رحل عن عالمنا منذ أيام الأستاذ الدكتور رشدي سعيد, أحد أعظم العلماء الجيولوجيين في تاريخ مصر الحديث والمعاصر, والذي نال شهرة عالمية وصيتا لا يباري في هذا المجال, وأحد القلائل والمعدودين المتخصصين في جيولوجيا نهر النيل علي وجه الخصوص, وذلك بعد مشوار حياة طويل فاق التسعين عاما. حيث كانت به العديد من المحطات التي شهدت الكثير من دلالات عطائه للوطن وإيمانه بمصر وقدراتها وإمكاناتها وبعبقرية شعبها, وشهدت في الوقت ذاته تمسكا بما كان الراحل الكريم يؤمن بأنه المبدأ الحق وبأن فيه صالح الوطن من قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحديث التعليمي والعلمي, وهو تمسك كثيرا ما دفع الدكتور رشدي سعيد ثمنا باهظا له. كانت المرة الأولي التي سمعت فيها باسم الدكتور رشدي سعيد متأخرة بعض الشيء, حيث حدث ذلك عام1981, وتحديدا في شهر سبتمبر من ذلك العام, وكنت طالبا في الجامعة حينذاك, وكانت المناسبة هي شمول اسم الدكتور رشدي سعيد ضمن قائمة المطلوب اعتقالهم في الحملة الشهيرة التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات في ذلك الوقت بحق معارضيه من مختلف الاتجاهات, والتي شملت الآلاف من الشخصيات ذات المكانة في مختلف مناحي العمل الوطني والعام في مصر, وذلك قبل شهر ويوم واحد من تعرضه للاغتيال, وسمعنا حينذاك بنجاح الدكتور رشدي سعيد وزوجته أستاذة الفلسفة بنفس جامعتي الدكتورة وداد سعيد في الإفلات من تنفيذ قرار الاعتقال بحقه, حيث توجها للإقامة والاستقرار بالولايات المتحدةالأمريكية حيث كانت ابنتهما تقيم هناك. وبعد ذلك التاريخ, بدأت في قراءة الكثير, سواء من كتابات للدكتور رشدي سعيد أو كتابات عنه, مما أتاح لي الفرصة للتعرف علي دوره في عدد من المراحل المهمة التي مرت بها مصر في نهضتها المعاصرة, سواء خلفيات ودراسات ومسيرة المشروع الوطني العملاق الخاص ببناء السد العالي, أو التعرف علي دوره وإسهامه في الثورة الصناعية الثالثة التي شهدتها مصر في تاريخها الحديث, بعد الثورة الأولي التي شهدتها في عهد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر علي يد الدولة المصرية, وبعد الثورة الثانية التي شهدتها عقب ثورة1919 التي شكلت حلقة مهمة من الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية وذلك علي يد طلعت باشا حرب وغيره من رجال الصناعة المصريين الوطنيين, وأعني بالثورة الثالثة ما حدث عقب ثورة23 يوليو1952, خاصة خلال عقد الستينيات من القرن العشرين, وهذه المرة أيضا مثلما حدث في عهد محمد علي باشا كان للدولة الدور الرئيسي في إطلاق ورعاية هذه الثورة الصناعية. ومرت سنوات عديدة بعد ذلك التاريخ قبل أن ألتقي شخصيا للمرة الأولي بالدكتور رشدي سعيد رحمه الله, وذلك عندما حتمت ظروف عملي توجهي للولايات المتحدةالأمريكية والإقامة هناك لعدة سنوات في مستهل الألفية الثالثة, حيث كان عملي في العاصمة واشنطن وكان الدكتور رشدي سعيد يقيم في ولاية فرجينيا القريبة, مما أتاح لي الفرصة لعشرات اللقاءات والنقاشات الثرية والمثرية في آن واحد معه ومع قرينته الدكتورة وداد حول مختلف الموضوعات الخاصة بمصر وهمومها وتطلعات شعبها وبما يحدث من تطورات في العالم من حولنا وتأثيرها علي مصر وكيفية الاستفادة منها بما يحقق مصالح الوطن, ولكن الأهم كان حضوري العديد من الندوات والمؤتمرات التي تحدث فيها الدكتور رشدي محاضرا حول موضوعات مثل نقل التكنولوجيا والمعرفة التقنية والليبرالية الجديدة ومخاطرها علي العالم وكانت مصر ومصالحها دائما حاضرة في ذهنه وفي كتاباته ومحاضراته. وكان من أروع ما تركه الراحل الكريم مذكراته التي أصدرها باللغتين العربية والإنجليزية عندما أتم الدكتور رشدي سعيد الخامسة والثمانين من العمر منذ عدة سنوات, وهي مذكرات أقيمت بمناسبة صدورها العديد من الاحتفاليات والفعاليات في كل من مصر والولايات المتحدة, كان لي شرف حضور بعضها, وذلك علي سبيل الاحتفاء بصاحبها وتاريخه الحافل الطويل وسيرته المليئة بالمعطيات والدروس والعبر للاستفادة والتعلم. وهكذا رحل الدكتور رشدي سعيد عن عالمنا بعد أن ترك خلفه تراثا كبيرا من الدراسات والكتابات والمحاضرات الباقية معنا, وقبل ذلك وبعده ترك منظومة من قيم الانتماء للوطن والولاء له والعطاء من اجله بلا حدود وبدون البحث عن مقابل. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر