في رسالة دكتوراه بعنوان "تأويل ابن تيمية لدى جماعات التطرف الديني-جماعة الجهاد نموذجًا" تناول الباحث قضية مهمة تشغل الساحة الإعلامية اليوم، نظرا لأن مقولات شيخ الإسلام ابن تيمية هي الأكثر ورودًا وتكرارًا في كتابات مرجعياتها الجماعات الجهادية وتنظيم القاعدة، حيث إن ابن تيمية ركن الإسناد السلفي عندها، خاصة بعض أطروحاته، رحمه الله، فيما يخص التكفير أو مجابهة الحُكام وفق فتوى ماردين، أو بعض فتاويه الأخرى. وقد اعتمدت التيارات الجهادية في تأسيس خطابها وممارساتها الجهادية كقتل المدنيين على "فتوى التترس"، أو الخروج على الحكام اعتمادًا على "فتوى ماردين" وغيرها، كان كذلك أساًسا في مراجعاتها وتصحيحها لمرحلتها الأولى، فظل حاضرًا في المرحلتين. وقد دفع الباحث لهذا البحث رغبته في استجلاء فهم هذه الجماعات لابن تيمية رحمه الله، وهو ما استمر مع متتابعة غلوائها، من الجهاد إلى القاعدة ومن القاعدة إلى تنظيم الدولة داعش، والتي ما زالت تحمّله أخطاءها وفظائع ممارساتها، أوضح الباحث تراجع كثيرٍ من منظري الجماعات عما سبق أن طرحوه في كتاباتهم الأولى، معتمدين عليه ومستندين إليه في المراجعة بعدما اعتمدوا عليه في التأسيس بشكل كبير!! أما أهم نتائج البحث فهي: أنه غلب على القراءات الجهادية لشيخ الإسلام ابن تيمية الابتسار والاقتطاف دون انتباه لمجمل الخطاب، فبينما يبدو شيخ الإسلام ابن تيمية رافضًا ومنكرًا لتكفير المعين، يحضر إصرار الجماعات الجهادية المعاصرة على مسائل التكفير، سواء في ذلك تكفير المعين أو التكفير استنادًا لأحكام الديار، واعترض بعضهم على آرائه فيها صراحة، وخرجوا عليها ولم يقبلوا آراءه فيها، ولم يلتزموا منهجه مخالفين له، رغم أنهم يستندون بشكل رئيس لفتواه في ماردين التي هي جزء من تصوره للديار في الإسلام. أما موقفه من مسألة الإمامة والحكم، فلم تكن الإمامة ومسألة الحكم مسألة أولوية أو رئيسة في خطاب وجهاد شيخ الإسلام ابن تيمية، على العكس من الحركات والجماعات الجهادية. أم عن واقعية الفهم السياسي والجهاد فقد تعاطى شيخ الإسلام ابن تيمية مع السياسة والحكام تعاطيا واقعيا قائما على النصح والنقد السلمي والمدني، وهي سمة عامة للمذهب الحنبلي، سبقه إليها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وجددها ابن تيمية بمنهجه الحجاجي. وكذلك أوضحت الرسالة إهمال الجهاديين للنظرية السياسية عند ابن تيمية، وإهمالهم قراءة التاريخ الجهادي لابن تيمية، ففتواه في التتار محرفة في طبعتها عن أصلها، كما أن تاريخه الجهادي يؤكد أن التتار أو غيرهم لم يكن أولويته بل الفِرق الأخرى. وبينما تشتد الحركات الجهادية مع مخالفيها، تبديعا أو تكفيرا، نجد شيخ الإسلام ابن تيمية نافرًا من تكفير المخالفين أو تبديعهم، يرفض التعيين، فهو يُخطِّئ ولا يكفر، ويصوب ولا يقصي. كذلك كشفت الرسالة بشأن المراجعات وتصحيح المفاهيم، وأن هذه الجماعات قد عادت في مراجعاتها عما سبق أن أكدته، وعادت لآراء ابن تيمية فيما سبق أن خالفته فيها، وخاصة ما يتعلق بمسألتي حكم الدار والعذر بالجهل والتكفير دون شرط الجحود والاستحلال. وأوضحت الرسالة الوعي التاريخي عند شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث عادت له هذه الجماعات في مراجعاتها، وإن لم تشملها، فقد اعتمدت فقه المآلات وفقه التاريخ، بعد أن كان يرفض بعض منظريها هذا التطور التاريخي ويتعالى عليه، رافضا ما اصطلح عليه ب "فقه السيرة"، بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه- خطابه التاريخي- أو في تأسيساته الثابتة يعطي اعتبارا كبيرا للسيرة ولتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، في فهم الأحكام والوقائع، وأن السلفية الجهادية ابتسرت فتاوى ابن تيمية التاريخية كفتوى التتار بالخصوص عن سياقاتها وتجاهلت محل الفتوى وخصوصيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، أو تحقيق مسألتها تاريخيا، كما ابتسرت فتوى التترس وغيرها من فتاوى ابن تيمية، وأن من أبرز أخطاء السلفية الجهادية في قراءتها لشيخ الإسلام ابن تيمية هي خلطها بين الزمني والتاريخي من جهة وبين العقيدي والثابت من جهة أخرى، واستخدامها مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بنفس مفاهيمها المعاصرة والخاصة لها، ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادا وشرائع. كما أثبتت الدراسة أن ثمة فروقا بين شيخ الإسلام والحركات الجهادية المعاصرة، أهمها أن أولويات ابن تيمية كانت الدعوة على السلطة، وأولوية الأمة على الإمامة، وتعيد للمجتمع المسلم حيويته ومعياريته الأخلاقية وصفاءه العقدي بعيدا عن سراديب السلطة واختلافات الإمامة. الرسالة كانت للباحث والكاتب الصحفي هاني حسن حسين نسيرة بإشراف كل من د.محمد السيد الجليند ود.محمد عبد الله الشرقاوي أستاذي الفلسفة الإسلامية بدار العلوم بالقاهرة، وناقشها د.محمد عبد الله عفيفي أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم بالفيوم ود.حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم بالقاهرة. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر