أحمد فرغلي: غم أننا عرفناه يحمل لقب الثالث دائما, فإن حياة البابا شنودة وسنوات عمره الطويلة كانت تمكنه دائما أن يكون الأول.. ففي طفولته كان نابغة بين أقرانه, وفي شبابه كان متميزا بوعيه وعلمه ودراسته وإطلاعه.. وعند دخوله الحياة العملية بدا للرجل شأن آخر.. فأصبح الرمز والراهب ورجل الدين المسيحي الأول.. ليس لكونه البطريرك فقط, ولكنه تمكن من تحقيق الزعامة الروحية, فكان فصيحا في دينه, بليغا في حجته, حكيما في مواقفه. هذه السطور محاولة للتعريف بحياة الرمز المسيحي الكبير من خلال قراءة تاريخه. قصة حياة البابا شنودة كما رواها عن نفسه تحكي تاريخا طويلا لشخصية آسرة لها العديد من المواقف المشهورة, ربما بدأت تتكون لبنتها الأولي منذ أن كان الراحل طفلا صغيرا في قرية سلام الواقعة علي أطراف أسيوط علي بعد نحو053 كيلومتر جنوبالقاهرة. هذه القرية شهدت قدوم ومولد الطفل نظير جيد هذا اسمه الأول الذي رحلت عنه والدته وهو طفل صغير, فلم يرضع منها ولم ينعم بدفء أحضانها.. عبر عن حرمانه من أمه بكلمات هذا نصها: أحقا كان لي أم فماتت/ رباني الله في الدنيا غريبا أم أني قد خلقت بغير أم/ أحلق في فضاء مد لهم. ولكن عوضه الله بأخ حنون كان موظفا في دمنهور, فأخذه معه ليقضي معه سنوات الدراسة, وبعد انقضاء السنة الأولي الابتدائية, انتقل إلي الإسكندرية ليقضي السنتين الثانية والثالثة ليعود في العام الرابع من دراسته الابتدائية إلي أسيوط مرة أخري برفقة شقيقه شوقي, وينشغل في أسيوط منذ طفولته بالقداس الكيرلسي, الذي كان يقيمه أسقف أسيوط آنذاك والذي صار فيما بعد البابا مكاريوس الثالث ويغرق الطفل نظير جيد في عظات الأرشيدباكون إسكندر أشهر واعظ مسيحي آنذاك.. فتضيع عليه السنة الدراسية هو وشقيقه, ويرحل عن أسيوط مرة أخري إلي مدينة بنها ليدخل مدرسة الأمريكان وهي مدرسة مسيحية ذات طابع ديني ويحصل منها علي الابتدائية, وقدتمكن في هذه المدرسة من حفظ مزمور السماوات, المعروف لدي المسيحيين بلغته الصعبة والذي تلقي مقابله إنجيلا ذهبيا كمكافأة له, فضلا عن تمكنه من حفظ جميع التراتيل الموجودة في الكنيسة تقريبا. وتمضي السنون بالطفل نظير جيد ليتحول إلي طفل قارئ بنهم لكل ما تقع عليه عيناه من علوم دينية وقصص وكتب في الأدب والعلوم, ولم يكن له رفقاء يلعب معهم. وعندما كان عمره61 عاما, تلقي عرضا بإلقاء الدروس في مدارس الأحد, وسهل له أحد الخدام القدامي هذه المهمة, وبدأ يلقي أول دروسه بكنيسة العذراء في مهمشة, ومنها انطلق الشاب إلي العديد من مدارس الأحد بالقاهرة وغيرها, وفي كنيستي العذراء ومارمينا بشبرا ذاع صيته, وشيئا فشيئا بدأ يدرس لمن يطلقون عليهم الفصل الكبير وهذا الفصل يتعلم به المدرسون والمتدربون الكبار. وعلي حسب رواية البابا شنودة, التحق بكلية الآداب ليدرس التاريخ الفرعوني والإسلامي والحديث, ولأنه كان متفوقا فقد تم أعفي من الرسوم المادية.. وفي كلية الاداب كان الأول علي دفعته في السنة الأولي, وكان يتمتع بروح الفكاهة وإلقاء الشعر والزجل, بل وينشد الموال, وبمجرد وقوفه أمام زملائه يضحكون