كان آخر لقاء لنا منذ بضعة أسابيع فى آخر ديسمبر الماضى. كنت فى زيارة قصيرة عائلية لواشنطن وبالطبع كان من الأولويات زيارة الدكتور رشدى والدكتورة وداد زوجته. استعرت سيارة ابنتى جيجى فى اليوم المناسب حيث إن د.رشدى كان يذهب إلى المستشفى ثلاثة أو أربعة مرات لغسيل كليتيه فكانت الفرصة المتاحة للزيارة محدودة. لم اكن أعلم انه اللقاء الأخير ولكن كان هذا الاحتمال فى ذهنى فلقد تدهورت صحته كثيرا فى المرحلة الأخيرة، ورغم ذلك كان ذهنه يقظا وذاكرته جيدة. تحدثنا عن موضوعنا الأول وهو مصر، وصعود الإخوان للسلطة بموافقة وبشروط أمريكية وتداعيات ذلك على مستقبل مصر. ورغم تخوفاتنا المبررة، ضحكنا كثيرا وذكرت له آخر النكات المصرية ومنها كيف أن التقديرات الجامعية تغيرت من جيد وجيد جدا وممتاز إلى شاطر وشاطر جدا وبديع. لم تكن هذه المرة الأولى التى توعكت فيها صحة د.رشدى بشكل خطير، فمنذ بضعة سنوات كان فى غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات فيرجينيا وكان ضغطه ونبضه ضعيف جدا وكانت الممرضة تنفذ تعليمات الطبيب بمهارة فائقة وتغير من المحاليل ومقاديرها حتى تنقذ المريض الفاقد لوعيه والذى فقد طبيب شاب الأمل فى استمراره فى الحياة ولكن طبيب أكبر سنا وخبرة رجح لى أنه سيعيش لأن لديه رغبة قوية فى الحياة حسب تعبيره. كنت ممسكا بيد د.رشدى وأتكلم معه بالعربية، مجرد دردشة مصرية فلاحظ الطبيب أن الأجهزة تشير إلى تحسن ضغطه ونبضه بدرجة ما فعجب الطبيب ولكنه رجح السبب إلى شعور د. رشدى بأمان أكبر مما يؤكد حقيقة ودور العامل النفسى بالنسبة للمريض.
•••
كان صديقى منذ عقود هو فوزى هيكل ذلك الانسان الذى توفرت وتألقت فيه صفات نادرة وهى نبل الأخلاق وحب الناس سألنى مرة فى أواخر السبعينيات: هل تعرف د.رشدى سعيد قلت لا حيث أننى غبت عن مصر فترات طويلة. قال فوزى لكنه يعرفك ويريد أن يراك فرحبت بذلك. ذهبنا إلى بيته الفسيح بفيرجينيا والذى كانت تحيط به الأشجار والزهور التى كان يعتنى بها. قابلنا بابتسامته العريضة وترحيبه الحار الذى يشرح النفس وقال لأول وهلة إنت شاغبتنى فى لقاء بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية فى أواسط الستينيات وكعادته كان يغالى متعمدا وبظرف فى مدى هذه المشاغبة. كل ما كان فى الأمر أنه كان يعطى محاضرة حول البحث العلمى وكان النظام فى ذلك الوقت يؤكد على البحث التطبيقى دون الأساسى وكنت أعارض ذلك الفصل تماما. عبرت عن رأيى بصراحة مما سبب ضيقا لعميد الكلية ولكن د.رشدى حاول بلباقته شرح منطق السلطة، ولكننى لم أقتنع.
نمت علاقة وطيدة لسنوات طويلة كان يشارك فيها أساتذة عظام من جيل رشدى مثل د.حسن الخادم أستاذ الكيمياء العضوية واحيانا د.عبدالعظيم انيس عندما كان يزور واشنطن. وكانت شخصية د.وداد زوجة ورفيقة د.رشدى تضيف بعدا إضافيا للقاءاتنا فهى أستاذة فلسفة وتتمتع بثقافة واسعة، متعها الله بالصحة والعافية. كانت لنا لقاءات عديدة نتناقش ونأكل الفول والبصل والبصارة، لا شك أن صحبة د.رشدى أمتعتنا كثيرا وتعلمنا من معرفته وخبرته كرئيس مجلس إدارة مؤسسة التعدين والبحوث الجيولوجية الكثير أيضاً.
كان يكتب أفكاره ويرسلها إلى وإلى فوزى هيكل حتى نبدى رأينا وتحدث مناقشات عبر التليفون حتى يحدث توافق فى الغالب. كان يطلب النقد ولا يحبه ولكن يصر عليه وهذه من صفات المثقف الذى رغم عدم راحته للنقد لكنه يعرف أهميته وضرورته.
•••
كان رشدى نشيطا فى لقائه مع المصريين وزيارة المتاحف والمرصد الفلكى وحفلات ولقاءات عربية متعددة ومظاهرات أمام البيت الأبيض دعما لفلسطين واحتجاجا على حصار وغزو العراق. كان لقاؤنا الأسبوعى بقهوة زوربا بدوبونت سيركل، نتبادل الأخبار والأفكار والضحك وكنا نلتقى بأصناف متعددة من المصريين منهم من جاء لتلقى الدعم المادى من الكونجرس باسم دعم الديمقراطية ومنهم ما كنا نرى بوضوح أنه يعد لمنصب سياسى وجارى تشكيل آرائه السياسية.
لكن عشق د.رشدى الكبير كان للنيل العظيم، ومن أروع محاضراته كانت على النيل وكيف أن مصر حسب تعبيره صدفة جيولوجية. النيل الذى نراه الآن ليس هو النيل الذى كان منذ ملايين السنين. كانت مصر آنذاك تحت البحر قبل أن تنحسر مياه البحر ولهذا كما يقول د.رشدى وجدنا طبقات من الملح فى أعماق معينة يزداد سمكها كلما اتجهنا شمالا، اكتشفنا ذلك عندما بدأنا التنقيب على البترول فى الوادى. كان هناك أخدود عميق بوادى النيل منذ ستة ملايين عاما. الأمطار الغزيرة عند جبال البحر الأحمر التى كانت أعلى من الآن تجمعت فى الأخدود وعمقت مجراه ولكنه كان غير متصل بنيل أفريقيا الاستوائية الذى ينبع من البحيرات فى الجنوب كما كان نهرا هادرا لا يمكن التعامل معه. وبتطور المناخ وزيادة معدل الأمطار تم الاتصال بنيل أفريقيا الاستوائية والنيل المصرى وذلك منذ أقل من مليون عاما ولهذا فمجرى نهر النيل فى أسوان حديث نسبيا. هذا نموذجا لمحاضرات د. رشدى عن النيل الذى درسه وأحبه. استطاع المصريون ما قبل الفراعنة أن يسكنوا على ضفاف النيل الهادئ نسبيا وأن يتنقلوا بين جزره فى أوقات الفيضان عبر المراكب الشراعية التى اخترعوها.
•••
كان يعارض مشروع توشكا لكونه غير اقتصادى وكان شديد الإيمان بالتصنيع المعتمد على العلم والتكنولوجيا الحديثة. صاحبته فى رحلة أنا وجيجى وزوجته إلى سيوة ورأيت كيف تحول د.رشدى إلى شاب يتنقل بخفة ورشاقة كم كنت سعيدا أثناء الرحلة بصحبة عالم جيولوجى حقيقى. وفى زيارة لمعبد آمون ذكرتهم بكيف وجد مكتشفى المعبد بلورات كلوريد الأمونيوم على جدرانه، حيث كان الكهنة المصريون يحضرون غازا أسموه غاز آمون (أمونيا) المنعش والذى كان يستخدم فى الطقوس الدينية، وذلك عن طريق تخمير ريش الطيور. وفى رحلة أخرى إلى وادى الحيتان شاهدنا كيف تطورت الحيتان من ثدييات برية إلى بحرية وكيف تطورت أرجلها إلى ما يشبه الزعانف. كانت زياراته لمصر تجمع كافة الأصدقاء بمقهى ريش حيث يمضى ساعات من أسعد أوقاته مع أصدقائه الكثيرين.
•••
بالطبع كانت آراؤه ومواقفه سببا فى إضافة اسمه إلى قائمة قرارات السادات فى سبتمبر 81 والتى نالته ونالتنى أيضاً.
عاش حياة مليئة بالنشاط وتفاعل مع الاحداث السياسية والعلمية والثقافية وترك ذكريات جميلة ومفيدة نتمتع بها فى غيابه.