يمكن اليوم بعد الرحلة التي قطعناها في زمن التنوير في الفكر المصري الحديث المعاصر تأكيد أن فكر التنوير في تجلياته المتعاقبة في مصر, تحول إلي سبيكة مصرية خالصة, متنوعة العناصر, متراكمة المكونات بما أدي في النهاية إلي وجود صياغة خاصة لفكر التنوير, لا يمكن نسبتها إلي التنوير الفرنسي أو تطابقها الكامل معه, ولا يمكن تطابقها بالقدر نفسه مع فكر التنوير في هذا البلد الأوروبي أو ذاك. ففكر التنوير الذي أسهم مفكرونا في إعادة صنعه, منذ رفاعة الطهطاوي إلي أحفاده وتلامذة أحفاده من أبناء جيلي إنما هو سبيكة, انصهرت مكوناتها التي أصبحت تنتسب إلي روافد أجنبية مع مكونات تراثية عربية, ولا تخلو من تأويلات دينية, فضلا عن مكونات أضافها له نضال الطليعة الثقافية منذ ثورة1919 التي رفعت شعاري وحدة الهلال مع الصليب والدين لله والوطن للجميع أعني النضال الذي أدي إلي صياغة دستور1923 الذي لانزال نعده أفضل دستور في التاريخ المصري الحديث, والذي لم يكن من صنع الوفديين الذين لا يعرف عدد غير قليل منهم تاريخ وطنهم أو حزابهم للأسف. ويعني ذلك أن فكر التنوير وميراثه اللذين نلوذ بهما في تأكيد مدنية الدولة ومبدأ المواطنة الذي هو نقيض لأي تمييز, هو فكر ينتسب إلينا نحن الذين ننادي به, ونتوارثه, ونضيف إليه حسب متغيرات تاريخنا المصري الحديث, في علاقته بغيره من المتغيرات الإقليمية والدولية, ولذلك فهو فكر في حالة صنع متواصلة, أو إعادة إنتاج, تجعله قادرا علي أن يواجه كل مرحلة, خصوصا تلك المرحلة التي نعيش فيها, ونعاني منها, ونتصدي فيها لأخطر التحديات السياسة, وأخطر أشكال الرفض لكل من الدولة المدنية الحديثة ومبدأ المواطنة علي السواء. ولا أدل علي ذلك من آخر نتائج اختيار اللجنة التأسيسية للدستور التي اغتصب أغلبيتها نواب الإخوان المسلمين والسلفيين في البرلمان, خصوصا بعد أن ضموا إليهم أشباههم ومن يمكن أن يعينهم علي تحقيق مرادهم من خارج البرلمان, والنتيجة معروفة سلفا, ويمكن التنبؤ بها بشيء من إعمال العقل. والحق أن التطورات السلبية التي لاتزال تتداعي بسبب رفض المجلس العسكري بمؤازرة الإخوان والسلفيين البدء بصياغة الدستور, بعد رحيل رمز السلطة السابقة في الحادي عشر من فبراير2011, هي التي تجعل من وجود فكر التنوير ضرورة حتمية, وسلاحا من أسلحة المقاومة الفكرية, في معركة اصبحت طويلة الأجل في تقديري. وأتصور أنه لامعني حقيقيا لديمقراطية سليمة مع ارتفاع أمية الشعب إلي مايزيد علي40% وذلك في مؤازرة ما يقارب النسبة نفسها من الذين يعيشون تحت خط الفقر بدراجات متفاوتة,أبشعها العشوائيات التي تمتلئ بالجوع والمرض والجهل, فلا تثمر سوي الجريمة ونزعات العنف والتدمير بكل لوازمها, وبقدر تغلغل أفكار دينية متعصبة وحرفية بين نسبة كبيرة من الشعب المصري, واستلاب وعي الناس الذين تراكمت عليهم أشكال الفساد والظلم من حكومات ادعت أنها مدنية, فالمؤكد أن فكر الناس لن يتغير بين يوم وليلة, وإسقاط رئيس وانتخاب رئيس آخر لن يقدم أو يؤخر كثيرا خصوصا مع هيمنة ثقافة التخلف, حتي علي أعداد غير قليلة من المتعلمين. إن معركة التنوير طويلة, وتحتاج إلي مواجهة نقائضها( التعصب الديني, التسلط السياسي, أشكال التمييز الاجتماعي والديني الطائفي) مواجهة جذرية. ولذلك لابد من التمسك بمباديء التنوير والدفاع عنها وإشاعتها, وهذه مهمة مثقفي المجتمع المدني بالدرجة الأولي, وذلك إلي أن يمن علينا الله, فضلا عن ضرورة نضالنا علي كل المستويات, بحكومة تتبني مباديء التنوير, وتجعل منها اطارا مرجعيا لسياستها المتصلة بإعادة تثقيف المجتمع في كل المجالات: سياسيا واجتماعيا, وفكريا وإبداعيا, تعليميا وإعلاميا