الأزمات الحادة التي شهدها العالم في الفترة الأخيرة ترتب عليها تغيرات هامة، وتداعيات تطال النظام الدولي في بنيته وتفاعلاته وقضاياه. ولم تكن حرب أوكرانيا إلا خير مثال ينذر بتحولات جذرية في النظام الدولي، وأهم مظاهره هو تماسك الكتلة الغربية وقوة تحالفها السياسي والعسكري والثقافي. ◄ لا يرى ضرورة لدعم أوكرانيا وهو يعاني من عجز بالموازنة ◄ حلفاء واشنطن قلقون.. ويرون أنها أصبحت فعلاً خبيثة فشلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، منذ توليه منصبه فى يناير 2021، فى اختراق وإضعاف علاقات روسيا التى كانت تزداد مع الوقت متانة وقوة مع كبرى الدول الأوروبية، حتى بعد توترات لحقت 2014 بضم موسكو شبه جزيرة القرم رسميا، واستطاعت روسيا مع الوقت أن تخترق عزلة أوروبا نحوها بسبب العقوبات التي فرضت بعد 2014 وتصنع ثقوبا فى نسيج «الموقف الغربى الموحد» ضدها بقيادة الولايات المتحدة. فتوطدت علاقة موسكو مع باريس، وأجرى الرئيسان الروسى فلاديمير بوتين، والفرنسى إيمانويل ماكرون، عدة جولات من المباحثات على مدار سنوات، ودعا الرئيس الفرنسى علنا إلى عودة روسيا إلى مجموعة الثمانى وإلى انفتاح أوروبا على موسكو. كما توطدت علاقة روسيا مع ألمانيا خلال السنوات الأخيرة فى عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، مع مواصلة البلدين جهود مد الغاز الروسى إلى أوروبا عبر مشروع مشترك بين موسكو وبرلين يُعرف بمشروع «السيل الشمالى 2»، الذى كان سيستحيل معه مستقبلا عزل روسيا غربيا أو حتى الإبطاء من وتيرة نموها الاقتصادى. ◄ تعظيم الجسور ومع تمسك ألمانيا السابق بشدة بهذا المشروع الذى سيجعل منها مركزا لضخ الغاز إلى عموم أوروبا، تخلى بايدن عن مقترحات بفرض عقوبات على المشروع، إذ لا تفضل إدارته المواجهة العلنية مع الحلفاء فى أى خلاف، بل إن بايدن سعى ومنذ اليوم الأول فى رئاسته إلى ترميم الجبهة الغربية والعلاقات عبر الأطلنطى، وذلك لاجتذاب أوروبا فى معركته الاستراتيجية مع الصين، وتوجيه رسائل غربية حادة إلى بكين. وواجهت أمريكا معضلة كسر جسر العلاقات بين روسيا وأوروبا، فيما كان الأوروبيون مترددين فى معاداة موسكو ويخافون من إفساد علاقاتهم الاقتصادية مع عملاق الطاقة. ويبدو أن الإدارة الأمريكية خططت بدقة لضرب العلاقات الروسية الأوروبية عبر أزمة أوكرانيا، بحيث ترمم الجبهة الغربية مجددا ويستعيد حلف شمال الأطلنطى روحه وقيمته بعد سنوات من تشكيك إدارة دونالد ترامب الأولى فى جدواه. ومع اشتداد الأزمة والحرب، اصطف الغرب ووقف على قلب رجل واحد، ولو حتى ظاهريا، أمام الخطر الروسى. ◄ فرض العقوبات ولم يكتف الأوروبيون بفرض عقوبات على روسيا، بل أسهموا بكثرة فى تقديم الدعم العسكرى لأوكرانيا.. لكن الرئيس دونالد ترامب، كان وعد، إبان حملته الانتخابية، بشكل مكرر بإنهاء حرب أوكرانيا ليزداد مع وعده ذلك فزع داخل أوساط الحلفاء الأوروبيين. والأمر لا يتعلق بأوكرانيا بقدر ما يتعلق بمستقبل التحالف الغربى عموما فى النظام الدولى.. كما لن يقتصر ذلك على فترة ترامب الرئاسية، بل يتوقع امتداده لما بعد ذلك أيضا. وبعد أن بذلت إدارة بايدن الغالى والنفيس فى ترميم الجبهة الغربية والحلف الغربى، تأتى إدارة معاكسة تماما. ◄ التحالف الغربي والرجل الذى تولى فترة سابقة، معروف بسياسته المتشددة تجاه حلفائه من الناحية التجارية، فى سياسة التعريفات، بل حتى أيضا من الناحية الدفاعية.. فهو أقرب لبيع المظلة الأمنية الأمريكية للحلفاء مقابل المال.. سواء فى الناتو الذى يطالب أعضاءه بدفع المزيد للمؤسسة لصالح تخفيف الأعباء على أمريكا أو حتى عند أماكن تمركز القوات الأمريكية فى كوريا الجنوبية واليابان، إذ طلب منهم فى آخر فترة رئاسته الأولى مضاعفة المال المدفوع لواشنطن، مقابل بقاء القوات