«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخاسرون 9 الفائزون :أمريكا.. إعادة ضبط دفة السياسة الخارجية لواشنطن
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 04 - 2025

عامر تمام - منى العزب - ياسمين السيد هانى - محاسن الهوارى - نوال سيد عبدالله
هذا هو درس القرون الماضية فقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى إنهاء نظام عالمى وأبرز ملامحه ال 14 مبدأ التى أقرها الرئيس الأمريكى ويلسون وتم خلالها إنشاء عصبة الأمم وجاءت الثانية لترسى نظاما عالميا جديدا قام على إنشائه دول التحالف المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية وخلقت نظام ثنائى القطبية أمريكا من ناحية والاتحاد السوفيتى من ناحية أخرى وقد تعددت الأحداث فى تغيير ملامح النظام العالمى المستقر منذ أربعينات القرن الماضى منها انهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه وانقسامه إلى دول بعضها ليس على وفاق مع موسكو وكذلك هجمات الحادى من سبتمبر 2001 والتى شكلت أخطر ضربة للقدرات الأمريكية ناهيك عن الغزو الأمريكى للعراق فى أبريل من عام 2003 والذى كرس سطوة امريكا على العالم ويومها دعى بوش الأب إلى نظام عالمى جديد وأصبحنا أمام القطب الواحد الذى يسيطر على مقدرات الأمور الدولية.
ولهذا ليس من المبالغة الحديث عن ملامح النظام العالمى الجديد مع بداية دخول ترامب مكتبه البيضاوى تكشف كل مواقفه عن سعيه إلى إسقاط النظام العالمى الذى استمر 80 عاما وساعدت واشنطن على بنائه فهو صاحب رؤية أن «هناك فجر عصر جديد» حيث تعتمد الدول على نفسها وفى تخلى عن النظام المستقر سابقا ورغم أن أمريكا كانت تميل للعزلة بساعدها فى ذلك الجغرافيا السياسية لها ولكنها نجحت فى التوازن بين ذلك والالتزام بالأمن العالمى والتجارة الحرة ومع ذلك فإن ترامب يراهن على إحداث صدمة قد تعيد رسم خارطة الاقتصاد العالمى كطريق لإعادة ترتيب النظام العالمى وفقا لمصالح واشنطن كأداة هيمنة وليس كأداة حماية كما أنه يستهدف اللاعبين الكبار الثلاثة فى النظام العالمى القديم وهم الاتحاد الأوروبى والصين وروسيا فهو يعتبر الصين ليس مجرد منافس اقتصادى بل تهديد استراتيجى شامل ويسعى إلى تفكيك أوربا كجزء من مخطط لتفكيك الكيانات الكبرى مثل الاتحاد الأوربى واستبدلها بشركاء أضعف كما أن واشنطن تعتمد على التحالفات الثنائية الانتقائية بدلا من الشراكات متعدد الأطراف.
ولعل أبرز تلك الملامح أيضا تصريحات الرئيس ومجموعة الأوامر التنفيذية التى دأب على توقيعها علنا وفى حضور أجهزة الإعلام فى ممارسة سياسة «الصدمة والترويع» حسب وصف الصحفى الأمريكى الشهير توماس فريدمان، خاصة أن بعضها كان خارج العقل والمنطق من ذلك دعوته إلى ضم أراضى ودول مجاورة فقد كشف ترامب علنا عن مطالبه بضم جرين لاند بطريقة أو باخرى واستعادة السيطره على قناة بنما وتحويل كندا إلى الولاية 51 ولم يخف هدفه وسعيه لاستعادة عظمة أمريكا ويرفع شعار أمريكا أولا حتى لو كان الأمر على حساب علاقات وتحالفات مستقرة منذ عقود طويلة.
ودعونا نتفق على أمر النظام العالمى الجديد ليس مرهونا فقط بالإرادة الأمريكية بل على القوى الكبرى الأخرى فعلى الصعيد الأوربى وعلى صعيد صدمة مواقف ترامب من حرب أوكرانيا تحديدا وميله إلى الانفتاح على روسيا ودعوته إلى رفع معدلات الإنفاق الدفاعى دفع دول الاتحاد إلى تحميل واشنطن مسئولية وقطع وعرقلة الطريق على إمكانية نشوء قوة عسكرية أوربية دفاعية بعد أن ركنوا على فكرة قيام واشنطن بالدور وسعيها إلى قيادة العالم ووصل الأمر إلى أن دول مثل السويد وفنلندا سعت إلى إحداث تغييرات جذرية فى عقيدتها الحيادية ودفع بها إلى أحضان الأطلنطى بعد أن وجدت نفسها فى عين العاصفة مع أول صراع مع روسيا خاصة أن خبيرا عسكريا بريطانيا إيد نولد من مركز الأبحاث البريطانى توقع أن دول حلف الأطلنطى قد تنخرط فى مواجهة عسكرية مع روسيا خلال عامين.
أما الصين وهى فى مقدمة المستهدفين من سياسات ترامب وقد قبلت التحدى رغم أنها تاريخيا حريصة على عدم الدخول فى أى مواجهات مع واشنطن بعد قرار ترامب برفع الرسوم الجمركية مؤخرا 145 بالمائة وعلى سلع أخرى 245 بالمائة فقد تعددت ردودها من فرض نفس النسبة وزادت عليها حظر تصدير المعادن النادرة والتى تدخل فى تصنيع منتجات عديدة والذى تسبب فى كوارث لشركات مثل تسلا لصناعة السيارات الكهربائية كنموذج وتسعى إلى إيجاد موطئ قدم لصادراتها فى دول وتجمعات مختلفة منها تكتل بريكس الذى يسعى إلى نظام للتعامل والمبادلات بين أعضائه بعيدا عن الدولار وهناك توقعات بالنظر فى إمكانية تحقيق اصطفافات صينية وأوربية.
وتظل روسيا والتى تكون أكثر من استفاد من وجود ترامب فى البيت الأبيض.
فقد نجح ترامب خلال أقل من مائة يوم فى فك العزلة الغربية عن بوتين التى استمرت سنوات الحرب مع أوكرانيا وأصبح أميل إلى تبنى سياساته ومواقفه بالنسبة إلى إنهاء الحرب فى أوكرانيا والضغط على رئيسها ومنها سيطرتها على شبه جزيرة القرم والتى تمثل خطا أحمر له ولأوروبا ويذكر فى هذا الإطار إن روسيا مازالت تناور بعلاقاتها مع دول مثل إيران بعد إقرار من بوتين لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين بعد التوقيع عليها خلال اجتماعه مع نظيره الإيرانى فى يناير الماضى.
وأخيرا فهناك مخاوف من ترسيخ مفاهيم ترامب لتكون جزءا من سياسة أمريكية معتمدة حتى بعد نهاية ولايته الحالية يضاف إلى ذلك عدم وضوح مواقفه من الركائز الأساسية للنظام العالمى الذى ظهر عام 1945 منها حلف شمال الأطلنطى ومعاهدة منع الانتشار النووى والأمم المتحدة ومؤسساتها منها الصندوق والبنك الدوليين ومجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية ووكالة غوث اللاجئين.
والخلاصة أن أمريكا هى من ترسم خريطة العالم الجديد وتبدو أوربا أكبر «الخاسرين» والصين مازالت تناور بين عدم رغبة فى الصدام والقدرة على الدفاع عن مصالحها أما روسيا فقد تكون «أكبر الفائزين» إذا نجحت فى خلق علاقة مختلفة مع ادارة ترامب.
اختفلت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشكل جذرى عن سابقتها بشكل جذرى. وجاءت ردود الفعل الدولية بما ينبئ بأن هناك نظاما عالميا جديدا بدأ يتشكل تختلف فيه موازين القوى عما كانت عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
ويرى ديفيد شينكر المسئول السابق فى وزارة الخارجية الأمريكية إن ترامب ليس لديه تقدير للنظام العالمى الذى أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والذى يعود عليها بفوائد كبيرة، رغم وجود بعض المشاكل، بحسب تعبيره.
ويعزو السبب فى ذلك إلى غياب القيم الجمهورية التقليدية فى إدارة ترامب الثانية، نظراً إلى عدم اعتماده على شخصيات جمهورية تقليدية -على خلاف ولايته الأولى- تمكنت من السيطرة على بعض اندفاعاته، وقد غابت هذه الوجوه عن إدارته الثانية وتنوعت ملامح سياسات ترامب تجاه العديد من الملفات فى تغيير واضح والذى اتخذ عددا من المسارات.
لعل ابرزها ملف العلاقات مع اوروبا.ورغم انه كثيرا ما حدثت خلافات بين الجانبين على مدار الأعوام المئة الماضية، إلا ان الأزمة الحالية التى تصل فيها الخلافات لهذه الحدة تعد الأعمق، ربما لأنها اصبحت تمس الأسس العميقة للرابطة الأطلسية، والقيم المشتركة بين القارة العجوز والدولة الأقوى فى العالم.
ويرى بعض المحللين أن ترامب يعتمد على هذه السياسات والمواقف المثيرة للجدل للحصول على تنازلات خاصة من الأوروبيين، فهو يريد أن يفكك الاتحاد الأوروبى، ثم يقوم بالتفاوض مع كل دولة على اتفاقيات تجارية فردية.
كما بدأ ترامب خفض الإتفاق الدفاعى تجاه حلفائه الأوروبيين منذ أواخر ولايته الأولى حيث أبلغ ترامب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عام 2020 أنها تحتاج إلى أن تفهم أنه فى حال تعرضت أوروبا للهجوم، فإن الولايات المتحدة لن تأتى أبدا لتقديم المساعدة والدعم، وأن حلف شمال الأطلسى «الناتو» قد مات، وأن أمريكا ستنسحب منه.
ومع بدء ولايته الجديدة أشار ترامب إلى أن الولايات المتحدة تتحمل عبئًا غير متناسب فى الدفاع عن أوروبا، وطالب حلفاء الناتو بزيادة إنفاقهم الدفاعى إلى 5٪ من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما يتجاوز بكثير الهدف الحالى البالغ 2٪، والذى لم يحققه سوى 23 من أصل 32 عضوًا فى الحلف حتى الآن. وهدد بإمكانية انسحاب بلاده من الناتو إذا لم يلتزم الحلفاء بهذه الزيادات.
وأثارت هذه المطالب قلقًا واسعًا فى العواصم الأوروبية، حيث اعتُبرت غير واقعية وقد تؤدى إلى تفكك الحلف. وأشار بعض المحللين إلى أن ترامب قد يقبل بزيادة أقل، مثل 3.5٪، كحل وسط. كما أعربت دول مثل إيطاليا عن صعوبة تحقيق هذه الأهداف فى الوقت الراهن، حيث يبلغ إنفاقها الدفاعى الحالى 1.57٪ فقط من الناتج المحلى الإجمالى.
ثانيا: ملف الحرب الاوكرانية وتزامنت هذه التطورات مع دعوة ترامب إلى وقف فورى لإطلاق النار فى أوكرانيا، وتلميحه إلى إمكانية تقليص المساعدات العسكرية الأمريكية لكييف، مما أثار مخاوف من تراجع الالتزام الأمريكى تجاه الحلفاء فى أوروبا الشرقية.. وجاء ذلك بالتزامن مع قطع ترامب العزلة الغربية المفروضة على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حيث أجرى ترامب اتصالا معه دون إبلاغ قادة أوروبا أو أوكرانيا لفتح باب المفاوضات حول الملف الأوكرانى.
ثم اعقب ذلك ارسال ترامب نائبه جيمس ديفيد فانس إلى أوروبا كى يلقى محاضرة أمام القادة الأوروبيين عن افتقار بلادهم إلى الديمقراطية وحرية التعبير خلال كلمته فى مؤتمر ميونخ للأمن فى فبراير الماضى، فيما اعتبر نقطة تحول كبرى فى تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية، إذ ترك المؤتمر القادة الليبراليين فى أوروبا فى حالة ارتباك.ورأى العديد من قادة أوروبا فى خطاب فانس تدخلا سافرا فى شؤون الاتحاد الأوروبى وبلدانه، ودعما صريحا لخطاب أقصى اليمين، وافتراقا تاما فى التصوُّرات والقيم السياسية بين واشنطن وبروكسل حيال الديمقراطية والحريات.
فى المقابل، هناك استعلاء من الثقافة الأوروبية على نظيرتها الأمريكية فى أروقة الاتحاد الأوروبى، وقد تكثَّف هذا الازدراء للثقافة الأمريكية منذ الغزو الأمريكى للعراق، الذى مضت فيه واشنطن منفردة رغم معارضة فرنسا وألمانيا.
وبحسب دراسة لمؤسسة «هوفر» الأمريكية، فقد سادت مشاعر معادية لأمريكا فى أوروبا تجاه الثقافة الأمريكية واختيارات الشعب الأمريكى، الذى يجلب أسوأ الحكام عبر الانتخابات فى نظر الأوروبيين. وقد بدأ ذلك واضحا فى ردود الفعل الأوروبية تجاه عودة ترامب للرئاسة والتى اعقبها توقعات يومية بأخبار سيئة للحلفاء التاريخيين فى القارة العجوز.
والواقع أن صعود ترامب فى الولايات المتحدة ونشاطه المكثف من أجل فرض إرادته على العالم لا يهدد أوروبا بإزالة الغطاء الأمنى من عليها فحسب، بل ويهددها بشىء آخر، إذ إن خطة الإدارة الأمريكية بشأن أوروبا تمتد لمحاولة تصعيد الأفكار اليمينية المشابهة للترامبية داخل الأقطار الأوروبية ذاتها، بحيث يصعد اليمين القومى المتطرف فى شتى أنحاء القارة بشكل يجعل «الترامبية» أكبر من مجرد مرحلة زمنية يمكن أن تنتهى سريعا، حيث بدأت إدارة ترامب تُشجِّع بالفعل أقرانها من الرموز والأحزاب اليمينية القومية فى مختلف بلدان أوروبا.ويعطى بعض المحللين المتفائلين بعض الآمال فى أن تنجح رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلونى فى تقريب وجهات النظر بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبى، خاصة أنها محسوبة على مساحة وسط بين اليمين من جهة، وصناع القرار الليبراليين والمحافظين التقليديين فى أوروبا من جهة أخرى.
وبينما تعكس سياسة ترامب فى ولايته الثانية توجهًا نحو تقليص الالتزامات الأمريكية التقليدية تجاه أوروبا، والتركيز على المصالح الوطنية المباشرة، عكست سياسة ترامب الخارجية تجاه روسيا فى ولايته الجديدة تحولًا نحو البراجماتية، مع التركيز على إنهاء الحرب فى أوكرانيا من خلال مفاوضات قد تتطلب تنازلات من كييف. وأثار ذلك انتقادات داخلية وخارجية، وسط مخاوف من أن يؤدى إلى تقويض الدعم الغربى لأوكرانيا وتعزيز نفوذ روسيا فى المنطقة. وهو ما يثير قلقًا واسعًا بين حلفاء الولايات المتحدة فى أوروبا وداخل الكونجرس الأمريكى، وسط مخاوف من تقويض النظام الأمنى الغربى.
وعلى الصعيد العلاقات الامريكية الصينية فقد أشعلت الرسوم الجمركية التى فرضتها واشنطن على بكين من حدة التوتر بين القوتين العظميين اللتان اختلفا خلال السنوات الأخيرة فى مجالات متعددة، أبرزها التجارة، والتكنولوجيا والأمن السيبرانى، والتنافس العسكرى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ.
وكانت إدارة ترامب فرضت رسومًا جمركية غير مسبوقة على الواردات الصينية، مما أدى إلى تراجع توقعات النمو الاقتصادى العالمى، حيث خفض صندوق النقد الدولى توقعاته للنمو العالمى لعام 2025 إلى 2.8٪، فى اشارة إلى تأثير هذه الرسوم على الاقتصاد العالمى.. وردت الصين على قرار واشنطن حول الرسوم الجمركية بفرض قيودًا على تصدير بعض المعادن النادرة التى تعتمد عليها الصناعات الدفاعية الأمريكية، مما أثار مخاوف بشأن تأثير ذلك على إنتاج أنظمة عسكرية حساسة مثل مقاتلات F-35.
كما كثفت الصين من مناوراتها العسكرية بالقرب من تايوان بينما أعربت الولايات المتحدة عن التزامها بالدفاع عن الجزيرة. وكشفت الصين عن مقاتلتها الشبحية الجديدة «جيه-36»، مما أثار قلقًا فى الولايات المتحدة بشأن التقدم التكنولوجى العسكرى الصينى.. وجاءت ردود فعل الصين تجاه ما أطلق عليه «أزمة العلامات التجارية» تصعيدًا فى الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، مع اتخاذ إجراءات تهدف إلى حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية. وتواجه الشركات العالمية تحديات متزايدة فى موازنة التزاماتها الأخلاقية مع مصالحها التجارية، مما قد يؤدى إلى إعادة تشكيل الاستراتيجيات السوقية على المدى الطويل. وبينما تسعى كل من واشنطن وبكين إلى تعزيز مصالحهما الاستراتيجية، يظل خطر التصعيد المباشر قائمًا.
وترسم هذه الأحداث صورة لدوائر من الصراعات المرتقبة تأتى الولايات المتحدة فى مركزها وتجعل خريطة القوى العالمية خلال السنوات القادمة غير واضحة المعالم.