وسلوكا يوميا في الشارع, وخلقا سمحا بين البسطاء. وأهم مبادئ التنوير التي افكر, فيها هي كالتالي: أولا: العقلانية بمعني الأحتكام إلي العقل, سواء بالمنحي المدني للفكر, أو المنحي الديني المسيحي أو الإسلامي, ويكفيني في تحديد المنحي الإسلامي بوصفي مسلما ما ذكره الإمام محمد عبده من أن للإسلام أصولا خمسة. الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان والثاني: تقديم العقل علي ظاهرة الشرع عند التعارض. والثالث: البعد عن التكفير: والرابع: الاعتبار بسنن الله في الخلق. والخامس: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها, فقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة و محا أثرها. وهي مبادئ بقدر ما تدعم الفكر الفلسفي الخالص وتبرره بسند ديني فإنها تدعم الفكر العلمي, وتشجع علي تأصل معني البحث العلمي الذي يبدأ من البحث عن علاقة السببية بين الظواهر إلي أن يتصاعد ذلك فيجاوز علوم الذرة إلي ما بعدها. ثانيا: العدل بكل معانيه, سواء كان العدل في توزيع الثروة أو تنميتها بما يحقق ناتج التنمية تعليما متقدما للجميع, لا تعليما يتمايز بتمايز ثروة الطبقات أو الشرائح الاجتماعية, ومسكنا لائقا لجميع المواطنين وعلاجا متاحا للجميع. وأخيرا العدالة في توزيع المعرفة وثمار الآداب والفنون التي تغدو كالتعليم حقا لكل مواطن كالماء والهواء. ثالثا: الحرية التي تبدأ من الفرد ولاتنتهي بالأمة, وتشمل مجالاتها المتعددة التسي تصل حرية الأعتقاد وحرية الفكر والإبداع والبحث العلمي. والفارق كبير بين الحرية والفوضي, فحريتي تتوقف عند الحدود التي تؤذي الأخرين, وهي مسؤلية دينية واجتماعية وأخلاقية, تؤكد بقدر ما وتتأكد بالمبادئ التي نصت عليها حقوق الإنسان التي تلتزم بها جميع دول العالم الأعضاء في الأممالمتحدة. والتسليم بهذا الفهم للحرية يفضي إلي التعددية السياسية والتنوع الثقافي الخلاق, فضلا عن احترام حق الإختلاف وإشاعة ثقافة الحوار التي يحترم فيها كل طرف رأي غيره من الأطراف دون مغالبة أو قمع أو احتقار للمعرفة أو استبداد بالسلطة. رابعا: الوطنية والمواطنة. والأولي تعني الانتماء إلي الوطن, وبذل كل غال ونفيس في سبيل تقدمه. وليس من الضروري أن نؤكد معني بيت أحمد شوقي: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي ولا أن نكرر غنائيات مصطفي كامل عن الوطنية المصرية, فالأهم هو تأكيد أن الوطن هو مجمل العلاقات والمصالح, التي تربط بيننا في حيز جغرافي بعينه, نحمي استقلاله بالروح, وننتمني إليه مهما تعددت أدياننا, فالانتماء الوطني أشمل من الانتماء الديني. ولذلك نفهم المقصود من شعار ثورة1919 الدين لله والوطن للجميع. وأتصور أن الانتماء للدين وحده, والخلط بين معني الوطنية والديانة يؤدي إلي تمزيق الأولي وتشويه الثانية. ومن المؤكد في تقديري علي الأقل أن المسيحي أقرب لي من المسلم الذي ينتمي إلي القاعدة في أفغانستان وغيرها, كما أن صديقي الذي ينتسب إلي الإخوان المسلمين أقرب لي في معني المواطنة من المسلم الإيراني, فالأصل في علاقتي بكل من يعيش في الأرض المصرية هو حبنا لهذه الأرض التي أطلقنا عليها وطننا الذي نفدي استقلاله بأرواحنا ودمائنا, مهما كانت ديانتنا أو اختلافنا السياسي. فمصر هي أرض يرمز إليها علم هو إياها في القيمة والمعني. وإلا مااستشهد في سبيل هذا العلم الآلاف من المسلمين والمسيحيين الذين رووا بدمائهم شجرة حرية الوطن والأنتماء الوطني, في كل الحروب التي خاضتها مصر منذ الحرب العالمية الثانية. وأضيف إلي هذا المعني للوطنية ما يترتب علية من نفي فكرة الخلافة, وتزييف وهم استعادتها. المزيد من مقالات جابر عصفور