بعد عام من وفاته من الطبيعى أن يشعر بغيابه كل من كان يعرفه، وكل من يدرك قيمته ويثمن قامته وأيضا كل من أطلع على ما أضافه رشدى سعيد لمعرفتنا بمصر وأهلها ونيلها وحضارتها وهويتها. رشدى سعيد الجيولوجى والمفكر والعالم المهموم بحاضر مصر ومستقبلها و«عاشق النيل» ربما يكون «غنيا عن التعريف» (كما اعتادالبعض القول) الا أن أفكاره وأراءه وتساؤلاته ومواقفه مازالت فى حاجة ملحة الى اعادة قراءة واستكشاف وفهم.. خاصة فى الوقت الحالى ومصر تحاول «أن تستعيد عافيتها» و«تواصل دورها الحضارى». وهذا كان دائما همه الأعظم وقلقه الأكبر.. وبالمناسبة وأنا أكتب هذه السطور قلت فى بالى لو طلب منى أن أذكر فى البدء الدرس الأكبر الذى تعلمته من رشدى سعيد بما أننى اقتربت منه كثيرا وتعلمت على يديه الكثير.. سأقول بلا أدنى شك «ان تعيش رحلتك.. رحلة عمرك أو فلنقل رحلات عمرك عمقا .. وأنت تكتشف كالجيولوجى ما فى أعماق أرضك وهويتك وحضارتك وأيضا فى أعماقك. ثم أن تعيش رحلتك تدفقا مثل النيل وعطاء مثل النيل وأنت تتجدد وتروى ما حولك وتشارك فى استمرار الحياة». ومن ثم لم يكن بالأمر الغريب وأنا احتفى بحياته فى جنازته العام الماضى وكان قد توفى يوم 8 فبراير 2013 وهو فى ال92 من عمره أن أذكر للحضور وفاءا وعرفانا منى بأن رشدى سعيد هو ممن تعلمت منهم كيف أن أعيش الحياة بالطول والعرض .. وبالعمق أيضا. رشدى سعيد كان الحاضر والفاعل والمشارك والمساهم فكرا وعملا وتجربة فى الحياة المصرية منذ الستينيات من القرن الماضي، له ذكريات وبصمات لا تمحى من ذاكرة طلابه وزملائه وأصدقائه ومحبيه.انه «عاشق النيل» عن دراسة ومعرفة وعلم وأيضا الدارس الملم لجغرافية مصر وعالم الجيولوجيا والأستاذ الجامعى لسنوات طويلة (1951 1968) ومدير مؤسسة التعدين ورئيس هيئة المساحة الجيولوجية وعضو البرلمان والمفكر الحالم بتعمير الصحراء وأيضا بتطوير التعليم والبحث العلمي. كما أن كتبه عن «نهر النيل» و»جغرافية مصر» تعد مرجعية علمية وأكاديمية لكل من له اهتمام بالنيل ومصر فى جميع بقاع العالم . رشدى سعيد يعتبر من من أبناء رفاعة وهو بجانب كونه العالم الموسوعى هو المفكر المسحراتى (شايل طبلته ومعاه صيحته حتى فى شهور أخرى غير رمضان اصحى يا نايم) والذى نادى بضرورة الاهتمام بالنيل والتنمية السكانية وتعمير الصحراء والوحدة الوطنية واصلاح العملية التعليمية و .. وأيضا مشروع توشكى (ولا أحد يجب أن ينسى تحفظه بل معارضته العلنية والجريئة للمشروع على أسس علمية وخبرة عمر)، ولعل أهم قيمة عشتها معه وتعلمتها منه وسأظل أتذكرها دائما هى أن هناك أكثر من طريقة ووسيلة لحب مصر والتعبير عن هذا الحب، وانك لا يجب أن تتردد أو تتخوف وأنت تعبر عن حبك ولا يجب أن تقايض أو تساوم أو تبحث عن المقابل أو الثمن لهذا الحب، أو تلجأ للكذب أو النفاق.كما أن فى حبك لوطنك مصر ليس من حق أى فرد أو جماعة أن يزايد عليك بأنه يحبه أكثر منك ، كما أننى لا أنكر أننى كثيرا ما شاطرت حزنه بل غضبه عندما كان يصفه البعض عندما لا يعجبهم كلامه أو مواقفه بأنه .. «القبطي» وأحيانا كان يشارالى كلامه على أنه آت من «قبطى وعلماني» فبالتالى .. د. رشدى من مواليد 12 مايو 1920 بحى شبرا، من أسرة متوسطة تعود أصولها لمحافظة أسيوط والتحق بكلية علوم القاهرة سنة 1937 وتخرج فيها عام 1941 بمرتبة الشرف الأولى .هذا الرجل العلامة امتعنا فى ال80 من عمره بمذكراته «رحلة عمر»، ومن أسعد لحظات حياتى معايشتى له وقت كتابته لرحلة عمره وكان «بيصبح» على صديقنا فوزى هيكل وعلى شخصيا يوميا بصفحات منها ،. ، كجيولوجى ومفكر راح يحفر فى طبقات مصر التاريخية والاجتماعية ليقدم لنا رحلة عمره وهى رحلة ذاخرة وثرية وصاخبة بأحداث كبرى فى تاريخ مصر.. عاش وعايش فى السنوات الأخيرة كل ما كان يحدث. كما كان متابعا للثورة المصرية وما صاحبها من قلق ومخاوف وتقلبات وتغييرات فى المشهد المصري. والعالم المفكر الجليل الذى تركنا الى مثواه الاخير وهو فى ال92 من عمره كان مقيما فى الولاياتالمتحدة منذ بداية الثمانينات. وقد اعتاد لسنوات طويلة أن يكون فى مصر كل شتاء وتحديدا فى شهر ديسمبر من كل عام وكان يمكث فيها حتى نهاية مارس، وكانت رحلة مصر والقاهرة بلياليها وقعداتها مع حبايبه احتفالية حرص رشدى سعيد كل سنة على تكرارها الا أن ظروفا صحية مر بها عام 2010 منعته من استمرار زيارته السنوية، ووقتها تحدث معى فى هذا الأمر وقال:» ياريت تقوللهم وأنت فى القاهرة وطبعا عارفهم كلهم انه كان نفسى أكون معاهم كلهم.»، رشدى سعيد وهو فى التسعين من عمره أصبح معتمدا على عملية غسل الكلى وبالتالى كان يجرى له هذا الغسيل 3 مرات أسبوعيا واستمر هذا الروتين الأسبوعى الى النهاية. وجدت نفسى أمام مصرى عظيم ولد وعاش وحلم وأنجز فى زمن جميل (يصفه البعض منا أحيانا بأنه زمن لن يتكرر أبدا ) والتقيت به بعيدا عن أرض الوطن .. فى أمريكا ، كان لابد أن أمضى معه ساعات وأيام بل سنوات أعتقد بل أؤمن بأنها كانت وظلت فرصة عمر لا تعوض ولا تتكرر، فرصة كما أقول أن تختار فيها وأنت فى الثلاثينيات من عمرك أساتذتك ودروسك وطبيعة تعلمك (أى لا يفرضون عليك «الاجابات النموذجية» كما كان الوضع وأنت تتعلم فى المدرسة أو الجامعة) وطبعا تستفيد منهم «على قد ما تقدر.. أو عايز»،رشدى سعيد هو الثقافة بمعناها الواسع ،وهو البسيط والسلس فى شرح أفكاره باللغة العربية السليمة دون أن يسحبك الى التوهان الأكاديمى وفذلكة اللجوء لمصطلحات أجنبية وانجليزية للتظاهر باتقانه لغة العصر، كان يؤمن دائما أن الاصلاح يتحقق اذا آمن الناس به أولا ،والأهم اذا تناقشوا وتجادلوا حوله بلغتهم الأصلية ووجدوا فى ثقافتهم بذور وجذور هذا الاصلاح والرغبة فى التغيير. ويجب أن أذكر هنا كيف أن مطعم «زوربا « بديوبون سيركل فى واشنطن العاصمة الأمريكية كانت شاهدة فى التسعينيات من القرن الماضى لقعدات مصرية ودردشة وفضفضة وهات ياكلام «عاللى فات وكان جميل وعاللى كنا عايشينه فى تلك الأيام» وبالطبع كان كبير القعدة هو رشدى سعيد وكانت الخلفية السمعية لقعدتنا ودردشتنا المصرية فى «زوربا» الموسيقى والأغانى اليونانية. وما من أحد من أصدقاء ومعارف رشدى سعيد أو أصدقاءنا جاء لواشنطن الا وسأل عن «زوربا» وجاءنا إليه ، فى العام الماضى وبعد يوم واحد من جنازة رشدى سعيد ذهبنا معا زوجة رشدى سعيد د وداد وابنه كريم وابنته سوسن وأيضا كلير زوجة د فوزى هيكل ومجموعة من أصدقائنا الى «زوربا» مزارنا المعتاد لنتذكر رشدى سعيد وأيضا فوزى هيكل ونحتفى بهما وبما تركاه فى حياتنا. ولم أتردد للحظة وأنا أتحدث مع ابنته سوسن عن أبيها وأبى ومعلمى رشدى سعيد أن أسألها من ضمن أسئلتى الكثيرة عن «لحظات موته» أو فلنقل ابتعاده عن دنيانا وعنا وذلك لكى أعرف كيف استقبل هذا المفكر الصلب كالصخر الموت أو أقبل عليه أو كيف استقبله الموت أو ربما اندفع إليه؟! ولم اندهش أبدا من ابنته الطبيبة وهى تتحدث عن د رشدى وصلابته وهو على أعتاب الموت.. كلما تحدثت عن رشدى سعيد أجد قلبى «بيتنطط» وعينى «بتدمع» خاصة أنه كان من علمنى دون أن ينتظر منى أن أصير له عبدا، ودائما أشتاق الى الحديث عنه، والى استحضار لحظات تأمل وأحيانا تألم عشناها معا وهمنا الأكبر مصر.