الصين.. ضد الهدم ومع تقاسم النفوذ والهيمنة متعددة الأطراف
فى ظل التطورات الأخيرة التى يموج بها العالم، والصراع الأمريكى الصينى سواء على الصعيد التجارى أو الجيوسياسى، يُنظر إلى الصين على أنها القوة العالمية القادمة التى ستحل محل أمريكا وتقود العالم، وفى الواقع هذه رواية تدعمها أمريكا، لتبرير صراعها مع بكين، والظهور بمظهر الدولة التى تدافع عن النظام القائم وتمنع الصين من هدمه.
فى واقع الأمر هذه ليست رغبة الصين، فهى تتمسك بأن يكون صراعها مع أمريكا ضمن أطر النظام الدولى، وذلك من خلال التزامها بالقوانين الدولية واللجوء إلى المنظمات الدولية لحل نزاعاتها مع أمريكا، كما حدث عندما لجأت إلى منظمة التجارة العالمية لتقديم أكثر من شكوى ضد الرسوم الجمركية المفروضة عليها من الولايات المتحدة.
لكن بعد الحرب الباردة، لم تكن بكين مطمئنة إلى حد ما للنهج الأمريكى الساعى لإدامة هيمنتها على العالم.
الحديث عن سعى الصين للهيمنة العالمية، حديث غير مقنع، ولا يتوافق مع المنطق، والتاريخ وثقافة الصين، وهنا علينا أن نطرح ثلاثة أسئلة إجابتها ستكون كافية لتوضيح هدف بكين، هل تملك الصين الموارد الكافية اللازمة للهيمنة على العالم وكيف ستحقق ذلك؟ فى التاريخ والأدبيات الصينية كم مرة سعت الصين للهيمنة على العالم؟ ما هى البدائل الواقعية لهذا الهدف؟
الصين لا تملك قواعد عسكرية ومناطق نفوذ سياسى وعسكرى فى أنحاء متفرقة مع العالم وغير قادرة على القيام بذلك، ولم تسع طوال تاريخها إلى الهيمنة على العالم، ولهذه الأسباب، تركز بدلا من ذلك، على تعظيم ثروتها وقوتها ونفوذها فى عالم متعدد الأقطاب.
يرى القادة الصينيون فى هذا نهجا أكثر جدوى وواقعية من إطلاق منافسة مع الولايات المتحدة على مبدأ «الفائز يأخذ كل شىء».
لا تسعى بكين إلى هدم النظام العالمى القائم، أو انتزاع دور الولايات المتحدة ووضع السلوك الدولى من جانب واحد، بل تهدف بالأساس إلى تعديلات على هذا النظام القائم، ما ينهى الهيمنة الأمريكية على هذا النظام ويعزز دورها مقارنة بالولايات المتحدة.
تسعى الصين لاستغلال قوتها المتنامية فى فرض تصور للنظام الدولى القائم يخفض التفضيلات التى تحصل عليها أمريكا الليبرالية، ويرفع من تفضيلات الصين غير الليبرالية.
لكن هذه ليست منافسة محصلتها صفرية يحصد فيها الفائز كل شىء. فتفضيلات أى من الطرفين لا تلغى بالضرورة تفضيلات الطرف الآخر أو تُقصيه.
تدرك واشنطن أن الصين تريد عالما متعدد الأقطاب، تحظى فيه بما تحظى به الولايات المتحدة، وهذا ما أكدته كتاب الباحثة فى معهد بروكينغز ميلانى سيسون، الذى يحمل عنوان «الولايات المتحدة والصين والتنافس على السيطرة». فى هذا الكتاب تُفند سيسون بشكل مُقنع فكرة سعى الصين إلى الحلول محل الولايات المتحدة كقوة مُهيمنة عالميًا».
ترى سيسون فى كتابها أن تنافس أمريكا والصين وفقا للرؤية الصينية ليس تنافساً صفريا، كما أن إحدى النقاط المحورية هنا هى أن المصالح الصينية والأمريكية متنافسة، ولكنها ليست متعارضة.
وتؤكد أن الرأى السائد بأن رؤية الصين للنظام العالمى «متناقضة تمامًا مع رؤية الولايات المتحدة» هو «قناعة سبقت الأدلة».
لا يتمثل التحدى الأساسى الذى تواجهه الولايات المتحدة فى سعى بكين إلى إعادة صياغة النظام الدولى على غرار نظام الحزب الشيوعى الصينى، بل ببساطة فى رغبتها فى أن يُضفى النظام القائم شرعية على نظام الحزب الشيوعى الصينى ويسمح له بالمشاركة فى صياغة قواعده، وهذا بالطبع أمر مُقلق للولايات المتحدة.
كما أن التحدى الأكبر الذى تُواجهه واشنطن هو «نجاح الصين فى إثبات أن نظامها السياسى غير الليبرالى مستقر اجتماعيا، ومنتج اقتصاديا، وقادر عسكريا».
هذا التوجه المبالغ فيه للتهديد يخدم عدة أغراض. فالإشارة إلى تهديد وجودى من الصين تسمح لواشنطن بتحويل الانتباه عن نقاط الضعف الأمريكية الحقيقية والتى قوضت قدرتها التنافسية، كما أنها رواية سعى الصين للهيمنة العالمية تُستخدم كأساس لنهج تصادمى وتنافسى حصرى تجاه بكين.
خلاصة القول الصراع بين أمريكا والصين على إعادة صياغة النظام الحالى وليس هدمه أو استبداله، ولن يتمكن أى من الطرفين من الحصول على كل ما يريده. ولا يتبقى أمامها إلا الوصول إلى صيغة تحافظ على النظام القائم ما جعله أكثر عدلا، لأن الخيار الآخر هو سقوط هذه النظام ما يتسبب فى خسارة الطرفين لكل شىء.
روسيا على مسار القوى العظمى.. دروس من حرب أوكرانيا فى النظام الدولى
ارتبط الصعود الروسى فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى بشخص الرئيس الحالى فلاديمير بوتين.. إذ كان لرؤيته السياسية والاقتصادية الفضل فى استعادة القوة والهيبة لبلاده بشكل تدريجى على المسرح الدولى مرة أخرى.
ربما رأى بوتين أن التوسع الجغرافى لم يمثل إلا رهانا خاسرا على مسار استعادة القوة.. فالأراضى الشاسعة التى ضمها الاتحاد السوفيتى رسميا لم تشفع لبقائه قطب منافس فى النظام الدولى.. وفى المقابل فإن القوة الاقتصادية بالأساس هى ما أمنت البقاء الأمريكى على رأس النظام الدولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.
وعلى هذا الأساس ارتكزت رؤية بوتين لوضع بلاده مجددا على مسار استعادة هيبتها ونفوذها، وقد اتبعت فى ذلك الوصفة الصينية.
وترتكز هذه الوصفة بالأساس على البناء الاقتصادى والانفتاح على كل العالم.. وعبر نموذج رأسمالى اقتصادى انتهجه النظام الشيوعى، واستفز به الغرب، نجحت الصين فى تعزيز مكانتها على الصعيد الدولى.. واجتاحت كل أسواق العالم وباتت قوة عظمى اقتصادية، يخشاها اليوم الغرب بشدة.
وعلى المسار ذاته، سارت روسيا التى حافظت على مناطق نفوذها التقليدية، بالضم بالقوة، دون أن يكون التوسع الجغرافى على أجندتها الأصلية.. وانتهجت مبدأ التفوق الاقتصادى، فانقلب عجز السلع إلى وفرة، لتحقق الاكتفاء الذاتى لسلع استراتيجية، وتحولت إلى التصدير بقوة فى السلاح والغاز والقمح ومنتجات أخرى كانت تعانى عجزا فى إنتاجها من قبل.
مكنها هذا المسار من إقامة علاقات وثيقة من التعاون مع الدول الأوروبية.
وتحقق الانفتاح والسلام من خلال التجارة الوثيقة وكانت مجموعة الثمانية «مجموعة السبع روسيا» عنوانا للاستقرار الأمنى بين الغرب وروسيا. ونجحت موسكو فى الاتفاق على بناء خط لتوريد الغاز إلى أوروبا كان سيجعل من ألمانيا مركزا استراتيجيا للطاقة فى القارة، لكن هذه الخطة يبدو أنها قد استفزت واشنطن التى رأت ان هذه العلاقات الوثيقة بين موسكو وأوروبا ستخترق الجبهة الغربية وتضعف من النفوذ الأمريكى التقليدى ومن ثم تضعف الهيمنة الأمريكية التى تجنيها الولايات المتحدة مقابل مظلتها الأمنية بالأساس وأخيرا تسىء مكانتها فى المنافسة العالمية ضد الصين. ومن أجل الحفاظ على هذه الهيمنة كان لابد لأوروبا أن تنحاز مجددا لواشنطن وتختار الأمن على الاقتصاد.
ومثلت حرب أوكرانيا نقطة فاصلة فى تشكيل النظام الدولى.. فمع اندلاع الحرب، خيرت واشنطن حلفاءها عبر الأطلنطى ما بين أمنهم «بالوقوف فى الجانب الأمريكى» أو مصالحهم الاقتصادية.. واختار الأوروبيون قطيعة اقتصادية مع روسيا، انحيازا لمبدأ الأمن الأوروبى، والضامن له تقليديا هو التحالف مع الولايات المتحدة.
ودخل العالم مرة أخرى إلى حرب باردة مع روسيا بسبب أوكرانيا، وتحول السلام فى القارة الأوروبية إلى عداء متصاعد مع موسكو، وكانت البيئة الإعلامية حاضنة مثالية لإثارة أجواء الرعب من الهجمات النووية المحتملة من الصواريخ الروسية على العواصم الأوروبية.
لكن السياسة تلك التى ارتبطت بالأساس بالإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن، تقرر إنهاءها تماما مع تولى الرئيس الحالى دونالد ترامب.
قرر ترامب العمل بجهد على إنهاء هذه الحرب والعودة مرة أخرى للأجواء الدولية السابقة عليها.. وقد رأى أن التنافس مع الصين على الهيمنة يحتاج إلى التفرغ لذلك وتقليل الأعباء الدولية لأمريكا تجاه حلفاءها، ومن ثم التخلى عن قضية أوكرانيا تماما وعدم الاكتراث حتى لأمن الحلفاء الاوروبيين.
ما حدث أدى إلى نتائج استراتيجية على صعيد اعادة تشكيل النظام الدولى، وستسجل حرب أوكرانيا فى التاريخ على أنها فترة تعدت تداعياتها السياسية الدولية الحدود الزمنية لهذه الحرب.
أول هذه التداعيات هو أن الموقف الأمريكى بالفعل يفجر التحالف السياسى التقليدى عبر الأطلنطى، ومن ثم فهو يفجر الجبهة الغربية ويزرع عدم الثقة التى ستستمر لما بعد عهد ترامب وستتجاوز مسألة تبدل الإدارات.. فلا يعتقد أن الأوروبيين سيسهل منحهم الثقة مجددا للحليف الأمريكى حتى بعد رحيل ترامب.. كما أن ما حدث يضعف التنسيقات الأمنية بين الجانبين وعلى رأسها مؤسسة الناتو. وفى حين لايزال البعض يغازل ترامب برفع حصته المالية فى الناتو، فقد بدأ الأوروبيون بالفعل يتحدثون عن إقامة استثمارات لتعزيز الجيوش الأوروبية أمام تصريحات أعضاء إدارة ترامب مثل نائبه جى دى فانس بأن الأوروبيين يجب ألا يراهنوا كثيرا على دور للولايات المتحدة فى حمايتهم.. وبكلمات أخرى، فإن ترامب عازم على سحب المظلة الأمنية لاوروبا، متنازلا عن شرطه السابق بالدفع الأكثر للناتو مقابلها.
ما حدث يقدم اكبر هدية لروسيا على صعيد مكانتها فى العالم. فروسيا التى شهدت توحد الجبهة الغربية ضدها بسبب حرب أوكرانيا تشهد الآن انفجار هذه الجبهة، وربما للأبد، بسبب نفس الحرب. ثانيا.. هذا الوضع يعيد تشكيل النظام الدولى، وفى قلبه عدة مسلمات.. أولا أن ثمة نظاما عالميا تحت التشكل ستتفتت فيه الجبهة الغربية إلى عدة مناطق للقوة الاستراتيجية، يمكن التعامل معها بشكل منفرد وتحييدها لاحقا. وثانيا أن الولايات المتحدة ستفقد جانبا كبيرا من هيمنتها على الساحة الدولية جراء استعدائها، فى ظل إدارة ترامب للحلفاء سواء مثل الأعداء وهو ما يسقط تقليديا من النفاذ التقليدى لواشنطن ويتيح مساحة لنفوذ آخر من قوى عدة. وثالثا، أن السلام القائم على الاقتصاد ربما لن يتم بسهولة كسره بعد الآن.. ورابعا أن روسيا التى خرج اقتصادها من الضغوط الغربية بأثر لا يذكر قد أثبتت نفسها كقوة قادرة على البقاء سياسيا واقتصاديا دون تأثر بتوحد الغرب ضدها.. كما استطاعت المناورة سياسيا وبناء التحالفات، لاسيما فى الشرق الأوسط ودول الجنوب والاقتصادات الناشئة، وتقويتها بما أحبط مساعى الغرب السابقة لعزلها.
وتستفيد روسيا من الحرب التجارية القائمة التى لا تزيد الطين إلا بلة فى الولايات المتحدة. وتضع الصين الآن الدرس الأهم فى المرحلة الحالية من تشكل النظام الدولى وهو أن لا مكان للهيمنة من أمريكا وأن العداء الدولى الذى شنته لن يضر إلا إياها أولا.. وأن هذا المناخ أتاح للدول الأخرى الحرية فى ممارسة سياساتها، وكثير منها لم يضطر للاختيار بين أمريكا والصين. ومن ثم، فالحرب الحالية لا تحسم صراع الهيمنة بالنسبة لأمريكا، بل تعزز مكانة دول أخرى وفى مقدمتها روسيا التى ربما تخرج منتصرة تماما من حرب أوكرانيا الحالية.
أوروبا فى مهب الريح.. البحث عن بوصلة جديدة
تعيش أوروبا اليوم على وقع معادلات متغيرة فى عالم يتجه نحو إعادة صياغة النظام الدولى، حيث تترنح أسس التحالفات التقليدية التى أرست استقرار القارة لعقود، وتواجه العواصم الأوروبية أسئلة وجودية تتعلق بموقعها بين واشنطن وبكين، بين الناتو واستقلالها العسكرى، بين الدعم غير المحدود لأوكرانيا وتحديات الاقتصاد، وبين وحدة الاتحاد الأوروبى وتباين المواقف الوطنية.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكل التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية العمود الفقرى للنظام الغربى، وكان حلف شمال الأطلسى «الناتو» تجسيداً عسكرياً لهذا الحلف.
منذ الحرب الباردة، ارتبط الأمن الأوروبى بالحماية الأمريكية، وكانت واشنطن، عبر الناتو، الضامن الأول لاستقرار القارة فى مواجهة التهديدات السوفييتية، ثم الروسية لاحقًا.
لكن مع قدوم إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى فترته الرئاسية الأولى، تم وضع التحالف تحت اختبار علنى، حين لوّح بأن أمريكا ليست «صندوق ضمان مجانى» لأمن أوروبا، وطالب الحلفاء الأوروبيين برفع إنفاقهم الدفاعى ليوازى نسبة 2 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى.
وعادت إدارة الرئيس السابق جو بايدن لتؤكد «الالتزام التقليدى» تجاه الحلفاء، إلا أن السياسات الواقعية أثبتت أن واشنطن لم تعد تنظر إلى أوروبا بوصفها شريكاً متساوياً، بل تابعاً يجب عليه تقاسم العبء المالى والسياسى للهيمنة الغربية، وهو ما تؤكد عليه إدارة ترامب فى رئاسته الثانية، وما يثير قلق الأوروبيين.
من وجهة نظر أوروبية، بات الناتو فى نظر البعض «درعاً أمريكياً» أكثر منه تحالفًا متوازنًا، إذ يدور الجدل الأوروبى حول مسألتين.. الأولى هى مدى موثوقية الضمانات الأمريكية فى حال نشوب صراع واسع مع روسيا، خاصة بعد التردد الأمريكى فى توفير أنظمة أسلحة معينة لأوكرانيا، والثانية هى التساؤل عن مدى واقعية استمرار الاعتماد على قوة عظمى خارج القارة فى حماية الأمن الأوروبى فى عصر يتسم بتسارع الأزمات الجيوسياسية، وتغير خارطة المصالح الأمريكية شرقاً نحو المحيطين الهندى والهادئ.
من القضايا الشائكة الأخرى فى علاقة أوروبا بالولايات المتحدة، الخلاف حول من يتحمل كلفة الدفاع، فواشنطن طالبت شركاءها الأوروبيين، مرارًا، ليس فقط بزيادة ميزانيات الدفاع لمستوى النسبة المستهدفة داخل الناتو، بل أيضاً بتعويضات سياسية ضمنية عن سنوات «الحماية المجانية» السابقة.
ومن الناحية الأوروبية، ينظر قادة مثل المستشار الألمانى أولاف شولتس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى هذه الدعوات كرسالة ضمنية لإعادة تعريف التحالف مع واشنطن.
وشكل الغزو الروسى لأوكرانيا صدمة استراتيجية لأوروبا، كما فضح فى الوقت ذاته حدود الالتزام الأمريكى تجاه أمن القارة، وفى الواقع أن واشنطن كانت أول الداعمين لكييف عسكرياً، إلا أن تكرار التحذيرات الأمريكية حول «عدم التدخل المباشر» والتردد فى إرسال أسلحة متطورة مثل طائرات إف 16 وصواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا، أثار فى العواصم الأوروبية تساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة.
وتدرك أوروبا أن الحرب الأوكرانية ليست معركة حدودية بقدر ما هى معركة مصير لمستقبل نظامها الأمنى فى وقت باتت فيه المساعدات الأميركية لكييف، فى ظل الانقسام السياسى داخل الكونغرس، ورقة مساومة داخلية أكثر منها التزام استراتيجى طويل الأمد.
وقد دفع هذا الوعى أوروبا إلى خطوات مستقلة مثل تفعيل «صندوق السلام الأوروبى» وتكثيف الجهود لتوفير تسليح مستقل لأوكرانيا، بعيدًا عن المظلة الأمريكية.
إضافة إلى الخلافات الدفاعية، تمثل التجارة ملفاً آخر يؤكد تصدّع التحالف الغربى حيث مثل فرض إدارة ترامب لرسوم جمركية على الصلب والألمنيوم الأوروبى بداية صدمة اقتصادية للعواصم الأوروبية، وكشف هشاشة العلاقات التجارية بين الحلفاء.
وترى أوروبا فى هذه السياسات سعياً أمريكيا لتعزيز صناعاتها على حساب حلفائها، مما دفع الاتحاد الأوروبى إلى إعداد برامج تحفيز صناعى خاصة به لمواجهة التنافس غير العادل، فى ظل قناعة متزايدة بأن الاقتصاد الأمريكى لم يعد شريكًا «عادلاً» بل منافسًا «صعبًا».
فى ظل هذا التباعد مع واشنطن، باتت الصين خيارًا مطروحاً، وإن كان محفوفًا بالمخاطر، أمام الأوروبيين، فالقارة الأوروبية ترى فى بكين شريكاً اقتصادياً استراتيجياً لا غنى عنه فى قطاعات مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة، رغم تحفظاتها السياسية حيال ملفات حقوق الإنسان وأزمة تايوان.
ولكن الرغبة الأوروبية فى الحفاظ على شراكة مع الصين تصطدم بتحفظات واشنطن، التى تضغط من أجل قطع العلاقات التكنولوجية مع بكين، خاصة فى مجالات الذكاء الاصطناعى، والاتصالات، وأشباه الموصلات.وتضع هذه الضغوط أوروبا فى موقف حرج بين التوفيق بين مصالحها الاقتصادية الحيوية مع الصين، ومتطلبات تحالفها السياسى مع الولايات المتحدة.
ويعبر الموقف الأوروبى المتحفظ على مجاراة واشنطن تجاه الصين عن السعى الأوروبى لاتباع سياسة خارجية مستقلة، ولو جزئيًا، عن الرؤية الأمريكية.
ومن المشكلات التى تواجه أوروبا فى المرحلة الراهنة، عدم القدرة على التصرف ككتلة سياسية موحدة حيال التحديات العالمية، فالخلافات الداخلية بين دول الاتحاد الأوروبى حول العلاقة مع الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وحتى مع أوكرانيا، أصبحت واضحة.
فشرق أوروبا، وخاصة بولندا ودول البلطيق، لا تزال تعتمد بشكل كبير على الحماية الأمريكية، وترى فى واشنطن الضامن الأوحد ضد الخطر الروسى، أما أوروبا الغربية، وخاصة فرنسا وألمانيا، فتميل إلى تصور أكثر استقلالية للسيادة الأوروبية، يحاول التخفيف من الاعتماد الأمنى والسياسى على الولايات المتحدة.
وتعيق هذه الانقسامات بلورة موقف أوروبى موحد، وتجعل القارة تبدو عاجزة عن التحدث بصوت واحد فى المحافل الدولية، ما يضعف قدرتها التفاوضية سواء مع واشنطن أو بكين.
ضمن هذا المشهد الأوروبى الملىء بالتباينات، تبرز إيطاليا كلاعب له خصوصية، فقد أظهرت روما، سواء فى عهد حكومات الوسط أو اليمين، ميلاً أوضح نحو الاصطفاف مع واشنطن، خاصة فى قضايا الدفاع والأمن.
وتمثل إيطاليا، إلى جانب بريطانيا وبولندا، فى الوقت الراهن نموذج الحليف الأطلسى التقليدى داخل أوروبا، مما يعمق حالة الانقسام بين الدول الأوروبية فى تحديد موقعها من النظام العالمى الجديد.
كل هذه المعطيات تشير إلى أن أوروبا تجد نفسها اليوم فى لحظة إعادة تعريف لدورها فى العالم، من تابع يعتمد على الحماية الأمريكية، إلى لاعب يحاول استعادة استقلاله الاستراتيجى فى نظام دولى متغير.
ويحدث ذلك فى الوقت الذى يمر فيه التحالف عبر الأطلسى بتحولات عميقة تتمثل فى الضغوط الاقتصادية، وتحديات الأمن الجماعى، والحرب فى أوكرانيا، والطموحات الصينية.
ووسط كل ذلك تحاول أوروبا بناء استراتيجية توازن بين الاعتماد على واشنطن والاستقلال، وبين الغرب والتنوع العالمى، وبين المصالح الوطنية والوحدة الأوروبية.
لكن حتى اليوم، يبدو أن القارة لم تحسم خياراتها، وهى لا تزال تسير على حبل مشدود بين عالم يتغير بسرعة وشراكة قديمة لم تعد تفى بكل متطلبات العصر.
آن الأوان... نهاية وهم العولمة السعيدة
«كل نظام عظيم يبدأ فى الانهيار عندما يفشل فى خدمة من بُنى من أجلهم.» - جوزيف ستيجليتز... ففى زمنٍ تتكشف فيه هشاشة النظام التجارى العالمى، تبدو مقولة الحائز على نوبل للاقتصاد، ستيجليتز، أكثر مواءمة من أى وقت مضى. فقد فجرت سياسات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، خصوصًا قراراته الجمركية الأخيرة، موجة من الارتباك والقلق على مستوى العالم، لكنها فى جوهرها لم تكن إلا تسريعًا لانكشاف أزمات أعمق تعصف بنظام فقد قدرته على تحقيق التوازن بين مصلحة الأفراد واستقرار الأسواق.
مع إعلام ترامب فى 2 أبريل الجارى عن فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق، تلا ذلك تأجيلات وانتقامات، مما أطلق موجة هائلة من عدم اليقين على مستوى العالم. وتركز معظم الأنظار على الآثار الفورية والفوضوية لهذه السياسات: تقلبات حادة فى أسواق الأسهم، مخاوف بشأن سوق السندات الأمريكية، تحذيرات من ركود اقتصادى، وتكهنات حول كيفية تفاوض أو استجابة الدول المختلفة.
فرغم أن النظام العالمى يستفيد من ارتفاع الأجور، الذى يؤدى إلى زيادة الطلب على الإنتاج، إلا أن التوترات تنشأ عندما تتمكن بعض الدول من تحقيق نمو أسرع من خلال تعزيز قطاع التصنيع على حساب نمو الأجور.
وبما أن النظام الحالى لا بد أن يستبدل، سيكون من الحكمة أن يبدأ صناع السياسات بصياغة بديل منطقى. النتيجة المثالية ستكون اتفاقية تجارة عالمية جديدة بين اقتصادات تتعهد بإدارة اختلالاتها الاقتصادية الداخلية بدلًا من تصديرها عبر فوائض تجارية.
لفهم الخلل فى نظام التجارة العالمى، يكفى النظر إلى كيف تؤثر الأجور على الاقتصاد المحلى. فالأجور المرتفعة عادةً ما تعزز الاقتصاد، لأنها تزيد الطلب وتدفع الشركات للاستثمار فى الكفاءة، ما يخلق دورة اقتصادية إيجابية. الطلب المتزايد يحفز الاستثمار فى طرق إنتاج أكثر فاعلية، مما يزيد الإنتاجية ويدفع الأجور للارتفاع مرة أخرى.
هذه الظاهرة، المعروفة أحيانًا بمفارقة التكاليف لكاليتسكى، تنطبق أيضًا على الدول. فإذا ساهم خفض نمو الأجور فى جعل الصناعة المحلية أكثر تنافسية على الصعيد العالمى، فقد يؤدى إلى نمو أسرع للدولة من خلال دعم صادراتها. لكن إذا قامت جميع الدول بذلك، فإن الطلب العالمى سينخفض، ويعانى الجميع.
فى الاقتصاد العالمى، يؤدى خفض الأجور إلى دعم الإنتاج المحلى، لكنه يضغط على الاستهلاك المحلى، مما يخلق فجوة بين الإنتاج والاستهلاك. وإذا لم يتم حل هذه الفجوة من خلال رفع الاستهلاك أو الاستثمار، فإن الدول تلجأ إلى تصدير الفائض، أى تحقيق فوائض تجارية.
وهنا تظهر سياسات «أفقر جارك»، كما وصفتها جوان روبنسون عام 1937، وهى الفوائض التجارية الناتجة عن ضعف الطلب المحلى.
عندما كتب كينز وروبنسون، كانت تكلفة سياسات «أفقر جارك» تظهر فى شكل بطالة، لكن بعد التخلى عن نظام بريتون وودز فى السبعينيات، بدأت الحكومات، وخاصة الأمريكية، فى تخفيف هذه الآثار من خلال تخفيض أسعار الفائدة أو عبر إنفاق حكومى غير مقيد.
ولهذا السبب عارض كينز فى مؤتمر بريتون وودز نظامًا يسمح بفوائض تجارية كبيرة ومستمرة.. اقترح كينز بدلاً من ذلك أن تسعى الدول لتحقيق التوظيف الكامل عبر سياساتها المحلية. وفى نظام كهذا، لن تكون هناك «قوى اقتصادية جوهرية تدفع بمصالح الدول ضد بعضها البعض».
الخلل الداخلى فى اقتصاد دولة ما يؤثر على الشركاء التجاريين. فالاختلالات الداخلية والخارجية لأى اقتصاد لا بد أن تتطابق. وبالتالى، الدول التى تتحكم فى اختلالاتها الداخلية تؤثر على توازنات شركائها. لذا، كما قال دانى رودريك، لا بد أن تختار الدول بين اندماج عالمى أعمق أو تحكم محلى أكبر فى الاقتصاد.
فى نموذج العولمة الأول، تتخلى الدول الكبرى عن التحكم المحلى لصالح الاندماج، ما يجعل السوق العالمية تعدل السياسات المختلة. أما النموذج الثانى، وهو الأقرب إلى الواقع، فيصف عالمًا تحتفظ فيه بعض الدول بتحكمها المحلى، من خلال ضبط نمو الأجور أو الأسعار أو توزيع الائتمان، وتفرض بالتالى اختلالاتها الداخلية على الدول الأخرى.
أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هى إنشاء اتحاد جمركى جديد، على غرار ما اقترحه كينز. تلتزم الدول الأعضاء بتوازن التجارة فيما بينها، مع فرض عقوبات على من يخل بهذا التوازن، كما تفرض حواجز تجارية ضد غير الأعضاء لحماية نفسها من الاختلالات الخارجية. ولا يجب أن يكون التوازن ثنائيًا، بل على مستوى الشركاء كافة.
أما إذا لم ينشأ هذا الاتحاد، فإن العالم على الأرجح سيواصل السير فى طريق «أفقر جارك» الذى تنبأت به روبنسون: دول تسعى لتحميل الآخرين عبء الاختلالات. وما إن تنجح دولة فى زيادة ميزانها التجارى على حساب الباقين، حتى ترد الأخرى، وتنكمش التجارة العالمية ككل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.