تعكس وثيقة الأمن القومى الأمريكية الجديدة التى أصدرتها إدارة الرئيس دونالد ترامب تحوّلاً عميقاً فى نظرة واشنطن للقارة الأوروبية ولشكل التحالفات التى حكمت النظام الغربى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتكشف الوثيقة عن انتقال واضح من منطق الشراكة التقليدية إلى رؤية أكثر براغماتية وأحياناً أكثر صدامية فى التعامل مع أوروبا. لقد كان الجزء الأكثر حساسية فى الوثيقة يتعلق بأوروبا، إذ تقدم الوثيقة القارة بوصفها كياناً يعانى أزمات مركبة تتجاوز الاقتصاد والدفاع إلى أزمة هوية حضارية، وتتحدث عن احتمال «اندثار أوروبا حضارياً» إذا استمرت الاتجاهات الحالية، وتشير إلى أن انخفاض معدلات المواليد، وتوسع مؤسسات فوق وطنية تقوّض السيادة، وسياسات الهجرة التى تعيد تشكيل المجتمعات، كلها عوامل تضع مستقبل القارة فى مهب الريح. اقرأ أيضًا | وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2025 تُعيد رسم خريطة النفوذ في آسيا وتضيف الوثيقة أن أوروبا رغم قوتها الاقتصادية والتكنولوجية ما تزال تفتقر إلى الثقة بنفسها، وأن الكثير من حكوماتها تميل إلى تقييد الحريات العامة وإضعاف المعارضة، مما يجعلها أقل قدرة على إصلاح نفسها، وتعتبر واشنطن أن هذا الضعف السياسى يهدد مستقبل التحالف، لأن بعض الدول الأوروبية قد لا تمتلك فى المستقبل جيوشاً أو اقتصادات قوية تسمح لها بالبقاء حلفاء موثوقين. ومع ذلك ترى الوثيقة أن أوروبا ما تزال منطقة ذات أهمية استراتيجية وثقافية وعلمية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة، فالتجارة عبر الأطلسى ما تزال إحدى ركائز الاقتصاد العالمى وأحد مصادر الازدهار الأمريكي، كما تبقى القطاعات الأوروبية من الصناعة إلى التكنولوجيا إلى الطاقة من الأقوى عالمياً، وتستضيف أوروبا أحداثاً علمية وثقافية رائدة. لذلك، لا يمكن للولايات المتحدة التخلى عن أوروبا، لكنها فى الوقت نفسه تطالبها بأن تتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، وأن تعتمد على نفسها فى الدفاع، وأن تفتح أسواقها للسلع والخدمات الأمريكية، وتواجه الممارسات الاقتصادية العدائية مثل سرقة التكنولوجيا والتجسس الإلكتروني. وتحذر الوثيقة من أن بعض دول الناتو قد تصبح ذات أغلبية غير أوروبية خلال عقود قليلة، مما يجعل ولاءها الاستراتيجى للولايات المتحدة موضع تساؤل. ولذلك تدعو واشنطن إلى إعادة إرساء الاستقرار داخل أوروبا وتمكين القارة من العمل كتحالف قادر، وإنهاء فكرة أن حلف شمال الأطلسى «الناتو» تحالف يتوسع بلا نهاية. وعند مقارنة هذه الوثيقة برؤية إدارة الرئيس السابق جو بايدن، تبدو الفجوة واضحة، فقد كان بايدن يُعرّف أوروبا على أنها ركيزة أساسية فى النظام الدولى الليبرالي، وأن علاقتها مع الولاياتالمتحدة تقوم على قيم مشتركة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل المشترك داخل التحالفات المتعددة، وكان تركيزه منصباً على تعزيز حلف شمال الأطلسى ودعم أوكرانيا ومواجهة روسياوالصين من خلال جبهة غربية موحدة. أما رؤية ترامب فتقدّم صياغة معاكسة، إذ يرى أن التحالف ليس قيمة فى حد ذاته، بل أداة قابلة للتغيير حسب المصلحة، وأن على الحلفاء الأوروبيين دفع ثمن أكبر. وفى هذا السياق تصبح أوروبا مطالبة بالالتزام بخطوط سياسية جديدة، وإلا فإن التعاون معها سيخضع لشروط أو للتقليص، ويظهر التغيير الأبرز بين وثيقتى بايدن وترامب فى ملف أوكرانيا، حيث تعكس وثيقة ترامب ميلاً واضحاً إلى خفض الالتزام الأمريكى والدفع نحو تسوية سريعة لا تتوافق بالضرورة مع الرؤية الأوروبية للحرب، مما أقلق العواصم الأوروبية التى تعتمد على واشنطن كعامل رئيسى فى موازنة القوة الروسية. وهكذا، يبرز التباين الكبير بين إدارتى ترامب وبايدن فى أن الأولى تعطى الأولوية للمصالح القومية المباشرة، بينما الثانية كانت ترى فى أوروبا شريكاً أساسياً يقوم على القيم المشتركة والديمقراطية، مما يعكس تحولاً جوهرياً فى استراتيجية واشنطن تجاه القارة الأوروبية. ومنذ تولّى ترامب السلطة، برزت آثار هذه الرؤية الجديدة فى العلاقات اليومية بين الطرفين، فعلى مستوى التصريحات، ظهرت لهجة أكثر حدة تجاه أوروبا، سواء فيما يتعلق بإنفاقها العسكرى أو سياساتها الداخلية. وفى أكثر من مناسبة تحدث مسؤولون أمريكيون عن ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية الدفاع عن نفسها، بل وذهب بعضهم إلى القول إن واشنطن لن تستمر فى حماية من لا يحمون أنفسهم، وقد أدى هذا الخطاب إلى توترات سياسية، خصوصاً لدى دول شرق أوروبا التى تعتمد على الضمانات الأمنية الأمريكية. وتشير الوثيقة إلى أن الإدارة الأمريكية اتجهت نحو إعادة توزيع التزاماتها الدولية، مع تركيز أكبر على الحدود الجنوبية وحماية الاقتصاد الأمريكى ومراجعة العلاقات التجارية، وقد أثرت هذه التوجهات على أوروبا، خاصة فى ملفات التجارة والاستثمار والطاقة، حيث تخشى الدول الأوروبية من أن يؤدى الانكفاء الأمريكى إلى اضطرابات اقتصادية جديدة، فى وقت تعيش القارة أصلاً تحديات معقدة. أما داخل أوروبا، فقد ظهرت ردود فعل رسمية سريعة، حيث وصفت بعض الحكومات الوثيقة الأمريكية بأنها تدخل فى الشؤون الداخلية وأنها تتجاوز الشراكة التقليدية إلى محاولة فرض نموذج سياسى وأمني، واعتبر مسؤولون فى الاتحاد الأوروبى أن الوثيقة تتضمن انتقادات مبالغاً فيها لسياسات الهجرة الأوروبية، وأنها تُحمّل القارة مسؤولية مشكلات ليست بالضرورة ناتجة عن خياراتها، بل أيضاً عن أزمات عالمية لا تسيطر عليها. ولعب الإعلام الأوروبى دوراً مهماً فى إبراز حجم الصدمة، حيث تحدثت مقالات الرأى عن أن العلاقات عبر الأطلسى تمر بمرحلة غير مسبوقة من إعادة التشكل، وقال بعض المحللين إن واشنطن لم تعد ترى فى أوروبا شريكاً استراتيجياً، بل تقيّم علاقتها معها بمنطق الصفقات القصيرة المدى، بينما ذهب آخرون إلى القول إن أمريكا تعيد صياغة النظام الدولى على أساس قومى ضيق، وأن أوروبا ليس لديها استراتيجية موحدة لمواجهة هذا التحول فى الموقف الأمريكي. وقد قدمت النخب الفكرية والأكاديمية فى أوروبا قراءات متعددة، فهناك من اعتبر أن الوثيقة تعكس حقيقة موضوعية، وهى أن أوروبا تعانى بالفعل من ضعف استراتيجى وأن عليها تحمّل مسؤولية أكبر، وفى المقابل يرى آخرون أن واشنطن تستخدم لغة مبالغاً فيها بهدف الضغط السياسي، وأن استراتيجية الأمن القومى ليست بالضرورة انعكاساً دقيقاً لكل السياسات الأمريكية المقبلة. لكن ما اتفقت عليه معظم التحليلات الأوروبية هو أن القارة أمام تحد وجودى فى علاقتها بالولاياتالمتحدة، فرغم التوترات، لا تزال أوروبا تعتمد بشكل كبير على القدرات العسكرية الأمريكية، خاصة فى ظل استمرار الحرب فى أوكرانيا. لذلك ظهرت دعوات متزايدة لتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية، وهو مفهوم يكتسب زخماً أكبر اليوم ويشمل تطوير الصناعة العسكرية الأوروبية، وتوسيع القدرات الدفاعية، وتعزيز التعاون الأمنى الداخلى بعيداً عن الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة. وفى الوقت نفسه بدأت دول أوروبية كبرى مثل فرنسا وألمانيا بدراسة احتمالات إعادة موازنة علاقاتها مع الصين، خصوصاً إذا اتجهت واشنطن إلى مواجهة أوسع مع بكين، وتخشى أوروبا من أن تجد نفسها مجبرة على الانحياز إلى أحد الطرفين على حساب مصالحها الاقتصادية، وهى تحاول الحفاظ على مساحة مناورة أوسع، مما يعكس إدراكاً متزايداً بأن التحولات فى واشنطن ستؤثر فى صياغة خيارات السياسة الخارجية الأوروبية. وفى المجمل تكشف الوثيقة أن العلاقة عبر الأطلسى لن تعود بسهولة إلى ما كانت عليه، وأن أوروبا تقف أمام اختبار صعب يتطلب إعادة تقييم شاملة لموقعها فى العالم وتحالفها مع الولاياتالمتحدة.