مقدما, منتظرين منه ما يبهجهم, خاصة في حفلات الكلية, ومن المواقف المضحكة أنه هو وزملاءه في قسم التاريخ كانوا لا يحبون مادة الجغرافيا, فكتب عن الجغرافيا يقول: حاجة غريبة بادخلها بالعافية في مخي ما تدخلش.. بنشوف في الأطلس أمريكا وألمانيا وبلاد الدوتش.. ما تقول لي بأي فوتوغرافيا, وتقول ما تقول ما هاصدقش حاجة غريبة بادخلها بالعافية في مخي ما تدخلشي. وهكذا كان يعبر عن أشياء كثيرة بالكلمات وبدأ الشعر عنده يتحول إلي الصبغة الدينية في سنواته الأخيرة بالجامعة, وعندما كان يدرس بالسنة الرابعة في كلية الآداب, التحق البابا بالكلية الإكليريكية القسم المسائي وكان حينها يعطي الدروس في مدارس الأحد.. والتحق بعد ذلك بكلية الضباط الاحتياط, وكان الأول علي دفعته, وعمل مبكرا في الصحافة عندما مارس العمل الصحفي محررا بمجلة مدارس الأحد, ثم تولي مسئولية رئاسة التحرير بها فيما بعد. تاريخ هذا الرجل الديني الكبير مزدحم بالمواقف والأحداث, ففي بداية حياته العملية لم يكن يتحكم في مشاعره لكنه مع مضي الوقت بدأ يغير أسلوب كلامه ويتحول إلي الأسلوب اللاهوتي, فلا يترك نفسه تضعف أمام الناس. لست أريد شيئا من العالم, لأن العالم ليس به شيء يشبعني.. هذه العبارة كشف بها البابا شنودة عن رغبته الدفينة في التحول إلي عالم الرهبنة.. هذا العالم الذي انتقل إليه علي حسب روايته ليس سأما من الحياة أو عجزا عن إكمال مسيرته, فهو شخص ناجح بين أقرانه, لكنه كان يشعر أن في قلبه فراغا لن تشبعه إلا حياة الرهبنة, ودخل الرجل في هذه الحياة ليقضي عشر سنوات كاملة مع نفسه وربه, مكرسا فيها كل وقته للتأمل والصلاة, وذلك بعد أول عام من رهبنته وسيامته قسا. ويذكر أنه تغير اسمه منذ أن رسم راهبا باسم انطونيوس السرياني في يوم السبت4591/7/81, وعمل بعد ذلك سكرتيرا خاصا للبابا كيرلس السادس الذي عينه أسقفا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية, وكان أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الإكليريكية. وفي يوم9 مارس1791, رحل البابا كيرلس وأجريت انتخابات البابا الجديد في31 أكتوبر1791, وكتب هذا التاريخ ميلادا جديدا للبابا شنودة الثالث, فبعد إجراء عدة اجتماعات لانتخاب من يرشحونهم للكرسي المرقسي, أسفرت النتائج عن فوز الأنبا صموئيل والأنبا شنودة, والثالث القمص تيمو ثاوس المقاري. وقدمت هذه الأسماء الثلاثة إلي القرعة الهيكلية ليلعب القدر دورا آخر في حياة الأنبا شنودة, وبعد أن غطت رائحة البخور المكان أحضروا مائدة ووضعوها أمام الهيكل ليقف الأنبا أنطونيوس القائم مقام البطريرك آنذاك ويترك المجال لطفل صغير يختار عشوائيا واحدا من الثلاثة, فيكون الأنبا شنودة هو الرجل المحظوظ الذي تسلم مفتاح باب الكاتدرائية, وهو يتمتم مرتلا المزامير. وبعد احتفالات التتويج يجلس علي كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبري حاملا الرقم(711) في تاريخ البطاركة, وفي عهده تمت سيامة وترقية أكثر من مائة أسقف و004 كاهن وعدد كبير من الشمامسة في مصر وبلاد المهجر. وبعدها دخل عالم السياسة من باب اللاهوت.