الدولار الأمريكي الآن.. تعرف على سعر العملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات اليوم الإثنين    محافظة الإسماعيلية تناقش آليات تطبيق رسوم النظافة وتحسين الأوضاع البيئية    استثمار الذكاء الاصطناعي.. تحول العالم نحو المستقبل    تضم ماركات عالمية، جمارك مطار القاهرة تعرض 16 سيارة في مزاد علني    بسبب سرقة الكابلات النحاسية، تعطل حركة القطارات في برشلونة    خلال حفل عيد العمال، مقتل وإصابة 15 شخصا في حادث إطلاق نار بأمريكا (فيديو)    عاجل - "حماس": ملف التفاوض لا بد أن يؤدي إلى وقف إطلاق نار تام وشامل    كاميرون: نشر القوات البريطانية في غزة من أجل توزيع المساعدات ليس خطوة جيدة    قوات الاحتلال الإسرائيلي تداهم عددا من المنازل في بلدة عزون شرق قلقيلية    المصريين الأحرار يُشيد بموقف مصر الداعم للشعب الفلسطيني أمام محكمة العدل الدولية    رئيس الوزراء الإسباني يشيد بفوز الإشتراكيين في إنتخابات كتالونيا    العدو يحرق جباليا بالتزامن مع اجتياج رفح .. وتصد بعمليات نوعية للمقاومة    كاف يقرر تعديل موعد أمم إفريقيا 2025 بالمغرب    هدف الجزيري يبقى الأمل.. الزمالك يخسر من نهضة بركان 2 / 1 في ذهاب الكونفدرالية    المندوه: التحكيم قيدنا أمام نهضة بركان.. وهذا ما ننوي فعله بشأن حكم الفيديو التونسي    هل يشارك صلاح؟.. تشكيل ليفربول المتوقع ضد أستون فيلا في الدوري الإنجليزي    الكومي: ننتظر تقرير لجنة الانضباط لإخطار الجميع بنتائج أزمة الشيبي والشحات    «الإفتاء» تستعد لإعلان موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات قريبًا    الأمن يحل لغز العثور على جثة شاب أمام وحدة إسعاف في قنا    قضية كلب المذيعة أميرة شنب.. بدأت في كمبوند وانتهت بترحيل زوجها إلى السجن    جهود أمنية لحل لغز العثور على جثة شخص مقتولا بالرصاص بقنا    قصواء الخلالي تدق ناقوس الخطر: ملف اللاجئين أصبح قضية وطن    عزيز مرقة يطرح النسخة الجديدة من «أحلى واحدة» (فيديو)    سيرين خاص: مسلسل "مليحة" أظهر معاناة الشعب الفلسطيني والدعم المصري الكبير للقضية    إقبال الأطفال في الإسماعيلية على ورش الخط العربي (صور)    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد مستشفى الحميات وتوجِّة باستكمال العيادات (صور)    تدريبات خاصة للاعبي الزمالك الذين لم يشاركو في لقاء نهضة بركان    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    رئيس مجلس الأعمال المصري الماليزي: مصر بها فرص واعدة للاستثمار    أربع سيدات يطلقن أعيرة نارية على أفراد أسرة بقنا    طلاب آداب القاهرة يناقشون كتاب «سيمفونية الحجارة» ضمن مشروعات التخرج    أسامة كمال: واجهنا الإرهاب في بلادنا وتصرفاته لا تشبهنا    تعرف على سعر الفراخ البيضاء وكارتونة البيض الأحمر بعد ارتفاعها في الأسواق الإثنين 13 مايو 2024    الكشف على 1328 شخصاً في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    موعد إجازة عيد الأضحى 2024: تحديد أيام الراحة للقطاع الحكومي والخاص    وقوع حادث تصادم بين سيارتين ملاكي وأخرى ربع نقل بميدان الحصري في 6 أكتوبر    "لسه الأماني ممكنة".. ماذا يفعل الزمالك عند التعثر في ذهاب النهائي الأفريقي؟ (تقرير)    نقابة الصحفيين: قرار منع تصوير الجنازات مخالف للدستور.. والشخصية العامة ملك للمجتمع    ارتفاع سعر طن حديد عز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 13 مايو 2024    ليس الوداع الأفضل.. مبابي يسجل ويخسر مع باريس في آخر ليلة بحديقة الأمراء    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    حظك اليوم برج العذراء الاثنين 13-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. لا تعاند رئيسك    عمرو أديب يعلن مناظرة بين إسلام البحيري وعبدالله رشدي (فيديو)    وزيرة الهجرة تبحث استعدادات المؤتمرالخامس للمصريين بالخارج    قمة سويسرية أوكرانية بدون روسيا.. موسكو: «مسرحية غير مجدية»    رئيس جامعة المنوفية يعقد لقاءً مفتوحاً مع أعضاء هيئة التدريس    بمكونات بسيطة.. طريقة تحضير كيكة الحليب    رئيس جامعة طنطا يتفقد أعمال الانشاءات بمستشفى 900900 في لمحلة الكبرى    هل عدم الإخطار بتغيير محل الإقامة يُلغي الرخصة؟    بشأن تمكين.. عبدالله رشدي يعلن استعداده لمناظرة إسلام بحيري    الأعلى للصوفية: اهتمام الرئيس بمساجد آل البيت رسالة بأن مصر دولة وسطية    أمين الفتوى: سيطرة الأم على بنتها يؤثر على الثقة والمحبة بينهما    جامعة حلوان تعلن استعدادها لامتحانات نهاية العام الدراسي    موعد عيد الاضحى 2024 وكم يوم إجازة العيد؟    محافظ أسوان: العامل المصرى يشهد رعاية مباشرة من الرئيس السيسى    المفتي يحذر الحجاج: «لا تنشغلوا بالتصوير والبث المباشر»    في العالمي للتمريض، الصحة: زيادة بدل مخاطر المهن الطبية    منها إطلاق مبادرة المدرب الوطني.. أجندة مزدحمة على طاولة «رياضة الشيوخ» اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسلاميون مدنيون
نشر في الأهالي يوم 28 - 07 - 2011


محمد عبده: تقديم العقل علي ظاهر الشرع
كان من النتائج الكبري لثورة 25 يناير 2011 أن انفتح السجال الفكري «والسياسي والاجتماعي» علي مصراعيه، وانقسمت الحياة الفكرية إلي اتجاهين أساسيين: الأول يضم التيارات المدنية والليبرالية والتقدمية، والثاني يضم التيارات التقليدية الإسلامية السياسية.
وتوجه التيارات الإسلامية السياسية التقليدية إلي التيارات المدنية والليبرالية والتقدمية تهمة ضخمة مفادها أن هذه التيارات المدنية والليبرالية والتقدمية تناصب الدين الإسلامي «كل الدين الإسلامي» العداء والبغضاء، وتسعي إلي إقصائه كله والقضاء عليه.
وبطلان هذه التهمة بطلان واضح مبين، ذلك أن هذه التيارات المدنية المتهمة لا تخاصم إلا الجانب المتشدد الجامد المتعصب من الفكر الديني الضيق، بينما تتلاءم وتتبني وتدعم الجانب المستنير العصري المضيء من هذا الفكر الديني نفسه. والدليل الساطع علي ذلك أن هذه التيارات المدنية المعاصرة تري في الشيخ الإمام محمد عبده (1849 - 1905)، الذي شغل موقع مفتي الديار المصرية، نموذجا مرموقا لرجل الدين الذي لم يجعل دينه يمنع عنه مجاراة الدنيا والعصر، ولم يجعل عصريته تطغي علي دينه، فقدم صورة فريدة «للإسلامي المدني» في آن، عبر سبيكة صحية باهرة.
وعندي، أن هذه السبيكة الصحية الباهرة «سبيكة الإسلامي المدني» تجلت عند محمد عبده في مظاهر عديدة، سأختار منها، الآن، خمسة مظاهر بارزة:
المظهر الأول: مشاركته كمثقف ومواطن في الحياة العامة، السياسية والأهلية والفكرية لوطنه، بدءا من مساهمته في الثورة العرابية، وتأسيسه لمجلة «العروة الوثقي» مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، مرورا بمشاركته في الدعوة إلي إنشاء «الجامعة» الأهلية المدنية بعد أن عاين تكلس الأزهر وغرقه في الدراسة التقليدية الجامدة، وليس انتهاء بصياغته لمبادئ الحزب الوطني المصري الأول في ديسمبر 1881،و حيث أكد أن هذا الحزب «حزب سياسي، لا ديني» يضم «رجالا مختلفي العقيدة والمذهب، ويضم كل من يحرث علي أرض مصر»، فهو حزب لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب، ويعتقد أن الشريعة المحمدية الحقة تنهي عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء.
برزت في هذا المظهر قيم المدنية والتعليم المدني والمواطنة والمساواة الاجتماعية والقانونية والإنسانية ونفي التمييز البشري المقيت.
المصحف والسيف
المظهر الثاني: بيانه العظيم، عبر كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، للأصول الجوهرية الكبري للإسلام، والتي حددها في ثمانية أصول أساسية، نوردها بنصها بدون تعليق أو تفصيل لأنها جلية مستغنية عن الشرح والتفصيل:
الأول: هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، إذ النظر العقلي هو وسيلة الإيمان الصحيح، الثاني: هو تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض، الثالث: هو البعد عن التكفير، الرابع: هو الاعتبار بسنن الله في الخلق، أي الكشف عن القوانين الطبيعية، أو الإنسانية في الكون والواقع، وهو ما يعني «ألا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلي الحق علي غير الدليل»، الخامس: هو «قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، ذلك أن الإسلام «هدم بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه، فالرسول نفسه كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا»، بما يعني أن «لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف»، والحاكم بشر «ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، والدين لا يخصه بميزة ولا يرتفع به إلي منزلة»، والأمة هي التي تنصبه وهي «صاحبة الحق في خلعه متي رأت ذلك في مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه».
وكم هي شاسعة المسافة بين هذه الرؤية المدنية العقلانية المتقدمة ورؤية الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» بعد أقل من ربع قرن علي رحيل محمد عبده، إذ تعلن رؤية حسن البنا ( 1906-1949) الذي ولد بعد عام واحد من رحيل محمد عبده، أن «الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية ومصحف وسيف». وهو إعلان يعني الدعوة إلي إقامة دولة دينية، تتجاوز الأقطار الإسلامية وتضمها في آن، علي أساس أن «الدين وطن»، وإحلال رابطة الديانة والولاء للدين وليس للأمة والوطن، وهو ما يؤسس للتمييز والفرقة بين عنصري الأمة المسلم والمسيحي. ثم امكانية ومشروعية العنف حيث: الروحانية هي الدعوة، والمصحف هو مرجعها، والسيف هو أداة القمع للمخالفين والعقاب للمناوئين، يبدأ بالسيف وينتهي بالصواريخ والمتفجرات وقطع الأذن!
ولقد تناسلت رؤية حسن البنا، فيما بعد، بحيث لم تقتصر علي جماعة «الإخوان المسلمين» وحدهم. بما فيهم حزبهم الوليد منها «حزب الحرية والعدالة». بل تكاثرت إلي جماعات عديدة من الإسلام السياسي والتيارات العنيفة الجهادية والسلفية، التي تبدأ «بجاهلية المجتمع والدولة»، وتمر باغتيال فرج فودة وطعن نجيب محفوظ وتطليق نصر حامد أبو زيد (حفيد محمد عبده) ولا تنتهي بحرق الكنائس!!
السادس: هو حماية الدعوة لمنع الفتنة، وهو أمر مختلف عن قتال البغي والعدوان، السابع: هو مودة المخالفين في العقيدة.
الثامن: هو الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، علي مبدأ يعطي الأولوية للحياة علي الدين، انطلاقا من أن «صحة الأبدان مقدمة علي صحة الأديان».
المظهر الثالث: هو التسامح، الذي جعل محمد عبده يتبني مقولة الإمام مالك «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل علي الإيمان، ولا يجوز حمله علي الكفر».
ديوان الأحوال البشرية
المظهر الرابع: هو الموقف المستنير الرحب من الفنون، حين تحدث عن العلاقة الوثيقة بين الشعر والرسم، متبنيا فيها فكرة عبدالقاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» المتماثلة مع فكرة الشاعر اليوناني سيمونيديز حيث «الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت»، علي نحو فسره جابر عصفور في كتابه «نقد ثقافة التخلف» بأنه «تجاوب التمثيل الحسي للمعني ما بين الشعر والرسم، خصوصا في دائرة الاستعارة التي تفتح إلي مكان المعقول من القلب بابا من العين».
إذ يري الجرجاني أن الاحتفال والصنعة في التصويرات والتخييلات الشعرية تفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس الناظر إلي التصاوير التي يشكلها الحذاق من الرسامين والمصورين، إن الرسم والنحت عند الإمام محمد عبده هما «ديوان الهيئات والأحوال البشرية» قياسا علي الشعر الذي كان «ديوان العرب».
فأين هذا الموقف المتحضر الرفيع من فتاوي تحريم الرسوم والتصوير والتماثيل التي يرفعها المتطرفون الإسلاميون المتعصبون، ومن فتوي الشيخ علي جمعة بتحريم التماثيل، ومن تحطيم طالبان لتماثيل بوذا وغيرها في أفغانستان، وتحطيم رئيس مدينة الشيخ زايد منذ سنوات قليلة للتماثيل في مدخل المدينة، ومن رفع التماثيل من كلية الفنون الجميلة، ومن تحطيم منتقبة متعصبة تماثيل متحف حسن حشمت بالزيتون وهي تصرخ: حرام، حرام؟!
وقد جاري الشيخ أحمد الطيب «المفتي السابق وشيخ الأزهر الحالي» هذا الموقف المستنير للشيخ الإمام محمد عبده من الرسم والتماثيل، حين أباح التماثيل، بل افتخر بأن جده «لأمه» كان فنانا عظيما وصانعا كبيرا للتماثيل.
والمبدأ هنا هو انتفاء الخشية السابقة من تقديس «الأصنام» بديلا عن عبادة الرحمن.
المظهر الخامس: هو احترام «الآخر» والاعتداد به والأخذ عنه، تأسيا علي مقولة الكندي عن «اقتناء الحق من أين أتي»، وإن أتي من الأجناس القاصية عنا، فإنه لا شيء أولي بطالب الحق من الحق، وليس يبخس الحق ولا يصغر بقائله ولا بالآتي به، ومنطلقا كذلك من الوصية التراثية «اطلبوا العلم ولو في الصين»، ومنطلقا كذلك من حكمة بن رشد القائلة أن علي المسلم الاستعانة بما قاله الآخر الذي يتقدمه أو يعاصره، سواء كان ذلك الآخر مشاركا لنا في الملة أو الدين أو اللغة أو غير مشارك لنا، وهو في ذلك ابن مباشر للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، الذي سافر إلي باريس مبعوثا من محمد علي إماما لبعثة علمية، فإذا به ينهل من العلوم الأوروبية في القانون والاجتماع، ويقدم لنا خلاصة ذلك في كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، ويترجم النشيد الوطني الفرنسي إلي العربية، وينقل إلي ثقافتنا الإسلامية بعض المبادئ الحقوقية والاجتماعية والثقافية التي أنتجتها الثورة الفرنسية.
إن معرفة «الآخر» والأخذ منه والتحاور معه والإضافة إليه، كانت وراء السجالات الكبيرة التي خاضها محمد عبده مع الفيلسوف الإنجليزي هربرت سنبسر، والأديب الروسي ليوتولستوي «كما شرح مراد وهبة في كتابه: مدخل إلي التنوير»، ومع الفرنسي هانوتو، وهي الحوارات التي جعلت بعض الشيخ المتزمتين المعاصرين لمحمد عبده يتهمونه بالكفر والخروج عن ملة المسلمين!!
نحن والآخر
هذه الصلة الصحية الندية بالآخر هي التي دفعت الإمام محمد عبده إلي تعلم اللغة الأجنبية «الفرنسية» ليعرف الآخر بلغته، من غير أن يكتفي بلغته العربية أو يتقوقع في «تقديس» لغته وتنزيهها والاكتفاء بها، كما فعل سلف وخلف له، حين قالوا إن العرب «أنطق الأمم»، وأن لغة العرب «أشرف اللغات وأوسعها»، وأن «البديع مقصور علي العرب».
الوريث الأكبر للعقلانية
محمد عبده، إذن، هو سليل عمر بن الخطاب في مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» ومبدأ «حيث المصلحة العامة فثم شرع الله» حين عطل بن الخطاب حدا من حدود الإسلام بسبب الظروف القاهرة في عام الرمادة والجوع، وهو سليل «علي بن أبي طالب» حين دعا إلي «تأويل النص» ذي المعاني المتعددة إذ النص «حمال أوجه» وهو سليل المتصوف عبدالكريم الجيلي الذي بلغ به التسامح الديني إلي أن قال: «فطورا تراني في المساجد راكعا، وطورا تراني في الكنائس راتعا، إن كنت في حكم الشريعة عاصيا، سأكون في حكم الحقيقة طائعا».
وهو سليل المعتزلة الذين اعتمدوا علي إعمال المجاز في مواجهة الظاهر الحرفي للنص، وعلي إعمال العقل والعقلانية و«الدراية»، في مواجهة النقل والتقليدية و«الرواية» وهو سليل بن رشد في توافق الشريعة والفلسفة وعدم تعارضهما، لأن الشريعة حق والفلسفة «العقل والعلم والخبرة البشرية» حق، والحق لا يضاد الحق، وبالتأويل وإعادة التأويل ينسجم النص «الشريعة» مع العقل والحياة.
عروة وثقي
كما أن محمد عبده هو والد التيارات العقلانية التي جاءت بعده، من علي عبدالرازق وطه حسين ومحمد أحمد خلف الله وخالد محمد خالد والشيخ شلتوت وعبدالمتعال الصعيدي، وخليل عبدالكريم وزكي نجيب ومحمد سعيد العشماوي وحسن حنفي ونصر حامد أبوزيد وعبدالمعطي بيومي وعاطف العراقي وجمال البنا، وهو لكل ذلك «عروة وثقي» بين كل المدارس الإسلامية العقلانية المستنيرة القديمة والمعاصرة التي لم تتجمد عند النصوص الحرفية، فاستطاعت أن تقدم نموذجا متفاعلا وصحيا بين الإسلام والعلم والمدنية، وحلولا خلاقة منيرة للتضافر بين النص «المقدس» والواقع «المدنس»، وبين الأصيل والحديث، وذلك علي عكس الكثير من أهل الإسلام السياسي المعاصرين الذين يشهرون في وجه الحياة والتقدم سيف الجمود والرعب والظلام والتخلف.
ونحن نتذكر اليوم محمد عبده في ذكري مرور مائة وستة أعوام علي رحيله، وفي ذكري مرور عام علي رحيل خلفه نصر حامد أبوزيد، نقول بملء الفم والقلب والعقل: إن المدنيين المصريين والعرب الحاليين هم أبناء محمد عبده، ومدرسته العقلانية المستنيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.