«التفاصيل الصغيرة هي قوام هذه الحياة التي نعيشها» يقولها الروائي ابراهيم أصلان وهو ينبهنا لكي نلتفت اليها ونهتم وننشغل بها ونغطس في هذه التفاصيل ونعيش بها. وبالفعل ان عشناها من حقنا أن نقول ونعتز بأننا قد عشنا الحياة بطولها وعرضها – وعمقها معا.في حين تقول نوال السعداوي «الحيرة ضرورية لنعيد التفكير فى أنفسنا»وتضيف «تكلمى مع نفسك فى هدوء واسأليها ماذا تريد؟ استمعى إلى الصوت البعيد فى أعماقك، القادم من طفولتك ونفسك الحقيقية؟ استمعى جيدا ثم اكتبى ما يقوله لك هذا الصوت» وقد تنتبه المرأة إلى أن هذه الخطوات تحتاج الى جرأة وصدق مع النفس وعزيمة وأيضا رغبة وارادة في كسر التقليدي والمعتاد وأيضا المحبط والمذل!! ولكن ..«ايه اللي يمنعك؟!»مع اقتراب حفل توزيع جوائز «أوسكار» .. «الليلة الكبيرة» لمبدعي وعشاق ودراويش السينما يأخذنا الخيال ويأسرنا الجمال وتطير بنا الأفلام و«نعيش أحلامنا مهما كانت». واذا كان البعض يلح في تساؤله عن الفائز والحاصل على «أوسكار» الجائزة فان عاشق السينما يرى دائما ويؤمن وأيضا يقر بأنه هو الفائز في كل الأحوال وذلك بمشاهدته لفيلم مبدع خلاب صنعه فنان أو فنانة في لحظة ابداع تعطي لخيالنا وسرحتنا آفاقا مجهولة ولحياتنا معان جديدة. حالة هذا العشق يكتب عنها الناقد السينمائي رءوف توفيق قائلا «اعترف أنني وقعت في هوى سحر السينما»ويضيف«عاشقا صبابة لهذا الفن الذي يحرك الخيال ويفتح المسام لكى نتنفس هواء متجددا ومنعشا يحمل في أحيان كثيرة أفكارا من نور مثلما يحمل في أحيان أخرى أفكارا مشوشة..ولا بأس .. فهذه هي الحياة بتقلباتها .. وعلينا أن نقبل التجارب ونتعلم». ولا شك أن بمشاهدتنا للأفلام ومعايشتنا لها نتأمل ونتألم ونتعلم ونزداد معرفة وحنكة وادراكا وحكمة لسيناريوهات دنيانا .. ودراما البشر. وطالما نتحدث عن السينما الساحرة أتوقف عند هذا الاعتراف أيضا «يوسف جعلني أحس أن الفنان كائن لا مثيل له. قبله لم أكن متيقنة أو الأحرى كنت أخاف من التفكير على هذا النحو.قال لي: أنت يسرا وليس في استطاعة أي شخص غيرك أن يكون يسرا» هكذا كانت اشادة الفنانة يسرا بالمخرج يوسف شاهين. وهكذا تلعب السينما بخيالنا وروحنا واحساسنا بأننا بشر لنا أجنحة وأن الدنيا ممتدة أمامنا. وانك أنت أيضا كائن متميز ومميز لا مثيل لك.
وبيروت هذه الأيام تحتفل بالذكرى الأولى لرحيل الشاعر أنسي الحاج. الحاج الذي كتب يوما ما: «... ما يريده الإنسان هو أن يُسْتَقبل. وبحفاوة ودفء. لا تُرْغمْه على كسر نفسه أو إنكارها كشرطٍ لقبوله، لأنّك بهذا محواً تمحوه وقتلاً تقتله. الضيافة الحقيقيّة هي الترحيب بالآخر لا على علّاته فحسب بل بشعور قلبيّ أنّه أفضل منّا. في القرية اللبنانيّة كانوا يحفظون الصحن الأفخر والأطيب لغريبٍ قد يمرّ. وله أيضاً السرير الأفخم. بعضهم لا يزال عند هذا التقليد. الشعور حيال الغريب كما لو أنه طفلٌ جاء الآن إلى العالم ويحتاج إلى البشاشة وكلّ ما يغمره بالأمان».
وهو الذي قال أيضا: « لم يدفئني نور العالم بل قول أحدهم لي أني، ذات يوم، أضأت نورا في قلبه.»
كما أن أنسي الحاج يتساءل في لحظة ما :
«هل يحِبّ الرجل ليبكي أم ليفرح،
وهل يعانق لينتهي أم ليبدأ؟
لا أسألُ لأُجاب، بل لأصرخ في سجون المعرفة»
وطالما نحاول أن نقترب من عالم «أنسى الحاج » ونتعرف على تفاصيله نجد الكاتب سمير عطا الله يصفه ب«نسر العزلة» ويكتب: «في لبنان، كان أنسي الحاج نقيضا للبنان. تمرد على الخداع والخوف والمداهنة ووضاعة السياسة ونفعيات المجتمع ووصوليات الزعماء وضحالة الطبقة الظاهرة. لكنه لم يجير هذا التمرد على حساب أحد. لا إلى حزب ولا إلى رئيس ولا إلى سياسي. عاش وحيدا وعاش في المطلق. نسر يُغرد ولا ينقضّ. حالم لا يفرض أحلامه على أحد. منعزل مبتعد، وفي الوقت نفسه مقبل مندفع منشغل وشاهر الصدق والغضب والنقاء وصلابة المثل الإنسانية». ويضيف سمير عطا الله في وصفه للشاعر الانسان: «كان يسمّى شاعرا لكن نثره كان أرفع من لغة الشعر. كل مفردة إيقاع. كل فكرة وصلة. كل صرخة قافية. كان عزفا منفردا على الأدب وعلى الحياة. عاش في قلب الصحافة وطياتها وورقها، وظل خارجها وخارجا عليها. لم يتنازل لها عن شيء ولم يساوم معها على شيء. كانت موئله وعدوته. ينفر من فوضاها ويومياتها وزواليتها وسرعة انقضائها من يوم إلى يوم، كأنها مفكرة تكتب على سطح نهر. على الرغم من موقعه فيها منعها جازرا حاسما من أن تدفع به إلى أي سياسي أو أي سياسة. كرئيس لتحرير «النهار» أغلق بابه ومنع أيا كان من إضاعة وقته أو وقت الجريدة. لم يقبل دعوة، ولم يعتذر عنها. لا علاقة له بالعالم الخارجي أو المجتمع الطفيلي.»
وبالتأكيد يجب أن نقف أمام ما كتبه سمير عطا الله عن العاشق الشاعر أنسي الحاج ونقرأه بتمهل وتأمل «حياته نفسها كانت أهم قصائده. العلاقة الوحيدة التي ارتضاها وارتضى سطوتها وأحكامها كانت علاقته مع المرأة. وحدها كانت الكائن الذي ارتضى معه الشراكة بموجب عقد دائم. وفي هذا العقد تنازل علنا عن حقه في أن يكون الفريق الأول. أو حتى أن يكون فريقا. اكتفى بأن يكون «الموقّع أدناه»، والتوقيع كان بصمة الإبهام لكي يحرم نفسه من فرصة الإنكار».
وطالما نحن في فبراير فلا يمكن ألا أسعى للقاء من جديد مع د. رشدي سعيد. وكثيرا ما وصف ب «عاشق النيل» أو «شيخ الجيولوجيين».هذا الرجل العلامة والمفكر الجميل والمدهش الذي أمتعنا فى ال80 من عمره بكتابة ونشر مذكراته فى كتاب بعنوان «رحلة عمر». وهو كتاب رحلات لعمر وزمن جميل عاشه هذا المصرى. لذلك عشنا معه عبر صفحات الكتاب أهم الأحداث والتغيرات التى عاشتها مصر فى القرن العشرين. صاحب «موسوعة النيل» كنت أقول له يا شيخنا ومولانا، وهكذا اعتدت أن أناديه وأن أصبّح عليه بالتليفون «أخبارك ايه يا شيخنا يا مولانا»، خصوصا أننى اخترت وقررت ورضيت أن أكون أحد مريديه وحوارييه وتلامذته على مدى العقدين الماضيين.
وكم كانت أياما جميلة لا تنسى وقت كتابته لرحلة عمره عندما كان رشدى سعيد «بيصبح» على صديقنا فوزى هيكل -الله يرحمه!- وعلىّ أنا يوميا بصفحات من مذكراته مكتوبة بخط يده المنمنم. وكان يرسلها عبر الفاكس ولا يمضى أكثر من نصف ساعة حتى يتصل بى تليفونيا ليقول: «هيه قريت؟ وإيه رأيك؟ وعلى فكرة إذا كنت مش عايز تقرا قوللى علشان ابعتها لحد تانى». وكم سعدنا فوزى وأنا، ونحن نشهد يوما بعد يوم د.رشدى وهو فى الثمانين من عمره «منطلق وطاير» وقاعد يعصر حياته وذاكرته وعايز يتأكد من تفاصيل بعض الأشياء، وكجيولوجى ومفكر «عمال يحفر» فى طبقات مصر التاريخية والاجتماعية ليقدم لنا رحلة عمره وعمرنا..
لذلك لم يكن غريبا أن أقول وأكتب عند سماع خبر وفاته ( يوم 8 فبراير 2013) «والله هتوحشنا.. يا مولانا». قلتها وقتها وأقولها مرة أخرى الآن وأنا أتذكر ابتسامته وأيضا «شقاوته» فى عينيه. وقتها قلت وكتبت: « نعم هتوحشنا لأنك وأنت معانا.. الحياة كان لها معنى تالت أو رابع ومناقشاتنا عن مصر كانت لها أبعاد كثيرة وكلامنا عن النيل والتعليم والبحث العلمى والتنمية والمستقبل كانت..». وكلما سألني أحد عنه وعما تعلمته منه أقول»ان تعيش رحلتك. رحلة عمرك أو فلنقل رحلات عمرك عمقا. وأن تكتشف كالجيولوجى ما فى أعماق أرضك وهويتك وحضارتك وأيضا فى أعماقك. ثم أن تعيش رحلتك تدفقا مثل النيل وعطاءا مثل النيل وأن تروى ما حولك وأن تشارك فى استمرار الحياة وتجددها». وفي احتفائي بحياته فى صلاة جنازته وكان قد توفى وهو فى ال92 من عمره كان من الطبيعي أن أذكر للحضور وفاءا وعرفانا منى .. بأن رشدى سعيد هو ممن تعلمت منهم كيف أقبل على الحياة وأعيشها بالطول والعرض. وبالعمق أيضا.
وبما أننا نتحدث عن الاقبال على الحياة وتجاربها .. والتعلم منها. فاننا يجب أن نكرر لقاءاتنا مع عشاق الحياة وتفاصيلها سواء كانت في أفلام السينما أو قصائد الشاعر أو حفريات الجيولوجي. الكاتب الروائي جمال الغيطاني وهو يصف «أمنيته المستحيلة « يقول: « أن أمنح فرصة أخرى للعيش. أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة .. أجيء مزودا بتلك المعارف التي أكتسبتها من وجودي الاول الموشك على النفاذ» ويضيف « أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم.. وتلك النظرة تعني الود وتلك التحذير .. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات ومازلت أتهجي بعض مفردات الأبجدية». ونعم هكذا تتجدد الحياة حولنا وبداخلنا ونولد من جديد .. أو هكذا نتمنى!!