مع تكرار حوادث العنف الطائفي وخاصة الحادث الإرهابي الدموي الذي استهدف مواطنين مصريين مسيحيين بالإسكندرية، وأودي بحياتهم وحول الاحتفال بالعام الميلادي الجديد إلي حقل من الدماء، شعر كثير من المصريين بخطورة الأوضاع وأن هناك شرخا كبيرا في بنية الوحدة الوطنية المصرية، وأن عمليات الفرز الطائفي قد وصلت إلي حالات العنف والقتل علي الهوية، واتساع مظاهر الطائفية علي حساب مبادئ المواطنة والإخاء التي تنص عليها المادة الأولي من الدستور، ويقول الدكتور جلال أمين في كتابه «مصر في مفترق الطرق» «لقد أصبح واضحا كالشمس أن قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط ليست قضية دينية وإنما هي قضية تثير كل قضايانا في نفس الوقت.. التعليم، الحرية، العقلانية، العدالة، الأخلاق والتنمية والتبعية». ولكن مشاكل التعليم في مصر تجعله عاجزا عن مواجهة تحديات التحديث والتطوير، وهي ترتبط بالمناهج الدراسية وطرق التدريس، وترتبط بالسياسات والاستراتيجيات التي تقصر أهداف التعليم فيما يسمي باحتياجات سوق العمل(!)، ولكن هذه المشاكل ترتبط أكثر بالقصور عن وجود استراتيجية حداثية مستقبلية للتعليم قادرة علي مواجهة تحديات حاضر الأمة ومستقبلها. مخاطر الازدواجية إن هذه المشاكل والإشكاليات تدور حول معضلة تعليمية تراكمت عبر التاريخ، وهي معضلة الازدواجية التي تشهدها العملية التعليمية في مصر، فالتعليم قبل الجامعي ينقسم بين تعليم حكومي وخاص وأجنبي، والتعليم الحكومي منقسم بين تعليم عادي وتعليم باللغات «المدارس التجريبية»، والتعليم الجامعي منقسم إلي تعليم حكومي وتعليم خاص، والتعليم الحكومي الجامعي به أقسام للغات وأقسام متميزة وتعليم مفتوح كلها بمصروفات، ولكن أخطر أشكال الادزواج تتمثل في الانقسام بين تعليم مدني وتعليم ديني، وبين هذه الأنواع من المدارس يتوزع أبناء الأمة وتتمزق الأمة، لأن الأصل في التعليم العام أن يكون تعليما موحدا لكل الطلبة من الحضانة وحتي الثانوية العامة، لأن فلسفة التعليم أن يصنع ما نسميه وجدان الأمة بهدف خلق انتماء وطني عام وتأسيس ثقافة وطنية، ولكن أن يكون هناك في التعليم ما نسميه تعليما مدنيا وتعليما دينيا، وفي التعليم نفسه ازدواجية خطيرة بين التعليم باللغة العربية وباللغات الأجنبية، ويعد هذا خروجا علي فلسفة التعليم ويؤدي إلي أن تنشأ الجماعة الوطنية مفتتة، ولا يوجد هناك نسق فكري واحد بل تتكون عقليات مختلفة، لأن توحيد نظم التعليم في مرحلة النشأة والتكوين يقوم ببناء الشخصية الوطنية العامة للتلاميذ، ويخلق لغة مشتركة بينهم، وينمي قيم الوطنية والانتماء الوطني وحقوق المواطنة وحب العلم والمعرفة واحترام العقل وتذوق الفن والجمال. التعليم الديني والتمييز يظل التعليم الديني هو الأخطر والأهم بين إشكاليات ازدواجية التعليم في مصر، فإذا كانت الازدواجيات الأخري تصنع أنواعا من التمييز الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يستطيعون له طلبا، ومن يملكون المال والجاه والنفوذ، الأمر الذي يخلق معه أدوات خطيرة للتمييز بين المواطنين علي قاعدة التمييز الاقتصادي والاجتماعي، قاعدة التمييز الطبقي في بلد متعدد الطبقات ويعيش مواطنوه تحت وفوق خط الفقر، لكن التعليم الديني الأزهري في بلد متعدد الديانات يدخل مباشرة في إشكالية التمييز الديني، أي يجرح المواطنة، حيث يجد المواطنون أنفسهم قسمين، قسم يستطيع دخول هذه المدارس والكليات بسبب انتمائه الديني الإسلامي، وقسم لا يستطيع أن يقترب من أبواب هذه الوحدات التعليمية المنتشرة في أنحاء القطر، والاستفادة مما تنفقه الدولة عليها من أموال بسبب الانتماء إلي دين آخر كالمسيحية أو غيرها. لكن مشكلة التعليم الديني الأزهري والمواطنة لا تنبع من مجرد شكوي المواطنين المصريين من المسيحيين من وجود مؤسسة تعليمية حكومية ضخمة، تصرف عليها الدولة من أموال دافعي الضرائب، بل تنبع من فعل وجود ازدواج عملية التعليم ووجود مؤسسات تعليمية علي قاعدة الانتماء للدين وليست علي قاعدة الانتماء للوطن، فهذا الوجود نفسه ينتج قيما تمييزية في برامج التعليم ومناهجه ويفرخ قيما تمييزية دينية في المجتمع وفي البيئة التعليمية والثقافية، ومن الطبيعي أن تكون الدراسة في معاهد وكليات الأزهر إسلامية الطابع، فهي دراسة دينية إسلامية، ومن الطبيعي ألا يظهر الآخر الديني إلا باعتباره آخر، وأن يظهر الانتماء للوطن - إن كان له مجال للظهور - من باب الانتماء للدين، وقد يصبح الوطن هو الدين، في المنهج المكتوب أو في النص الديني، أو في الخطاب الديني الأزهري من الطلاب أو الأساتذة، أو بعضهم، خاصة وأن الآخر غير موجود داخل قاعات الدرس، وغير موجود في المنهج الدراسي، وهنا تنبع إشكالية التعليم الديني والمواطنة من إمكانية المساواة بين الوطن والدين، فتستقر قاعة الدرس في الوجدان وفي الوعي الاجتماعي منتجة التمييز الديني داخل الوطن الذي هو موجود خارج أسوار المدرسة والمعهد الديني والجامعة الأزهرية. مناهج تؤسس للطائفية والمواطنة إحساس أفراد المجتمع بالمساواة والعدالة والانتماء للوطن، والتعليم مسئول بالدرجة الأولي عن توضيح وتفعيل المواطنة من منظور عام ولكن مكمن الخطر في بعض المناهج بالتعليم العام مثل منهج اللغة العربية، فهو مشبع تماما بالتعاليم الإسلامية، بوجود نصوص من القرآن إلي جانب الأحاديث النبوية ضمن مقرر اللغة العربية، حيث يجبر الطالب المسلم وغير المسلم علي حفظ الآيات والأحاديث والمعاني والشرح، أي أصبحت كتب اللغة العربية علي الرغم من أنها مقدمة إلي أبنائنا مسلمين ومسيحيين، وكأنها كتب في التربية الإسلامية، إلي جانب منهج البلاغة والأدب، فلكي يشرح المعلم مقرر البلاغة والأدب يلجأ إلي نصوص إسلامية وآيات قرآنية في علاقتها بالبلاغة وجماليات اللغة، وقد تتوافر بعض التعاليم التي تكرس كراهية الآخر، بالإضافة إلي أنه لا يوجد في المناهج فصل بين ما هو ديني أو علمي، وهي مناهج تكرس البعد الديني وتناهض الفكر العلمي، وأصبحت آيات القرآن الكريم تدخل مقررات العلوم والمواد الاجتماعية، وكلها أسباب تؤدي إلي تدعيم التمييز الديني. المعلم والواعظ وللأسف فإنه في مراحل التدهور الوطني ينتشر الفكر الرجعي والغيبي بشكل عام، فبلادنا شهدت في العشرين عاما الماضية تراجعا منظما للعقل، وتقدما حثيثا للخرافات والشعوذة، التي يقوم البعض بنسبتها للأسف للدين، وجزء من هذه الردة هي علاقة المسلمين بالمسيحيين، وهناك فتاوي وآراء ضد المسيحيين تنتشر ويتأثر بها التربويون وينقلونها لطلبتهم، وبعض المدرسين يقومون بذلك لأنهم أبناء هذه الثقافة التي تكرس الفكر الرجعي والسلفي، فقد وصل الأمر في معظم المدارس مثلا إلي إلغاء طابور الصباح، بل لقد وصل الأمر في بعض المدارس باستبدال النشيد الوطني بنشيد جماعة الإخوان «الله أكبر ولله الحمد»، ومدارس أخري تستبدل النشيد الوطني بترديد لحن أسماء الله الحسني، ونجد أن القيم السلفية المنتشرة في المجتمع تتسلل إلي المدرسة، وأصبحت المدرسة إحدي مؤسسات التمييز الطائفي، وأصبح المنهج المدرسي مناخا إسلاميا وطاردا للأقباط واختفت قيم المواطنة من مختلف الأنشطة المدرسية. ويحسب لوزير التعليم الحالي د. أحمد زكي بدر - أيا كان اتفاقنا أو اختلافنا معه - إعادة طابور الصباح وتحية العلم، أما الأمر الخطير فهو تحول بعض المدرسين والمدرسات إلي فقهاء في الدين، والمشكلة أنهم يضغطون بتدينهم المنقوص علي الطلاب، ويأخذون وقتا من حصصهم للحديث عن الحلال والحرام، فمدرس يفتي بأن الرسم حرام، وآخر يفتي بأن الموسيقي والغناء حرام وأن من يستمع إليهما سيصب الله في أذنيه يوم القيامة نحاسا منصهرا، إلي جانب تحول الحجاب إلي مجال للتمييز بين الفتيات دينيا، ومجال للتدخل في الشئون الشخصية للفتيات غير المحجبات واستخدام الضغط النفسي والإحراج والتهديد في معظم الأحيان لكي يلبسن الحجاب، وحين يقف المعلم في المسافة بين المربي الفاضل في المؤسسة التعليمية والمفتي أو الواعظ أو القس في المؤسسة الدينية تختلط الأمور ويفشل في دوره المختلق كواعظ، ويفسد البيئة المدرسية ويهدر قيم وأهداف المؤسسة التعليمية، هذا إلي جانب انعدام الأنشطة المدرسية، وانعدام الحوار الفعال بين المعلمين والتلاميذ نتيجة التكدس وظواهر المدارس بلا فناء، الذي أنتج ظواهر الدروس الخصوصية والغش والعنف المتزايدة بين عناصر البيئة التعليمية. تعليم مدني يؤسس للمواطنة لقد آن الأوان لتوحيد نظم التعليم بحيث يكون تعليما مدنيا يؤسس للمواطنة، وأن يكون الأزهر، لعلوم الدين كالشريعة والفقه، وغيرها، وتكون الكنيسة لكليات اللاهوت، وأن يكون التعليم حديثا ومفتوحا لكل أبناء الأمة علي قدم المساواة، لكي يكون هناك نسق واحد للتعليم يخلق مواطنا مؤسسا علي وحدة معرفية وثقافية، وخلق لغة مشتركة بين جميع أبناء الوطن الواحد، وأن يعمل التعليم ومؤسساته علي تحقيق التجانس الفكري بين أبناء الوطن الواحد، ومن هنا فإن تطوير التعليم في مصر ليلتحق بالعصر لا يأتي كما يتصور البعض من باب احتياجات سوق العمل فقط بل أيضا من باب إعادة بناء العملية التعليمية بكل عناصرها ليكون تعليميا قادرا علي إنتاج قادة المستقبل من المفكرين والعلماء والأطباء ورجال الإدارة والمهندسين والعمال وغيرهم، ليكون قادرا علي صناعة تماسك الأمة ووحدتها وحداثتها في إطار من قيم العدل والمساواة والحرية والمواطنة والاستنارة، تعليم بلا تمييز من أي نوع، وبصفة خاصة بلا تمييز ديني.