أعلنت حكومات وشعوب آسيا وأفريقيا الممثلة فى باندونج فى عام 1955، رغبتها فى إعادة بناء النظام العالمى على أساس الاعتراف بحقوق الأمم التى كانت مستعمرة حتى ذلك الوقت. وكان هذا "الحق فى التنمية" هو أساس العولمة فى تلك الحقبة، فى إطار متعدد الأقطاب، ومتفاوض عليه، فُرض على الإمبريالية التى اضطرت للتكيف مع هذه المطالب الجديدة. وكان نجاح باندونج – وليس فشلها كما يجرى الحديث اليوم دون تدبر واعٍ – هو الأساس لقفزة ضخمة للأمام لشعوب الجنوب، فى ميادين التعليم، والصحة، وبناء الدولة الحديثة، وفى كثير من الأحيان فى التقليل من عدم المساواة الاجتماعية، وأخيراً فى البدء فى دخول عصر التصنيع. ولا شك أنه من الضرورى أن نأخذ فى الاعتبار، عند تقييم الحساب الختامى لهذه الحقبة، أوجه النقص فى هذه الإنجازات، وخاصة غياب الديمقراطية فى الأنظمة الوطنية الشعبوية، التى "منحت للشعوب"، ولكنها لم تسمح لها بتنظيم قواها الذاتية. وقد تمفصل نظام باندونج مع النظامين الآخرين المميزين لما بعد الحرب العالمية الثانية، وهما السوفيتية (والماوية)، ودولة الرفاهة الاشتراكية الديمقراطية الغربية. وكانت الأنظمة الثلاثة فى حالة تنافس، بل وصراع (وإن استمرت الصراعات متحكم فيها حتى لا تخرج عن حدود الحروب المحلية المحدودة)، ولكنها كانت لهذا السبب، متكاملة معاً. وهى المرة الأولى فى تاريخ الرأسمالية التى تقوم فيها الصراعات فى جميع أنحاء العالم، وفى داخل جميع الأمم التى يتكون منها، وفى اتجاه تطورها. والدليل على الترابط فيما بين هذه الصراعات، والحلول الوسط التاريخية التى ضمنت إدارة المجتمعات المعنية، يتأكد بمفهوم العكس من التطورات التالية للتآكل المتوازى لإمكانيات التنمية لكل من النظم الثلاثة. فانهيار السوفيتية قد أدى بدوره لانهيار نموذج الديمقراطية الاجتماعية الذى كانت إنجازاته الاجتماعية – وهى حقيقية – قد فُرضت لأنها كانت السبيل الوحيد للوقوف فى وجه "التحدى الشيوعي". ويجب ألا ننسى، فى هذا المجال، صدى الثورة الثقافية الصينية فى أوروبا عام 1968. وبدء مرحلة التصنيع لم يحدث فى إطار منطق التوسع الاستعمارى، وإنما فرضته انتصارات شعوب الجنوب. ولا شك أن هذه الإنجازات، غذت وهم قرب "اللحاق"، فى حين أن الإمبريالية، التى اضطرت للتكيف مع مطالب تنمية بلدان التخوم، أعادت تنظيم صفوفها حول الأشكال الجديدة للسيطرة. فالتناقض القديم بلدان الإمبريالية /بلدان التخوم، الذى كان المرادف للتناقض بلدان مصنعة/بلدان غير مصنعة، حل محله تناقض جديد مبنى على مركزة المكاسب المترتبة على "الاحتكارات الخمسة الجديدة للمراكز الإمبريالية" (وهى التحكم فى التقنيات الجديدة، والموارد الطبيعية، والتدفقات المالية، والاتصالات، وأسلحة الدمار الشامل). لقد اتخذ مشروع باندونج أشكالاً متعددة، فبحسب الظروف الاجتماعية والسياسية الخاصة بكل بلد، وتفاعل القوى العالمية والإقليمية، نجد أنواعا متباينة من التحولات التى انتشرت بالتدريج خلال الدورة التالية للحرب العالمية. إن مدى النجاح فى مشروع نهضوى وصعود اقتصادى ليس بقدر الخضوع للإملاءات الليبرالية، بل على النقيض بقدر صمود المشروع الوطنى المستقل، لضغوط المشروع الليبرالى. والنظر فى إنجازات المرحلة، وكذلك حدودها، تدعونا للعودة للقضية الرئيسية، ألا وهى مستقبل البرجوازية، والرأسمالية فى تخوم النظام. وبعبارة أخرى، هل كانت برجوازيات التخوم مضطرة بالضرورة للخضوع لمتطلبات هذا النمو غير المتكافئ ؟ وهل الطريق الرأسمالى لذلك السبب، مأزق لا فكاك منه؟ أو أن هامش المناورة الذى تستطيع البرجوازية أن تستفيد منه فى ظل بعض الظروف يسمح لها بتنمية رأسمالية وطنية قادرة على التقدم فى طريق اللحاق؟ وما هى حدود هذه الظروف والإمكانيات. وقد قدمت إجابات نظرية قاطعة على هذه التساؤلات فى أحد الاتجاهات يوماً ما، ثم فى الاتجاه المضاد بعد ذلك، وفى جميع الحالات، كانت هذه الإجابات مصاغة لتتواءم مع التطورات التى لم يتوقعها لا القوى المسيطرة، ولا القوى الشعبية. لقد طويت صفحة باندونج فى كانكون، فى عام 1981، عندما بدأ الرئيس ريجان الهجوم لإعادة تثبيت قيادة الولاياتالمتحدة، والسيطرة العالمية لما أطلقتُ عليه "الإمبريالية الجماعية للثلاثى، الولاياتالمتحدة، وأوروبا، واليابان. ويمثل انهيار الاتحاد السوفييتى فى عام 1990، الذى تلا تحول الصين ما بعد الماوية فى الثمانينيات، التواريخ الجديدة الدالة على نهاية حقبة، وبداية مرحلة انتقالية نحو حقبة جديدة، لم تتضح معالمها بعد. والعالم الثالث الجديد يتكون من مجموع البلدان التى نجحت فى "تحديث" نفسها بدرجة كافية وفقاً لمعايير المنافسة الدولية. وهى تضم بصفة عامة جميع البلدان الكبرى فى أمريكا اللاتينية وفى شرق آسيا (الصين والكوريتان وتايوان)، وبلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتى السابق، فهذه , فى رأيي، ستصبح التخوم الحقيقية غداً. أما العالم الرابع فيضم بقية بلدان العالم، أى بصفة عامة أفريقيا، والعالم العربي، والإسلامي. وبالطبع توجد اختلافات واضحة وكبيرة بين هذه المجموعة الأخيرة، فبعضها حققت بعض الخطوات على طريق التصنيع، ولكنها فشلت فى أن تكون منافسة فى هذا المجال (مصر وجنوب أفريقيا مثلاً)، وبعضها لم تدخل أصلاً فى مرحلة الثورة الصناعية (أفريقيا جنوب الصحراء، وباكستان، وبنجلاديش، وإندونيسيا). وتوجد ضمن هذه المجموعة بلدان "غنية"، مالياً، مثل البلدان البترولية بدون سكان، وبلدان "فقيرة" بدرجات متفاوتة (من ساحل العاج وحتى الصومال). والمعيار الذى أستخدمه هنا ليس الدخل لكل فرد من السكان، وإنما القدرة على الانخراط فى النظام العالمى للإنتاج. وهناك بالطبع، بلدان تختلط فيها هذه المعايير لحد ما، والهند واحدة منها. وهكذا يتكرر تساؤل الأمس مرة أخرى اليوم: هل يسمح الطريق الرأسمالى لأولئك الذين يستطيعون السير فيه كشركاء فاعلين، يرفضون التكيف الأحادى الجانب لمتطلبات التحرك الإمبريالي، ويتمكنون من أن يفرضوا عليه التكيف مع متطلبات تنمية الجنوب، "باللحاق"؟ إن وضع البلدان "الصاعدة" الذى يحتل مقدمة المسرح، وتدور حوله المناقشات الحامية اليوم. وتواجه جميع شعوب هذا العالم الثالث والرابع – الأغلبية من الطبقات الشعبية – التحدى ذاته، ولكن ظروف نضالها ضده تختلف. والتحدى هو أن رأسمالية التخوم لا تقدم أى خيار مقبول على أى من المستويات الاجتماعية والسياسية، للأغلبية الشعبية. ومع ذلك، فالتكوينات الاجتماعية لبلدان التخوم من العالم الثالث، تضم جيشاً كبيراً من العاملين، إلى جانب جيش كبير من الاحتياطى الذى لا يمكن استيعابه، ولذلك تتوافر الفرصة الموضوعية لقيام تحالف اجتماعى شعبى قوى، يستطيع أن يتبلور عبر النضال فى الساحة الحقيقية من أجل إدارة نظام الإنتاج، ومن أجل ديمقراطية السياسة والمجتمع. وبالطبع هناك عقبات حقيقية، ومختلفة فى طبيعتها، أمام هذا التبلور، والعقبة الأيديولوجية ليست من أقلها خطورة. وبلدان شرق أوروبا من هذه المجموعة، فهل ستتمكن شعوبها من التحرر من أوهام الرأسمالية، وتتجنب السقوط فى القومية الشوفينية؟ والصين تقع هى الأخرى ضمن هذه المجموعة، فهل ستتمكن طليعتها من تجديد الماوية، مع إضافة مكون ديمقراطى بالمعنى الحقيقى – أى التنظيم المستقل للطبقات الشعبية لموازنة التنازلات الممنوحة للرأسمالية؟ وفى المقابل، تتعرض التكوينات الاجتماعية فى "العالم الرابع" – "الغنية" أو "الفقيرة"، غير المصنعة أو المصنعة بدرجة قليلة (وبذلك تتعرض صناعتها للتفكيك فى ظل سياسة الكومبرادورية السائدة) - فى الواقع العملى للتناقض بين "الشعب" (غير المحدد وغير المرتبط بنظام للإنتاج يُعتمد عليه) و"السلطات". وفى هذه الحالات، فإن تدهور الصراعات نحو مجال الغيبيات يصير أحد المعطيات – الكارثية بالتأكيد – الحقيقية للأوضاع. وفى العالم العربى والإسلامى، يعطى التحالف بين أموال البترول والخطاب المنهجى التقليدى الماضوي، رغم ادعائه "الأصولية"، أكبر ضمان لنجاح الخطط الإمبريالية لفرض الكومبرادورية على المنطقة. وفى أفريقيا جنوب الصحراء، تتخذ الاتجاهات الغيبية فى بعض الأحيان أشكالاً أخرى مثل الإثنية، التى قد تؤدى لتفكيك بعض البلدان. يجب على حركتنا - وباستطاعتها - أن تعمل داخل منظمة الأممالمتحدة لاستعادة حقوقها التى سلبها نظام العولمة الظالم والمسيطر حاليا. فهناك الآن ما يسمى ب«المجتمع الدولى» الذى نصّب نفسه بديلا عن منظمة الأممالمتحدة. ولا تكف وسائل إعلام القوى المهيمنة عن ترديد أن «المجتمع الدولى يعتقد كذا وكذا» أو أن «المجتمع الدولى قد قرر ذاك وذاك. وبالنظر عن قرب نجد أن هذا «المجتمع الدولى» يتكون من الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى ودولتين أو ثلاث منتقاة بعناية من قبل السابقين مثل المملكة العربية السعودية أو قطر. هل هناك إهانة أشد من ذلك لشعوبنا؟ الصين والجزائر ومصر والسنغال وأنجولا وفنزويلا والبرازيل وتايلاند وروسيا وكوستاريكا وغيرهم الكثير، لم يعد لهم وجود. ولم يعد بإمكانهم إسماع صوتهم ضمن المجتمع الدولى. نحن نحمل مسئولية كبيرة داخل منظمة الأممالمتحدة حيث نكوّن مجموعة عددية متفوقة من أجل فرض استعادة حقوق منظمة الأممالمتحدة فى أن تكون الإطار الوحيد المقبول للتعبير عن رأى المجتمع الدولى. لمزيد من مقالات د. سمير أمين