منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى بداية عام 2025، ظهر تحول واضح فى موقفه العلنى من روسيا، وهو ما أثار جدلًا واسعًا فى الأوساط السياسية والدبلوماسية الدولية ففى حين كان ترامب فى ولايته الأولى متّهمًا باللين تجاه موسكو، بل ومتّهَمًا بالتقارب الشخصى مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فإن نبرته الحالية باتت أكثر حدة، وتصريحاته تتجه إلى تحميل روسيا مسئولية مباشرة عن تزعزع النظام الدولى بل وصل الأمر فى الأيام الماضية إلى رفع الحظر الذى فرضه فى الآونة الأخيرة على أوكرانيا من جديد. هذا التحول يطرح تساؤلات عن خلفياته الحقيقية، وما إذا كان يعكس قناعة جديدة، أم مجرد مناورة فى سياق سياسى متغير، داخليًا ودوليًا. من الناحية الجيوسياسية، فإن العالم فى عام 2025 يختلف جذريًا عن المشهد الذى واجهته إدارة ترامب الأولى. اقرأ أيضًا | الاتحاد الأوروبي يفرض حزمة عقوبات جديدة تستهدف 22 بنكًا وعشرات الكيانات الروسية فروسيا تخوض منذ أكثر من ثلاث سنوات حربًا مكلّفة فى أوكرانيا، أنهكت مواردها، وزعزعت استقرارها الداخلى، وأضعفت موقعها الاقتصادى والدبلوماسى. وعلى الرغم من بعض المكاسب الميدانية التى حققتها موسكو، فإن الغرب بقيادة واشنطن نجح فى فرض عزلة نسبية على روسيا، وزيادة اعتمادها على الصينوإيران. هذا الواقع الجديد فتح شهية إدارة ترامب لاستثمار الضعف الروسى لصالح تعزيز النفوذ الأمريكى، لا سيما فى مناطق النفوذ التقليدية لروسيا مثل أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، وحتى الشرق الأوسط. ترامب، المعروف بنزعته البراغماتية، لا ينظر إلى روسيا من منظور أيديولوجى بقدر ما يراها من زاوية المصالح والمساومات. وهذا ما يجعل تحوّله الظاهرى قابلًا للفهم إذا ما قُرئ ضمن استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل توازن القوى العالمى. ففى ظل صعود الصين كمنافس اقتصادى وعسكرى مباشر للولايات المتحدة، قد يكون الضغط على روسيا وسيلة لتقليص تحالفها المتصاعد مع بكين، أو على الأقل لتفكيك شراكتها الاستراتيجية من هذا المنطلق، فإن اللهجة المتشددة تجاه موسكو قد تخفى وراءها محاولة لتقديم عرض تفاوضى كبير لاحقًا، بحيث يتم فصل روسيا عن الصين مقابل تنازلات استراتيجية فى أوكرانيا أو الطاقة أو الملفات الأمنية فى أوروبا. ولا يمكن فى هذا السياق تجاهل العلاقة الشخصية التى تربط بين ترامب وبوتين، وهى علاقة معقدة اتّسمت خلال السنوات الماضية بمزيج من الإعجاب المتبادل والحذر الشديد. لكن فى الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أن هناك تحوّلًا حقيقيًا فى البيئة السياسية التى تحيط بترامب. فاتهامات التواطؤ مع روسيا التى لاحقته فى ولايته الأولى لا تزال عالقة فى ذاكرة الرأى العام، وتجعله اليوم أكثر حرصًا على الظهور بمظهر الزعيم الصارم، القادر على مواجهة الخصوم الكبار، لا التحالف معهم. كما أن الحزب الجمهورى نفسه تغيَّر، فتيار الصقور عاد إلى الواجهة، خاصة بعد أن أثبتت حرب أوكرانيا أن روسيا ليست شريكًا استراتيجيًا، بل خصم يجب تحجيمه. هذا التغيُّر فى التوجه الحزبى، إضافة إلى الضغوط الإعلامية، قد يكونان دافعين أساسيين وراء التبدل فى خطاب ترامب، حتى لو ظل مستعدًا للانفتاح على موسكو إذا توافرت الشروط المناسبة. الجوانب الجيوسياسية لهذا التحول لا تقتصر فقط على أوروبا أو أوكرانيا، بل تمتد إلى مناطق أخرى من العالم ففى الشرق الأوسط، حيث لروسيا حضور عسكرى واستخباراتى فاعل، تسعى إدارة ترامب إلى إعادة رسم خريطة النفوذ من جديد. دعم إسرائيل الكامل، وضبط تمدد إيران، وتحجيم النفوذ الروسى فى سوريا، كلها أهداف تسعى واشنطن إلى تحقيقها ضمن صفقة شاملة تعيد تموضع موسكو. وفى أفريقيا، حيث تسعى روسيا لتعويض خسائرها الأوروبية عبر توسيع نفوذها الأمنى والاقتصادى، تعمل واشنطن على إطلاق مبادرات مضادة، من خلال دعم الحكومات الحليفة، وزيادة الحضور العسكرى غير المباشر. حتى فى ملف الطاقة، الذى كان أحد أوجه التفاهم بين ترامب وبوتين فى السابق، لم تعد هناك أرضية مشتركة واضحة. فمع محاولات روسيا استخدام صادراتها من النفط والغاز كسلاح سياسى، يبدو أن إدارة ترامب الجديدة تتجه إلى دعم إنتاج الطاقة المحلى بأقصى طاقته، وتقوية الشراكة مع دول الخليج كمصدر بديل. أما عن الموقف الروسى من هذا التحول، فقد اتسم بالحذر والترقب، لا بالمواجهة المباشرة ومع ذلك، فإن موسكو تدرك أن ترامب قد يستخدم الورقة الروسية فى صراعه مع الصين، وربما لممارسة الضغط على حلف الناتو أو أوروبا الشرقية. وهذا يضع روسيا أمام معضلة مزدوجة: هل تفتح حوارًا مشروطًا مع إدارة ترامب وتجازف بعلاقاتها مع بكين؟ أم تستمر فى التكتل المناهض للغرب، وتتحمّل الضغوط الأمريكية الجديدة؟ لذا، فإن بوتين يراهن حاليًا على التهدئة الاستراتيجية: لا تصعيد مقابل، ولا تنازلات مجانية، بل بقاء على الحافة، مع الحفاظ على قنوات خلفية للاتصال، بانتظار لحظة مناسبة لعقد صفقة قد تُغيّر قواعد اللعبة. باختصار، فإن تحول ترامب فى موقفه من روسيا ليس وليد قناعة أيديولوجية أو انعطافة أخلاقية، بل هو انعكاس لمعادلة معقدة، تتشابك فيها الجغرافيا مع المصالح، وتُرسم فيها الاستراتيجيات بلغة الصفقات لا المبادئ. أما موقف روسيا، فيتسم بالترقب دون استسلام، والحذر دون قطيعة، فى انتظار ما إذا كانت هذه المرحلة مقدمة لمواجهة مباشرة، أم تمهيدًا لتفاهم خفى قد يظهر لاحقًا على طاولة مفاوضات لا تزال غامضة الاتجاه.