فى عام 2025 تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها تعيد رسم قواعد اللعبة فى الشرق الأوسط على نحو مختلف تمامًا عمّا عرفته المنطقة منذ بداية القرن الجديد فبدلًا من الانخراط الواسع والتدخل المباشر الذى طبع مرحلة الحروب الكبرى، تتجه واشنطن اليوم إلى اعتماد مقاربة أكثر براغماتية، تقوم على تحديد مصالح دقيقة وحماية نقاط نفوذ محددة دون الانزلاق إلى مغامرات مكلفة ومع ذلك، فإن هذه المقاربة الجديدة، التى تتزامن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لا تمر دون ثمن، ولا تُطبَّق فى فراغ سياسى أو جغرافي؛ بل إنها تكشف عن معادلة جديدة تتشكل ببطء ولكن بوضوح، تتلخص فى سؤال جوهري: من سيدفع ثمن هذه الاستراتيجية؟ فبينما تُخفّض واشنطن حجم التزاماتها العسكرية وتقيّد تدخلها المباشر وتدفع نحو نموذج يقوم على «الأمن مقابل المشاركة فى التكلفة»، فإن الأطراف الإقليمية تجد نفسها أمام واقع جديد لا يسمح بالاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة كما كان الحال فى العقود السابقة فثمن الحفاظ على الاستقرار، وتأمين الممرات البحرية، وردع إيران، ودعم إسرائيل، وإدارة الأزمات المزمنة فى سوريا واليمن ولبنان والعراق، لا بد أن يدفعه أحد والسؤال الحقيقى لم يعد متعلقًا بنوايا واشنطن، بل بمن سيتحمل عبء هذا التحول. اقرأ أيضًا | ترامب يرسل موفده إلى برلين للقاء زيلينسكي ومسؤولين أوروبيين بشأن أوكرانيا ويظهر بوضوح أن دول الخليج هى الطرف الذى يتحمل النسبة الأكبر من تكلفة هذه الاستراتيجية فالإدارة الأمريكية تريد حضورًا مؤثرًا لكنه منخفض التكلفة بالنسبة لها، وترى فى دول الخليج شريكًا قادرًا على تمويل الجزء الأكبر من البنية الأمنية الإقليمية. أما الفلسطينيون، فهم يتحملون ثمنًا من نوع مختلف تمامًا. فمع استمرار الدعم الأمريكى غير المشروط لإسرائيل، تتعامل واشنطن مع القضية الفلسطينية باعتبارها ملفًا «قابلًا للإدارة»، لا «قابلًا للحل». وهذا يعنى استمرار غياب الأفق السياسي، وتراجع فرص التفاوض، وتفاقم التوترات الميدانية. وبذلك يصبح الثمن الذى يدفعه الفلسطينيون ثمنًا سياسيًا وإنسانيًا مضاعفًا، فى ظل غياب ضغط أمريكى فعلى على إسرائيل، وفى ظل سياسة أمريكية ترى أن أى مسار تفاوضى لا يجب أن يأتى على حساب أولويات إسرائيل الأمنية. وتدفع إيران ثمنًا آخر، يتمثل أساسًا فى الكلفة الاقتصادية والعزلة السياسية. فواشنطن تستمر فى سياسة الضغط، وإن كانت أقل اندفاعًا نحو التصعيد المباشر، لكنها تُبقى العقوبات مشددة، وتعزز قدرات خصوم إيران الإقليميين، وتحاصر نفوذ طهران فى العراقوسوريا ولبنان واليمن عبر أدوات الردع غير المكلفة للولايات المتحدة نفسها. وإيران تجد نفسها مضطرة لإنفاق موارد أكبر للحفاظ على شبكات نفوذها الخارجي، بينما يتعرض اقتصادها لمزيد من التآكل. أما الدول العربية التى تعانى من أزمات داخلية مثل سورياوالعراق ولبنان واليمن فهى تدفع ثمن الاستراتيجية الأمريكية من زاوية مختلفة. واشنطن لا تسعى لحلول جذرية، بل تفضّل «إدارة الفوضى» حتى لا تتحول إلى تهديد مباشر لمصالحها أو لحلفائها. وهذا يعنى أن هذه الدول تبقى فى حالة شلل سياسى وأمني، لا تتلقى دعمًا كافيًا للحل، ولا تواجه ضغطًا دوليًا كافيًا للتغيير. والنتيجة أن ثمن الجمود يصبح عبئًا على شعوبها واقتصاداتها ونُظمها السياسية، أكثر مما هو عبء على واشنطن نفسها. ومع ذلك، لا يعنى هذا أن الولاياتالمتحدة لا تدفع أى ثمن إطلاقًا. فهى تتحمل تكلفة سياسية على الأقل: فكل تدهور كبير فى الإقليم يضع واشنطن فى موقع المسؤول المباشر، لأن نفوذها فى المنطقة ما يزال قائمًا وإن كان أقل كثافة. كما تتحمل تكلفة الحفاظ على توازن دقيق بين دعم إسرائيل وردع إيران وطمأنة الخليج، دون الدخول فى حروب واسعة. وهذه التوازنات بدورها تخلق ضغوطًا داخلية على الإدارة الأمريكية، خاصة فى ظل حالة الانقسام السياسى المحلي. وفى المقابل، يبدو أن إسرائيل هى الطرف الأقل دفعًا للثمن فى هذه الاستراتيجية، بل الطرف الأكثر حصولًا على المكاسب. فدعم واشنطن يتواصل بلا شروط تقريبًا، والتفوق العسكرى الإسرائيلى محفوظ، والشراكات الإقليمية لا تكلفها تنازلات سياسية كبيرة، والدور الأمريكى فى ردع إيران يصب مباشرة فى مصلحة إسرائيل، سواء على مستوى ردع التهديد أو تقليص قدرات خصومها الإقليميين. وبذلك يتشكل المشهد الإقليمى لعام 2025 كمعادلة لإعادة توزيع الأعباء: البعض يدفع ماليًا، والبعض يدفع سياسيًا، والبعض يدفع اقتصاديًا أو أمنيًا، بينما تحاول واشنطن الحفاظ على نفوذها بأقل تكلفة ممكنة. وهكذا تتحول فكرة «من يدفع الثمن؟» إلى المفتاح الرئيسى لفهم السياسة الأمريكية فى المنطقة، وإلى عدسة تحليل تُظهر مدى تعقيد التوازن بين مصالح واشنطن وقدرة الأطراف الإقليمية على تحمل تبعاتها. عند مقارنة طريقة تعامل ترامب مع الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى مع استراتيجيته فى ولايته الثانية، نجد أن هناك ثوابت واضحة، لكن هناك أيضًا تغييرات عميقة تعكس تطورًا فى الأولويات وطريقة توزيع الأعباء. ففى ولايته الأولى، كان ترامب أكثر اندفاعًا، وأكثر مباشرة فى استخدام أدوات الضغط القصوى: انسحب من الاتفاق النووى مع إيران، فرض أقسى العقوبات فى تاريخها، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ودعم إسرائيل بشكل مطلق، ودفع نحو اتفاقات أبراهام، وسعى إلى تشكيل محور عربى إسرائيلى تحت الرعاية الأمريكية. كانت استراتيجيته تقوم على خلق تحالفات مربحة للولايات المتحدة دون أن تتحمل واشنطن كلفة عسكرية كبيرة، لكنها كانت فى الوقت ذاته حاضرة بقوة فى الملفات الساخنة. أما فى ولايته الثانية، فإن الطابع البراغماتى يزداد حضورًا. الشعار المركزى يصبح «الأمن مقابل الدفع»، ويصبح الهدف هو الاحتفاظ بالنفوذ الأمريكي، ولكن بأقل تكلفة عسكرية ومالية على واشنطن نفسها. يستمر الضغط على إيران، لكن دون اندفاع نحو مواجهة شاملة. يستمر دعم إسرائيل، لكن بدون مبادرات سياسية واسعة النطاق وتبقى الأزمات فى سوريا واليمن ولبنان والعراق فى دائرة «الإدارة» وليس الحل. بكلمات أخرى: إذا كانت الولاية الأولى اتسمت بالصدام المباشر والتحرك الفعال، فإن الولاية الثانية تتسم بإعادة توزيع التكلفة على الأطراف الإقليمية، بينما تتولى واشنطن دور «القائد من الخلف» الذى يحرك التوازنات دون أن يتورط فى دفع كلفتها.