على باب شارع السلطان الحنفى بالحى العتيق (السيدة زينب)، كانت شبكة أنوار الزينة تكسو الواجهة، ومن خلفها يصطف أخواتها بامتداد الشارع الذى تم إغلاقه، إنه يوم من أيام النفحات الرمضانية، قرر (أهالى الحنفي) أن يصنعوا رمضان الذى كان، فأقاموا مأدبة بطول الشارع لإفطار الصائمين، وفى لحظات ما قبل الإفطار، وجوه مصرية من جميع الأعمار، يجلسون فى صفين بينهما طاولة ممتدة، خُدام المأدبة أبناء بلد متعددوا المهن والحرف، يوزعون الوجبات بينما تتساقط قطرات عرقهم مختلطة بإخلاص ومحبة ويقين فى مصر التى كانت (طَبْليتها) تسع كل عابر . على باب شارع السلطان الحنفي، أقيمت مائدة إفطار بطول الشارع يوم السبت الماضي، كل الوجوه التى جلست تشكو ضيق الحال، يخنق ابتساماتها الواقع بيد غليظة أصابعها إلتزامات لاتنتهى وغلاء لايرحم وغباءٌ يختال، ومع ذلك أصر الداعون والمدعون أن يثبتوا لأنفسهم أنهم قادرون على صناعة طقس رمضان المصرى الضائع. على باب شارع السلطان الحنفي، لم تكن هناك عدسات تُصور، أو صحفيون يبحثون عن سبقٍ، يُجسدونه فى عناوين من عينة (خلاف على الورك والصدر يفسد أول حفل إفطار بالحنفي)، أو (حفل إفطار جماعى يتحول إلى مجزرة بسبب كوب سوبيا). لم يحدث ذلك لأن المواطن مصرى أراد أن يؤدى مهمته فى ظل أضواء يُشعلها بنفسه ليرى فى ضيها صورته التى غابت عنه عقوداً، استسلم خلالها للسير على ضى إعلام يسعى لتوجيه المسير نحو أولويات (البيزنس الإعلامي). على أبواب (البيزنس الإعلامي) تم طمس هوية مصر الرمضانية، واستحال الأصل هو ترويج ثقافة (الهدم)، وإشاعة فلسفة (اليأس)، ورفع رايات (التسطيح والتفاهة)، وربما كان يمكن مغفرة هذه الذنوب فى وقت غير هذا الذى تحياه أمتنا، لكن نشر (الهدم واليأس والسطحية) يصبح من الكبائر عندما يستهدف وعى أمة تخوض معركة وجود . على أبواب (معركة الوجود المصري) فى مواجهة متربصين كُثُر، كان ينبغى أن تكون هناك استراتيجية (إعلامية) نابعة من وعى (صُنَّاع الإعلام) بطبيعة المرحلة، وليست محددة بمجرد (ميثاق شرف إعلامي). ولقد كان كاتب هذه السطور شاهداً على استغلال (إعلام تنظيمات الدين السياسي) لشهر رمضان حتى ثورة 25 يناير 2011م، حيث تم ادماج المساجد التابعة للدولة داخل خطط التنظيم، وتحولت عاطفة المصريين الرمضانية الدينية، إلى خانات يسودها التنظيم فى كشوف متابعة أنشطته، وتذكروا إن شئتم الحملات الإعلامية التى انساقت خلف إعلام الإخوان بين أعوام (2006 2010)، والتى كانت تتمحور حول (الإقبال الكبير على التراويح والتهجد والاعتكاف). ولقد نجح التنظيم الإخوانى وقتها فى استغلال المساجد طارحاً فيها نجومه الجدد ليرتبط بهم المصريون روحياً قبل أن يجدوهم مرشحين للانتخابات فيما بعد، كان التنظيم المتربص بالوطن يعى جيداً قدر رمضان فى وعى المصريين فوضع له من الخطط ما يعود عليه بكل أنواع النفع بداية من المادى (جمع الزكوات والصدقات والتبرعات)، والتنظيمى (اصطياد ضحاياه من المساجد التى خلت من أئمة مؤهلين)، والجماهيرى (حقائب رمضان وموائد الرحمن وكلاهما من أموال تبرعات المواطنين لكن التنظيم يكتب عليهما مع تحيات الإخوان المسلمين). على أبواب معركة الوجود المصري، لم يحصل الشعب على صورة الوطن الذى استرده من سارقيه، تخلى الإعلام عن (موائد الرحمن)، التى -رغم ضيق معايش الخَلّقْ- اتسعت رقعتها وانضم إليها رقيقو الحال بما استطاعوا إليه سبيلاً، (موائد الرحمن) التى طورت آلياتها مع جيل جديد من شباب هذا الوطن قرر فريق منهم فى (مدينة الشيخ زايد) أن ينظموا موائد سحور لأهالى المدينة، نظير أجر يستخدمونه فى إعداد مائدة إفطار يومية مجانية. (موائد الرحمن) التى تجاوزت حد التجمع حول طاولة واحدة فى الشارع، إلى وجبات محمولة على أيادى المحبة المصرية تصل إلى بيوت من لا يسألون الناس إلحافا. إنها بلورات حقيقية لقدرات حبا الله بها شعب مصر وخاصة فى الأزمات، غير أن الباحث على الإنترنت يكتشف أن أهم عناوين إعلامنا المصرى حول موائد الرحمن كانت (بالفيديو والصور شاهد فضيحة اطول مائدة إفطار فى العالم - شاهد..مهزلة فى أطول مائدة إفطار فى العالم -أهالى الإسكندرية يحطمون أطول مائدة إفطار بالعالم -بالصور.. صائمو الإسكندرية »دون طعام« على أطول مائدة إفطار). إنها عناوين من صحافة مصر فى زمن الحرب! على أبواب معركة الوجود المصري، أدرك المصريون أن دينهم أعز من أن تأسره جماعة، فقرروا إرسال رسالة للعالم فحواها (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)، ونجحوا فى ترسيخ هذا المعني، وراجِعوا أعداد رواد المساجد فى (الفجر المغرب العشاء والتراويح التهجد)، هذا بالإضافة إلى إحياء سنة الاعتكاف، قرر الشعب المصرى أن يرد على من تاجروا بدينه وشعائره زاعمين أنهم حاملو صك الدين الخالص وسر الإيمان الوحيد، ولكن هذا الموقف الشعبى لم يجد له ظهيراً إعلامياً يروج له حتى باتت الساحة خالية إلا من ميديا الإخوان المتربصين بالوطن، فراحوا يسوقون لمساجد خالية، ولمخبرين على أبوابها يرابطون، والأوقاف قررت غلق المساجد فى وجوه المعتكفين، صَدَر الإخوان ما يريدون، وفعل الشعب ما يسقط ادعاءاتهم، و غاب الإعلام عن المشهد مكتفياً ببرامج دينية (موديل الثمانينيات) وأدعية مُغناه عقب أذانى الفجر والمغرب! ومقالات عن أحكام الصيام للحائض والنفساء والمسافر! على أبواب معركة الوجود المصري، أدرك المسيحى المصرى أن علاقته بشقيقه المسلم، باتت مستهدفة من عدو يفتح أبواب الفتن الدينية، فكان أن فتحت كنائس مصر أبوابها لتدق أجراس المحبة، ويقول الأنبا مرقس أسقف كنيسة شبرا الخيمة (إن الكنيسة هذا العام ستُقيم موائدها بجميع كنائسها، بشبرا الخيمة والخصوص، وسيُعد أبناؤها الطعام، كما يُشارك بعض المسلمين فى مساعدة الكنيسة بموائدها). ووقف أمام الكنائس شبابها المصريون، يوزعون الماء والتمور على إخوانهم المسلمين. تم ذلك بينما أعلن إعلام تنظيم الإخوان الحرب على الموقف المسيحي، وكانت الشائعات هى سلاحهم، قالوا (موائد تنصيرية توزع آيات الإنجيل مع التمر- تسعى للدعاية لمرشحى الكنيسة فى الانتخابات)، حتى قال أحدهم محمد الجوادي- فى تغريدة على الإنترنت نصاً (الناس اللى بتروح تفطر فى موائد الكنيسة بتاكل لحم حمير ولا لحم خنزير؟).نعم نحن فى معركة وجود، هذا ما يؤمن يه الناس فى مصر، ومن أجلها أجبروا المشير عبد الفتاح السيسى على ترك موقعه فى الجيش ليترشح لرئاسة وطن بحاجة إلى من يقوده فى معركة وجوده، ولقد أثبت الشعب فى رمضان أنه يمتلك وعى المرحلة، فانتصر لتكافل اجتماعى لا يستهدف إلا رأب الصدوع وسد الجوع، وانتصر لشعائر دينية لا تدعوا مع الله تنظيماً أوحزباً، وانتصر لرحم وطن يمد فيه المصرى المسيحى يده بتمر الإفطار لأخيه المصرى المسلم، صنع الشعب فى رمضان ملامح معركة وجوده منفصلاً عن إعلام ينظر للواقع بعين التساؤل (هوا عمر الشريف كان ديانته إيه علشان نعرف هندفنه فين)! لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى