ما سر جمال الخط العربى؟ وهل يمكن الارتقاء به إلى الأجمل مع التقدم الإنسانى؟ المتخصصون يرون أن الخط كاللغة العربية، وخزائن مفرداته غنية، لأن الاشتقاق الأنيق يمدها بصيغ جديدة من الجذور القديمة، فيثرى الفنون التشكيلية جيلا فجيل، وترفدها الآثار بمعين لاينضب. وفى استانبول والهند والأفغان وإيران ومصر والمغرب وتونس وسائر المتاحف العالمية حوالي 124 ألف مخطوط نادر، لم يُدرس أغلبها جيدا، بسبب بعثرة الفنون الإسلامية بين متاحف متفرقة حول العالم، وهي من الوفرة لتعطى صورة وافية لتطور فن الخط العربي. وحصلت متاحف أوروبا على مجموعات الخط العربي من البلاد الإسلامية في زمن الاستعمار، ومن مجلوبات الخبراء المولعين بالآثار أواخر القرن التاسع عشر الميلادى، ومن الكنوز التى بعثرتها الأيام فى الكنائس وبيوت الأمراء. وأقيم أول معرض مهم للخط العربي فى مدينة ميونيخ بألمانيا سنة 1910، بسبب جاذبيته الخاصة كأحد الفنون الإسلامية المميزة.
الأمية والكتابة واهتم العرب بالكتابة قبل الإسلام واستعملوها فى تدوين العقود والمواثيق السياسية والتجارية، وشئون الأدب والشعر أيضا، وليس المقصود بأُميَّة العرب الجهل بالقراءة والكتابة، ولا تعنى الحياة البدوية التخلف الحضارى، فالأمية التى قصدها القرآن الكريم أن العرب أمة بلا كتاب سماوى، ونزول القرآن بالبلاغة هذه يؤكد أن العرب كانت لديهم القدرة على فهمه على نحو صحيح.
الخط وتطور الحضارة الإسلامية وتطور الخط العربي مع الحضارة الإسلامية، وقام بدور مهم فيها، لا كوسيلة للتفاهم ونقل الأفكار فحسب، وإنما كفن له خصائصه وقيمه الجمالية الرفيعة. ولعب الحرف العربي دورا مهما فى المخطوطات، وواجهات المبانى، والحشوات الخشبية فى العصور العباسية والطولونية والفاطمية والمملوكية، وفى الزخارف الأندلسية، وفي تزيين المصاحف الشريفة، وتطوير الخط وتجويده، وتلوينه وتذهيبه، فى رؤوس الصفحات والسور، وعلامات الأجزاء والأحزاب. ويحتل الخط العربي هذه المكانة الرفيعة بسبب القرآن الكريم، الذي قال: «ن والقلم وما يسطرون»، و»اقرأ وربك الأكرم، الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم».. وحرص كل الخطاطين الذين كتبوا آيات الله على أدق علامات الجمال لتأكيد جلال المصحف، وتيمناً بآيات القرآن الكريم، والتقرب إلى الله.
خصوصية الفن الإسلامى وحلَّ الخط العربي فى الزخرفة الإسلامية مكان الصورة فى الفن المسيحى، وبات من أهم العناصر الزخرفية لدى الفنان المسلم، فلا يكاد يخلو منه عمل فنى أو مسجد أو منارة فى الأقطار الإسلامية فى جميع أرجاء المعمورة نظرا لخصائصه التى تتيح له التعبير عن قيم جمالية ترتبط بقيم عقائدية تجعله متميزا كونه عنصرا تشكيليا يعين الخطاط على تصميم موضوعاته بشكل أقرب إلى الكمال. وكان العرب قبل الإسلام ينسخون الكتب والصحف، أى ينقلون الكتابة بنصها وحروفها حرفا حتى تكون عند الناقل نسخة كاملة تامة للكتابة التى نقل عنها. ولا شك أن الخط الحيرى والأنبارى بعد انتقاله بزمن إلى مكة خضع لتعديلات تناسب البيئة الجديدة، وتألق اللاحقون فى كتابتة القرآن بإملاء النبى (صلى الله عليه وسلم)، واعتنوا بالتدوين إكراما لجلال التنزيل. وسُمَّى الخط بالمكى بعد دخول الكتابة الحجاز ومكة حينئذ، وبعد انتقال النبى إلى المدينة سُمى بالخط المدنى، ولما أنشأ عمر بن الخطاب مدينة الكوفة سنة 18ه انتقل إليها النشاط السياسى بجانب البصرة فأصبحت صنعة الكتابة أكثر تنميقا، وظهر الخط الكوفى. ولما كانت الكتابة تستخدم فى الدواوين، وأغراض التجارة، والمراسلة، والتأليف، والمكاتبات المختلفة، وانتشر نسخ الكتب، فازدادت الحاجة إلى خط مرن، والسرعة فى الأداء، ومطاوعة لحركة اليد، والانتقال بها فى كل الاتجاهات الدائرية من دون مشقة، فكانت الكتابة المُقورة أو خط التحرير أو النسخ. وحين اُبتدعت الكتابة على جدران المساجد والمحاريب، لم تصلح الكتابة اللينة، وكان الأنسب لاستقامة الألفات واللامات هندسيا، والزوايا الحادة في الحروف، وأن تكون البدايات جامدة مثل النهايات، فكان لابد من الخط الجاف أواليابس، الذي سُمِّي الخط التذكاري، الذي يحفر فى المواد الصلبة كالأحجار، وشواهد القبور، وخشب المنابر، ونحاس الصوانى فى قصور الخلفاء، وظل حتى القرن السادس الهجرى على نفس وظيفته ونفس شكله مع قليل من التجديد. لكن المصاحف الشريفة كانت بحاجة إلى عناية تناسب جلالها وروعتها، فظهر نوع وسط يأخذ من اللين مرونته ومن اليابس هيبته، وهو الخط المصحفى. والخط اللين الذى استخدمه الوراقون لم يلتزم بقاعدة خط النسخ، وكان يكتب بأسلوبه وشكله فقط، فألفات السطر الواحد لم تكن متوازية ولا بارتفاع واحد، وعرضها لم يكن ثابتا، فكانت تكتب بعرض القلم أو نصفه أحيانا، وكذلك الكاسات أي الجزء السفلى من الحروف (ق ل ص س ى) لم تكن متساوية فى اتساعها، ولا سمك بدايتها ونهايتها، مع عدم الالتزام بكتابة الحروف فى أماكنها من السطر وعدم العناية بالترويس لأنه من التجميل، فهذه الكتابة كان هدفها نسخ الكتب بدون تجويد، لذا نجد شكل الحرف الواحد، كالصاد مثلا، يختلف شكله فى الصفحة الواحدة فتراه صغيرا مرة وكبيرا مرة، ومختلف فى بدايته ونهايته، وهذه الكتابة كانت تسمى النسخ الوراقى. وكانت كتب خط النسخ (الملتزمة بالقواعد) كانت تأخذ وقتا أطول في نسخها، وكلماتها جميلة رائعة مريحة للعين وتبهج النفس، لهذا كانت هذه الكتب أغلى بكثير مما كتب بالخط الوراقى، وإذا كانت مزخرفة، أو مُذهَّبة ارتفع ثمنها أكثر. وقد أخذت المدرسة التركية خط النسخ عن السلاجقة، والثُلُث عن المصرية، وأضافت من عندها خطين جديدين هما «الرقعة» و«الديوانى»، ثم أضافت خطين آخرين هما «الإجازة»، وهو مزيج من النسخ والثلث، و«الهيمايونى» وهو مشتق من الديوانى ويُسمَّى «جلى الديوانى». وأخذ الأتراك أيضا عن أمراء الفرس تذهيب المخطوطات، لتزيين الكتب الدينية، بديلا عن الصور، وشمل التذهيب عند الفرس الكتب الأدبية ودواوين الشعر، والمخطوطات بصفة عامة.
التوظيف الجمالى للخط فى التحف الإسلامية ولعبت النصوص الخطية دورا تشكيليا أساسيا سواء فى العمارة والفنون، فى الجص والرخام والحجر والمعادن والزجاج، والخزف والنسيج أو المخطوطات، وتبدو متكاملة تشكيليا مع الزخارف الأخرى، ونرى في الكتابة على التحف قيم تشكيلية كالظل والنور مثلا، ويمكن القول إن كثيرا من كتابات التحف الإسلامية تقف على قدم المساواة مع أروع الصور الحائطية، واللوحات التى أنتجتها فنون الغرب. وما تزال بعض خزائن الكتب تزدان بروائع من الخط العربي، التي أصبحت علما راسخ الأصول، بما تحمله حروفه وهندسة تراكيبها من مرونة وتناسب، حتى باتت من الفنون التى تفسح للأخيلة المبدعة، وللأذواق السليمة أرحب المجالات للإمتاع والراحة. وحري بنا أن نذكر في النهاية، أن كمال أتاتورك حين ألغى الكتابة العربية، أنشأت مصر مدرسة تحسين الخطوط العربية في1922، فحملت لواء تجويد الخط والمحافظة عليه، وتخرج فيها الكثيرون من رواد الخط العربي الأفذاذ.