الأمريكية حامية لهم من أخطار كوريا الشمالية.. والواقع أن ذلك يشير إلى منظور ترامب للأمر برمته.. فالتقديرات السائدة حاليا تقول إن المظلة الأمنية التى تمنحها الولايات المتحدة لحلفائها تصب فى صالح هيمنة واشنطن على رأس النظام الدولى، أى إن المظلة الأمنية ثمنها الهيمنة الأمريكية.. ومن ثم فقيادة أمريكا لناتو قوى تصب فى صالح تسيد واشنطن فى النطاق الدولى وتعزيز قوتها بالحلف الغربى فى مواجهة الصينوروسيا.. لكن ترامب والانعزاليون فى السياسة الخارجية يرون أن هيمنة الولايات المتحدة واقع يفرض ذاته، وليست فى حاجة لأحلاف تكلف البلاد الأموال والدعم لأطراف أخرى وتحمل البلاد مشاكل هذه الأطراف.. ومن ثم، فبالنسبة إليهم، المظلة الأمنية للحلفاء قد لا تكون ذات جدوى كبيرة ولا تهم كثيرا لإبقاء بلاده مهيمنة فى العالم. وفى مسألة الناتو مثلا، وبنفس المنطق، لا يتحمس ترامب للدفاع عن الأوروبيين فى مواجهة روسيا، وهو ما يعزز بدوره الدعوات لدى الأوروبيين لإنشاء قوة عسكرية أوروبية موحدة، إذ لا يعوِّل هؤلاء كثيرا على الدعم العسكرى الأمريكى فى ظل إدارة قادمة لترامب.. كما أن ترامب وبنفس المنطق، وعد بإنهاء حرب أوكرانيا، فالرجل لا يرى فائدة من دعم كييف بعشرات المليارات من الدولارات، فى وقت يرغب فيه بخفض عجز موازنة بلاده وتقليل الإنفاق، كما أنه يرى أن أحدا (مثل روسيا) لن يجرؤ على تهديد أمريكا، ومن ثم فلا داعى لمواجهة روسيا وحقن هذا العداء المكلف ماليا لبلاده. ويتفاخر ترامب دوما بأن موسكو «لم تجرؤ» فى عهده على ضم أى أراضٍ لها من أوكرانيا.. ◄ تقسيم أوروبا وقبل أيام، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسئولين أوروبيين مخاوفهم من أن واشنطن قد تسعى لتقسيم أوروبا فى ظل جهود ترامب لإنهاء حرب أوكرانيا. وقال جيفرى راثكى، رئيس المعهد الأمريكى الألمانى بجامعة جونز هوبكنز والدبلوماسى الأمريكى السابق، إن العديد من الأوروبيين ينظرون إلى الوضع الحالى «بقلق وإحباط وحتى انزعاج». وأضاف أن منتقدى سياسات ترامب يعتقدون أنه يحاول تمزيق أوروبا وزيادة خطر إعادة رسم الحدود بالقوة. كما ذكرت الصحيفة أن ثلاثة مسئولين أشاروا إلى أن العديد من حلفاء الناتو غادروا اجتماعًا لوزراء الدفاع الأسبوع الماضى مقتنعين بأن وزير الدفاع الأمريكى بيت هيجسيث يخطط لسحب عشرات الآلاف من القوات الأمريكية من أوروبا فى السنوات القادمة. ومع غياب الضمانات الأمنية الموثوقة من الولايات المتحدة، تستطيع روسيا إعادة بناء قواتها البرية بشكل أسرع. وأدت عودة ترامب إلى إثارة الفزع فى بعض العواصم الأوروبية الغربية، إذ واجه الزعماء احتمال تخلى ترامب عن أوروبا، فى تفاهماته مع روسيا. وتعيش أوروبا حاليًا أيامًا صعبة وحالة من الانهيار التام، بحسب صحيفة «ديلى ميل» البريطانية، بعد تهديدات ترامب لدول الناتو حول حاجتهم لدفع 5% من الناتج المحلى الإجمالى للدفاع عن أنفسهم فى مواجهة المخاطر. وهو ما استغله الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى الذى حذر من انهيار الناتو واحتلال أوروبا، ودعا لوضع خطوط حمراء على أى اجتماعات أمريكية روسية دون وجود كييف فيها، بجانب إبداء مخاوف عميقة من ابتعاد الأوروبيين عن المشهد. وحذر زيلينسكى الأوروبيين من أن هناك خطرًا بنسبة 100% على أمن أوروبا إذا انسحبت الولايات المتحدة من الناتو، حيث سيشجع ذلك الأمر روسيا على احتلال30% من أوروبا، أو50%، التى تمتلك كما يقول «ما بين 220 إلى 250 لواءً عاملًا، بينما تمتلك الكتلة الأوروبية مجتمعة 50 لواءً فقط». ◄ الانتقام العسكري وتوقع أنه بدون التهديد بالانتقام العسكرى الأمريكى، ستبدأ روسيا فى احتلال أجزاء من أوروبا، وخاصة الدول السوفيتية السابقة، مُشددًا على أن الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلنطى ليس لديها القدرة العسكرية للدفاع عن نفسها بدون الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن الدعم الواضح الذى تبديه إدارة ترامب لبعض النخب الأوروبية من التيارات اليمينية، يطال الحلفاء السياسيين بشكل مباشر، وينذر بمرحلة من التدخل السياسى من واشنطن فى الشئون الداخلية للحلفاء الأوروبيين بشكل سافر ومرفوض. ◄ انتهاء التحالف كل ذلك يزيد من وطأة الاحتقان فى العلاقات بين الحلفاء عبر الأطلنطى. لكن أخطر ما ينذر به هو تبدل كامل فى شكل ذلك التحالف. فهذا الاحتقان قد لا يتعلق بسنوات إدارة ترامب فحسب، بل إن انهيار الثقة بين الجانبين يتوقع معه أن يتخذ الحلفاء الأوروبيون إجراءات تحوُّط سياسية تمنعهم مستقبلا من الانضمام - بشكل أعمى - للولايات المتحدة فى قضاياها العالمية. وبكلمات أخرى، فإن التشدد والعداء الذى تبديه واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين قد يدفعهم إلى التحول بعيدا عن ذلك التحالف التقليدى، وكذلك الاستقلال السياسى والعسكرى عنه مستقبلا، لاسيما أن هذا التحالف الذى أبدوه مع الولايات المتحدة إبان حرب أوكرانيا قد كلفهم العداء مع روسيا واحتمالات الانتقام من جانبها، وذلك بعد أن كان تحالفهم الاقتصادى مع موسكو قويا بما يضمن لهم الأمن بشكل كبير. ورغم هذا التخلى من جانبهم عن علاقاتهم السابقة مع موسكو من أجل الانضمام إلى الجانب الأمريكى، فقد تخلى عنهم ترامب الآن ووضعهم فى مواجهة موسكو، ليبحثوا كيفية ترتيب صفوفهم والاستعداد عسكريا لصد أى هجمات انتقامية. ◄ أمريكا الخبيثة وقبل أيام، كتب المفكر السياسى ستيفن والت فى مجلة فورين بوليسى مؤكدا أن الولايات المتحدة باتت هى الآن عدو أوروبا. وقال إن حلفاء أمريكا من الديمقراطيات يجدون أنفسهم الآن «قلقين من أن الولايات المتحدة أصبحت فعلاً خبيثة». وأضاف أنه فى مواطن الخلاف التاريخية بين أمريكا وأوروبا، كان القليل من الأوروبيين يعتقدون أن الولايات المتحدة كانت تحاول عمدًا إيذاءهم؛ كانوا يعتقدون أن واشنطن ملتزمة حقًا بأمنهم وفهموا أن أمنها وازدهارها كانا مرتبطين بأمنهم وازدهارهم. وكانوا على حق، مما جعل من الأسهل على الولايات المتحدة كسب دعمهم عندما كان ذلك ضروريًا. لكن بالنسبة لمعظم القادة الأوروبيين - الآن - الوضع بات مختلفا تمامًا. فالأمر لم يعد يقتصر على الخلافات فى السياسات والملفات بل إن ترامب جعل من الواضح أنه يعتقد أن القوى العظمى يمكن ويجب أن تأخذ ما تريده، بل جعل من غير السرّى أنه يطمح إلى امتلاك بعض ممتلكات حلفائه الأوروبيين. فلا عجب أن ترامب غير قلق إذا انتهت روسيا بحيازة 20٪ من أوكرانيا، نظرًا لأنه يريد أن تكون جرينلاند ملكًا له؛ وقد يعيد احتلال منطقة قناة بنما؛ ويعتقد أن كندا يجب أن تتخلى عن استقلالها وتصبح الولاية 51؛ ويتحدث بحماسة عن الاستيلاء على قطاع غزة وطرد سكانه ثم بناء بعض الفنادق. قد تبدو بعض هذه الأفكار خيالية تمامًا، لكن وجهة النظر التى تكشف عنها هى شيء لا يمكن لأى قائد أجنبى تجاهله. ويؤكد والت أنه من المهم تذكر أن الدفع الأولى من أجل التكامل الاقتصادى الأوروبى حدث فى الخمسينيات، عندما كان القادة الأوروبيون يعتقدون أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من القارة فى المستقبل القريب وتعيد المسئولية عن الأمن الأوروبى إلى هذه الدول. وكان دمج الصناعات الرئيسية مثل الفحم والصلب خطوة أولى لبناء وحدة اقتصادية وسياسية كافية لتمكين هذه الدول من مواجهة الاتحاد السوفيتى دون مساعدة أمريكية مباشرة. وبالتالى، فالتاريخ المبكر يذكر أن احتمال الاضطرار إلى الاعتماد على أنفسهم كان فى يوم من الأيام دافعًا قويًا وراء مزيد من التعاون الأوروبى، ومن ثم البروز ككتلة سياسية أكثر استقلالا فى النظام الدولى.