسات الكرنفالية القديمة بصيغ مختلفة، وقد سبق لنا ولعدد من المثقفين المحترمين أن حذرنا من اختيار وصفناه ساعتها بالخاطيء والعبثي، وبما يفرض على الوزير الجديد مسئوليات حقيقية نتمنى أن ينهض بها، ولذا فإن عليه بداية أن يدرك أهمية المؤسسة الثقافية في صناعة العقل العام ، بوصفها إحدى أهم أدواته، ففي البلدان المركزية يمكن أن تمثل المؤسسة الثقافية الرسمية حجر الزاوية لبناء مختلف، يسعى صوب تحرير الوعي، وصبغه بطابع أكثر استنارة وحداثة. ولا شك أن هناك مخاوف مشروعة من الانتماء الأزهري للوزير الجديد، وما تردد عن دعم الأزهر لاختياره، في لحظة مضطربة بعشرات الأسئلة الدافعة صوب انحياز لا لبس فيه ولا مواربة لقيم الدولة المدنية بأفقها الطليعي والتقدمي، وبما يوجب على الوزير ألا يجعل خلفيته الأزهرية الماضوية محركا له في التعاطي مع الثقافة بأبعادها الفكرية والجمالية التي لا تقبل المساومة على حرية التعبير والرأي والفن بشكل عام. وتبقى التجربة العملية هي الأساس لاختبار انحيازات الوزير، ومدى كفاءته وقدرته على التكريس لمشروع الدولة الوطنية بعد ثورتين مجيدتين، قدمت فيهما جماهير شعبنا الدماء والشهداء، بخاصة أن معركة المثقفين الحقيقيين تظل دائما ضد كل ما يحول دون تقدم أمتنا المصرية والعربية، وليست ضد أشخاص أو مؤسسات تحوي شأن كل شيء الجيد والرديء. ولا شك أن واقع الحال وما آلت إليه الوزارة يحيل إلى تركة مثقلة بالفساد الثقافي والترهل ومفارقة اللحظة، والارتماء في أحضان تصورات بالية وقديمة، تعد نتاجا لعالم استهلاكي الطابع، وتعبيرا فجا عن أقصى درجات التآكل لمعنى الثقافة بعد أربعين عاما من التحولات السياسية/ الثقافية العاصفة، والتي كرست لصيغة التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية عقب الانفتاح الاقتصادي عام 1974، وما سبقه وتلاه من صعود قوى اليمين الديني المتطرف. من هنا تبدو الثقافة الرسمية بحاجة لمراجعة حقيقية لراهنها المتعثر، وماضيها القريب المثقل بالخيبات، ودفعها لخوض معركة الأمة المصرية في حربها ضد عصابات الرجعية وقطعان الإرهاب، غير أن الحرب الثقافية تلزمها أدوات حقيقية لا محض رطان فارغ، وتصريحات جوفاء، وبما يسمح لنا أن نعلن وبوثوق شديد أنه لا بد وأن نبدأ مستندين إلى مسارين مركزيين، أولهما يستلزم وجود تصور محدد المعالم صوب الثقافة المصرية، وماهيتها، ودورها، والمأمول منها، وآليات استعادة ما تمثله من قوة ناعمة مضافة إلى متن الدولة المصرية، وهذا جميعه يحتاج إلى وسط بيئي مسكون بالحرية، والمنطق الديمقراطي لهيئات الوزارة المختلفة، وتفعيل لا مركزية الإدارة الثقافية، والإيمان المطلق بحق الاختلاف، بوصفه حقا إنسانيا، وثقافيا لازما وواجبا في آن، وإيجاد طرائق واضحة وخطوات إجرائية ذات طابع عملي للخروج من مأزق انفصال الثقافة الرسمية عن جماهير شعبنا في القرى والنجوع المصرية، والتي تركت فريسة للجهل وللأفكار المتطرفة. ينحو المسار الأول إذن صوب تغيير ثقافي جامع، وجذري، يبدأ من الجوهر أي من معنى الثقافة، وبما يعني إعادة النظر في الدور المفقود لوزارة الثقافة من أن تكون وزارة للناس، وليس وزارة لمجموعة بعينها من المثقفين أسهمت في التكريس لجيتو ثقافي أودى بنا لانحطاط تاريخي، يختلط فيه التدجين بالحظيرة الثقافية بفساد الذمم، وبما أفضى في نهاية المطاف إلى إهدار قيمة الثقافة وتآكل معناها. لكن التغيير الثقافي الفعال يجب ألا يبنى على الرميم، أو يقتات على الحشائش الضارة، بل يسعى صوب خلق جديد، ومن ثم ستظل التغييرات في الوجوه داخل الثقافة الرسمية محض تغييرات شكلية إن لم تمس روح الثقافة وجوهرها، وهذا يوجب مجابهة حقيقية لجماعات المصالح وجيتوهات الفساد الثقافي التي تشكلت عبر عقود، وازداد نفوذها في السنوات الأربع الأخيرة، في مفارقة هائلة، وكأنها تصر على أن تخرج لسانها للثورة وللدولة المصرية معا، وأصبحت تتعاطى مع وزارة الثقافة بوصفها غنيمة مستباحة ومتجددة. وهذا يدفع بنا للمسار الثاني الذي يعتمد على القائم بالتغيير ذاته، والملتفين حوله، فليس مقبولا على الإطلاق أن يظل رجال كل الأنظمة والعهود في مواقعهم داخل الهيئات الثقافية، وكأنهم يتمتعون بحصانة سرمدية، وبما يعززمن فرضية القول بأن الاختيار كان مرده إلى تغليب معيار الثقة على معيار الكفاءة، وفي الحقيقة لم يدخل هذا المعيار بلدا ما إلا وأودى به للهاوية، فالأمم التي تعاند حركة التاريخ تتجه بمحض إرداتها للعدم والفناء. من هنا نصبح أمام بدايات حقيقية لمشروع ثقافي وطني، تحتاجه الدولة المصرية في لحظتها الراهنة، مشروع يعمل على صناعة العقل العام، وتجديد أدواته، وتنمية الوجدان الجمعي بالفنون المختلفة، وإزاحة التراب عن الأصوات الإبداعية المطمورة، واستعادة الذاكرة الوطنية التنويرية وإحيائها، والكشف عن الصوت الطليعي الجديد في الثقافة المصرية، وكلها أدوار مهمة، لكنها للأسف مفقودة في متن الثقافة الرسمية، إلى الحد الذي يجعل جهود بعض المثقفين خارج المؤسسة الرسمية أكثر حضورا في المشهد المصري من جهود أمكنة ذات قاعات مكيفة، لكن يسكنها الخلاء، والعبث، والتكلس. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله