محمد الزهيري رحّبت موسكو بشكل ملفت بوثيقة الأمن القومى الجديدة التى أعلنها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب واعتبرت أنها تمثل تحولًا مهمًا فى طريقة تعامل واشنطن مع روسيا بعد سنوات من التوتر والاتهامات، كما رأت القيادة الروسية أن الوثيقة، التى خلت للمرة الأولى منذ أعوام من وصف موسكو بأنها «تهديد مباشر»، تعكس مراجعة جادة داخل العقل الاستراتيجى الأمريكي، وتفتح الباب أمام تعاون محتمل لحل الأزمة فى أوكرانيا وإعادة بناء الاستقرار الاستراتيجى بين البلدين. وفى أول تعليق رسمي، أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن النسخة المحدثة من الاستراتيجية الأمريكية تكشف عن «إعادة تفكير عميقة» فى الأسس العقائدية للسياسة الخارجية لواشنطن مقارنة بوثيقة عام 2022، وأوضحت أن الوثيقة لا تتضمن مجرد تغييرات شكلية، بل تحمل بنودًا تتيح إمكانية العمل المشترك بين موسكووواشنطن للبحث عن مخرج سلمى للنزاع فى أوكرانيا، وشددت زاخاروفا على أن بعض الفقرات المتعلقة بالأزمة الأوكرانية ترسخ لأسس بناءة لمواصلة الجهود المشتركة، مؤكدة أن موسكو تأمل أن تؤثر هذه التحولات على ما وصفته ب«حزب الحرب» داخل أوروبا. اقر أ أيضًا | الكرملين: موسكو لم تطلع بعد على النسخ المعدلة من خطة السلام الأمريكية ويأتى هذا الموقف الروسى بالتزامن مع تأكيد الوثيقة الأمريكية أن واشنطن تختلف مع توقعات بعض المسؤولين الأوروبيين الذين يتبنون رؤية «غير واقعية» حول مسار الأزمة الأوكرانية، فبالرغم من حالة القلق التى أثارتها الوثيقة داخل العواصم الأوروبية، فإن موسكو رأت أنها تتوافق مع كثير من تصوراتها، خاصة أن الاستراتيجية تدعو الأوروبيين لتحمل مسؤولياتهم الدفاعية، بدلا من الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة كما كانت تفعل الإدارات السابقة. ومن أبرز الإشارات التى لاقت ترحيبًا روسيًا فى الوثيقة هى إعلان واشنطن رغبتها فى إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجى مع موسكو، وهو التوجه الذى وصفه المتحدث باسم الكرملين دميترى بيسكوف بأنه «خطوة إيجابية»، مؤكدًا أن التعديلات التى تضمنتها الوثيقة تتوافق «فى كثير من الجوانب» مع رؤية روسيا؛ فضلا عن أن بيسكوف أشاد أيضا بتأكيد الوثيقة على ضرورة وقف توسع الناتو، وهو ملف يشكل جانبا أصيلا فى الخلافات التاريخية بين الجانبين. ورصدت العديد من التقارير الإعلامية الروسية والغربية خلفية هذا التقارب الجزئى وأشارت إلى أن العلاقات بين البلدين شهدت فى العقود الأخيرة موجات من التعاون والقطيعة؛ فبعد تعاون كبير عقب انهيار الاتحاد السوفيتى وهجمات 11 سبتمبر، عادت التوترات للواجهة مع توسع حلف الناتو وما تبعه من صدامات سياسية بلغت ذروتها بوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. ورغم الترحيب الروسى إلا أن موقف موسكو لم يخل من التحفظات، فقد حذّر بيسكوف من تأثير ما وصفه ب»الدولة العميقة» داخل الولاياتالمتحدة والتى قال إنها قد تعرقل تنفيذ رؤية ترامب رغم قوتها داخل المؤسسة الأمريكية، كما أشار إلى أن هذا المصطلح هو نفسه الذى استخدمه ترامب فى وصف مسؤولين يرون العالم بمنظور مختلف عنه، فى وقت ينفى فيه منتقدو الرئيس الأمريكى وجود مثل هذه الشبكة من الأساس. ويرى محللون أنه بينما تقلل الوثيقة الجديدة من التهديد الروسي، فإنها تزيد التركيز على مواجهة الصين وتعزيز الوجود العسكرى الأمريكى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، خصوصًا مع تصاعد التوترات بشأن تايوان وهو التحول الذى تراقبه موسكو عن قرب فى ظل تقاربها المتزايد مع بكين بعد العقوبات الغربية التى تفرض عليها منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية. وفى تصريحات أخرى لوكالة «تاس»، أكد بيسكوف أن غياب الإشارة إلى روسيا كتهديد مباشر أمر إيجابي، مشيرًا إلى أن رسائل إدارة ترامب تختلف جذريًا عن الإدارات السابقة، وأن الكرملين سيقوم بتحليل الوثيقة بالتفصيل لما تتضمنه من إشارات تخص مستقبل العلاقة بين البلدين. وفى مقابلة تلفزيونية قال بيسكوف: إن قوة موقف ترامب الداخلى تمنحه مساحة لتطبيق رؤيته التى تتقاطع مع السياسة الروسية فى عدد من الملفات، وأضاف أن الوثيقة قد تشكل «ضمانة متواضعة» لمواصلة العمل على حل الأزمة الأوكرانية مع ضرورة متابعة كيفية تطبيقها عمليًا على أرض الواقع. فى نهاية الأمر يمكن القول أن موسكو تعتقد أن وثيقة الأمن القومى الأمريكية الجديدة قد تفتح نافذة لإعادة صياغة العلاقة المتوترة مع واشنطن، بعد سنوات من الصدام والاتهامات المتبادلة، ورغم أن الترحيب الروسى بالوثيقة ظهر واضحًا وصريحًا على لسان العديد من المسؤولين الروس والبيانات الرسمية، إلا أن روسيا تدرك أن تنفيذ هذه الرؤية سيصطدم بعوامل داخلية أمريكية معقدة بالإضافة إلى تحولات المشهد الدولي، خاصة العلاقة الثلاثية بين الولاياتالمتحدةوروسياوالصين.