والله هتوحشنا.. يا مولانا قلتها وأنا أسمع خبر موته، وأيضا وأنا أقلب فى صوره وكتبه وذكرياتى معه.. وطبعا كررتها وأنا أحاول أن أكتب هذه الكلمات عن الإنسان والقيمة والقامة والمصرى والمكانة. وعلى فكرة أنا هنا أحتفى بالدكتور رشدى سعيد ولا أرثيه.. وهو الذى ظل دائما يتحدث عن الغد والتغيير والأفضل والأحسن والأجيال والأحلام الجديدة.. ومصر «اللى فى بالنا». نعم تركنا ومضى وهو فى عامه ال93. وكان لزمن ليس ببعيد يتابع ويناقش ويحتد فى نقاشه ويقلق ويحزن ويضع «إيده على قلبه» على ما حدث فى مصر ويحدث خصوصا فى السنتين الماضيتين. د.رشدى لمن عرفه عن قرب يعرف كم كان حزينا مع اقترابه للتسعين وملاحقة الأمراض ومطاردة الأطباء له، عندما اضطر أو أجبر على عدم الذهاب إلى مصر، كما كان يفعل سنويا وعادة من شهر ديسمبر الى شهر مارس التالى. خصوصا أنه منذ 2010 صار جسده معتمدا على عملية غسيل الكلى وبالتالى كان يجرى له هذا الغسيل 3 مرات أسبوعيا أيام السبت والثلاثاء والخميس. «هو إنت غاوى تغم الناس وتطفشهم ولّا إيه؟! «أسمعه يشخط فىّ وهو يقرأ معى السطور السابقة. خصوصا أن د.رشدى اعتاد عدم الاستسلام وعدم التردد والتوجس وعدم الوقوف طويلا أمام الأبواب الموصدة والعقو، اللى استسلمت أو اللى عفا عليها الزمن. «خلاص.. هأقلب الصفحة» أقولها وأنا أتذكر عاشق النيل.. عاشقه بجد «مغرم صبابة» عن دراسة ومعرفة وعلم، وأيضا الدارس الملم لجغرافية مصر وعالم الجيولوجيا والأستاذ الجامعى لسنوات طويلة (1951 – 1968) ومدير مؤسسة التعدين ورئيس هيئة المساحة الجيولوجية وعضو البرلمان والمفكر الحالم بتعمير الصحراء. وكتبه عن «نهر النيل» و«جغرافية مصر» تعد مرجعية علمية وأكاديمية لكل من له اهتمام بالنيل ومصر فى كل بقاع العالم. د.رشدى كان وظل مرجعيتنا فى كل ما يخص جيولوجيا مصر ونهر النيل. وكم أخذ بيدنا نحن مريديه وأصدقاءه وتلامذته لكى نفهم هذا الشريان المائى الحيوى بالتفاصيل الدقيقة وتأكيد أهميته فى حياتنا. والطريف أنه أحيانا عندما كان يرى على وجوهنا علامات استفهام كان يسحب ورقة وقلما ليضع رسما يحاول من خلاله محو أميتنا تجاه شريان حياتنا وجغرافية بلدنا. ولا ينسى بالطبع أن يعاتبنا غاضبا: «هو إنتو يا شباب اتعلمتوا إيه فى المدارس؟!». إن د.رشدى كان من أبناء رفاعة، وهو بجانب كونه العالم الموسوعى كان المفكر المسحراتى «وهو دايما شايل طبلته ومعاه صيحته.. اصحى يا نايم» الذى ينادى بضرورة الاهتمام بالنيل والتنمية السكانية وتعمير الصحراء والوحدة الوطنية وإصلاح العملية التعليمية و.. وأيضا مشروع توشكى.. ولا أحد ينسى تحفظه بل معارضته العلنية للمشروع على أسس علمية. ولعل أهم قيمة عشتها معه وتعلمتها منه هى أن هناك أكثر من طريقة ووسيلة لحب مصر والتعبير عن هذا الحب، وأنك وأنت بتحب لا يجب أن تقايض أو تساوم أو تبحث عن المقابل أو الثمن، أو تلجأ إلى الكذب أو النفاق. كما أن فى حبك لوطنك مصر ليس من حق أى فرد أو جماعة أن يزايد عليك بأنه بيحب مصر أكثر منك أو من الآخرين. وأذكر هنا أننى كثيرا ما شاطرت حزنه بل غضبه عندما كان يصفه البعض عندما لا يعجبهم كلامه أو موقفه بأنه «القبطى»، وأحيانا يشار إلى كلامه على أنه آت من «قبطى وعلمانى». بالمناسبة الدكتور رشدى سعيد كثيرا ما وصف ب«شيخ الجيولوجيين» ومن ثم جاء وصفى له شيخنا ومولانا، وهكذا اعتدت أن أناديه وأن أصبّح عليه بالتليفون «أخبارك ايه يا شيخنا يا مولانا»، خصوصا أننى اخترت وقررت ورضيت أن أكون أحد مريديه وحوارييه وتلامذته على مدى العقدين الماضيين. هذا الرجل العلامة الجميل والمدهش أمتعنا فى ال80 من عمره بكتابة ونشر مذكراته فى كتاب بعنوان «رحلة عمر». وهو كتاب رحلات لعمر وزمن جميل عاشه هذا المصرى. لذلك عشنا معه عبر صفحات الكتاب أهم الأحداث والتغيرات التى عاشتها مصر فى القرن العشرين. وكم كانت أياما جميلة لا تنسى وقت كتابته لرحلة عمره عندما كان رشدى سعيد «بيصبح» على صديقنا فوزى هيكل -الله يرحمه!- وعلىّ أنا يوميا بصفحات من مذكراته مكتوبة طبعا بخط يده المنمنم. وكان يرسلها عبر الفاكس ولا يمضى أكثر من نصف ساعة حتى يتصل بى تليفونيا ليقول: «هيه قريت؟ وإيه رأيك؟ وعلى فكرة إذا كنت مش عايز تقرا قوللى علشان ابعتها لحد تانى». وكم سعدنا فوزى وأنا، ونحن نشهد يوما بعد يوم د.رشدى وهو فى الثمانين من عمره «منطلق وطاير» وقاعد يعصر حياته وذاكرته وعايز يتأكد من تفاصيل بعض الأشياء، وكجيولوجى ومفكر «عمال يحفر» فى طبقات مصر التاريخية والاجتماعية ليقدم لنا رحلة عمره وعمرنا. وللعلم حواديت رشدى سعيد كثيرة وفى الغالب حلوة «مش ملتوتة» ومحتاجة قعدات أخرى للحكى والاحتفاء بهذا الإنسان ورحلة عمره. والله هتوحشنا.. يا مولانا. أقولها مرة أخرى وأنا أتذكر ابتسامته و«شقاوته» فى عينيه. نعم هتوحشنا لأنك وأنت معانا.. الحياة كان لها معنى تالت أو رابع ومناقشاتنا عن مصر كانت لها أبعاد كثيرة وكلامنا عن النيل والتعليم والبحث العلمى والتنمية والمستقبل كانت.. وبأقولك إيه يا مولانا أكيد إنت متابع كلامنا الفاضى والمليان ولو ماعجبكش حاجة أو حاجات فى كلامنا يا ريت تتدخل.. إنت مش غريب علينا وأفضالك كتير علينا!