فقدت مصر واحدا من أبنائها الكبار. الكبار حقا وفعلا وليس وصفا وتعظيما فقط فقد الشعب المصري كله واحدا من أبنائه البررة الكبار في علمه وثقافته ووطنيته فقد رحل العالم الجليل والوطني الكبير رشدي سعيد الذي يعد وبحق واحدا من أكبر علماء مصر والعرب في العصر الحديث فهو كبير الجيولوجيين المصريين وهو عميد الجيولوجيين العرب ومن أسف انه عاشق مصر وأستاذ أساتذة أرضها وترابها وتربتها وتكوينها قد فارق الحياة ودفن خارج الأرض التي أحبها وعشقها وهام بها وغاص في أعماقها فازداد حبا لها حباً لأرضها سهلا وصحاري وهادا ومرتفعات كان عابدا يصلي في محرابها وهو يتحدث عن هذا كله في رحلاته واستكشافاته وعن النيل ومياهه وفيضانه وعذوبته وحاضره ومستقبله والأخطار التي تتربص به. عرفته منذ عام 1994 ولم تنقطع صلتي به حتي آخر زياراته للقاهرة حيث اعتاد أن يقضي فيها شهري فبراير ومارس تقريبا من كل عام منذ اضطر إلي الرحيل عن معشوقته الكبري مصر حين فوجيء في سبتمبر 1981. بينما كان في زيارة لأبنائه الدارسين في الولاياتالمتحدة بأن اسمه كان من بين القائمة التي ضمت ألفا وخمسمائة من كبار رجال الوطن من مختلف الاتجاهات تم التحفظ عليهم أي اعتقالهم ويروي في مذكرته بعنوان "رحلة عمر: ثروات مصر بين عبدالناصر والسادات" والتي صدرت في سنة 2000 يروي ما حدث بعد علمه بهذا النبأ تليفونيا من شقيقته: "وقع الخبر علي وقع الصاعقة فقد كنت أعد نفسي للعودة إلي مصر واستئناف أعمالي فيها بعد اسبوعين اثنين ولم يكن لدي حتي ما يمكن أن يقيم أودي فقد قمت باستثمار القليل مما كان لدي من مدخرات بالولاياتالمتحدة في شراء منزل صغير خارج العاصمة واشنطن لكي تقيم به ابنتي سوسن وزوجها كما لم يكن لدي أي عمل فقد طلبت قبل شهور من جامعة تكساس التي كنت أحاضر فيها بصفة منتظمة أن تؤجل إلي وقت لاحق ميعاد عودتي اليها هذا بالإضافة إلي أني لم أعد نفسي للابتعاد عن القاهرة فلم أترك مفتاح منزلي بها مع أحد.. وأدي هذا إلي تغيير شامل في حياته وحياة السيدة زوجته التي كانت تعمل استاذة بالجامعة الأمريكية وبقية هذا الفصل من حياة علامتنا الراحل بقية حزينة باكية إذ لم تمتد له يد المساعدة من واحد ممن كان صاحب الفضل في ابتعاثهم أو توظيفهم أو تعليمهم وحتي مكتبته التي عرضها للبيع وهو في الغربة لم تتقدم أي جهة مصرية تعرف قيمتها وما تحويه من كتب ومجلدات لشرائها ولم يتقدم إلا الأجانب الذين اختار منهم مجموعة الباحثين الألمان الذين عرفوا كتاباته وتأثروا بها وقبلوا أن يحفظوها في مكان واحد يحمل اسم عالمنا الكبير في قسم الدراسات الافريقية بجامعة برلين التقنية. توشكي كارثة وطنية ندع جانبا مذكرات علامتنا الجليل متمنين أن تقوم وزارة الثقافة أو فرع من فروعها بإعادة طباعتها وطباعة جميع أعماله ونقف اليوم أساسا علي ما كان العبد لله من صلة مباشرة مع هذا المصري الجليل والعالم الكبير الذي كان فعلا وواقعا مصريا من طراز خاص في وطنيته وفي علمه وفي تواضعه وفي أريحتيه وسعة صدرة وقدرته علي الاصغاء لمن يختلف معه في وجهات نظره الاقتصادية والسياسية وكان يطبق بحق مقولة الامام الشافعي: كلامي صحيح يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب وقد تجلي هذا بالنسبة لي في موقفين محددين خاصين بقضيتين لعبتا ولا تزالان دورا في حياتنا الاقتصادية وأعني بذلك مشروع أبوطرطور للفوسفات الذي كان رشدي سعيد أول من اكتشفه ثم أول من تنبه إلي ان جدواه ليست كبيرة واعترف بذلك في مقالات كتبها كان من بينها مقال رفضت صحيفة قومية كبري نشره فلما حمله لي الأستاذ مصباح قطب بادرت إلي نشره في أول عدد صدر بعد هذا من "الأهالي" لسان حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي وفتح المقال الباب لردود وكتابات أخري. كان فارس الحوار والنقاش فيها الاستاذ الدكتور محمد رضا محرم استاذ التعدين عندئذ في جامعة الأزهر والذي اختفي من الحياة العامة منذ سنوات طالت أكثر مما يجب ومن يريد معرفة حقيقة أبوطرطور وما حدث فيه من فساد وافساد يجب أن يعود إلي هذه الكتابات. أما قضية توشكي فقد كان لها علي يدي الدكتور رشدي سعيد وعلي صفحات "الأهالي" شأن آخر إذ كانت منذ بدايتها مثيرة لخلاف عميق. هناك من أيد المشروع ودافع عنه بحرارة وهناك من عارضه وبقوة وقد انتقل هذا الخلاف إلي داخل حزب التجمع إذ كان أحد قادته وهو الأستاذ الدكتور ماهر عسل رحمه الله عضوا في لجنة علمية حكومية مالت إلي تأييد مشروع توشكي بينما أخذت "الأهالي" برأي الدكتور رشدي سعيد وفتحت صفحاتها لمقالاته العميقة الرزينة والبعيدة عن أي تجريح أو استخفاف بوجهة النظر الأخري وتصادف مثلا انه في اليوم الذي ذهب فيه الرئيس السابق حسني مبارك وسط زفة كبيرة لوضع حجر الأساس لمشروع توشكي ان كان يوم صدور "الأهالي" أي يوم الأربعاء وفي قمة صفحتها الأولي موضوع خبري علي خمسة أعمدة وباللون الأحمر وكلماته هي "رشدي سعيد: مشروع توشكي كارثة وطنية" هذا إذا لم تخني الذاكرة وشهدت ذلك اليوم حيث امتلأ المكان بصحفيين وفنانين وعلماء وسياسيين كانوا يعدون بالمئات تقريبا. وفي اليوم التالي حضر الدكتور رشدي سعيد إلي "الأهالي" ليطمئن بنفسه علي العبد لله وليعرف هل أصابه مكروه من جراء العنوان "الناشف شوية" علي حد تعبيره.. وهدأت نفسه حين وجدني بخير ولم يصبني أي أذي أي ان عالمنا الجليل لم يخش أن يلحقه هو أذي. بل كانت خشيته من أن يكون سببا في ايذائي.. وهكذا كان كبيرا دائما في أقواله وأفعاله. كتابات من واشنطن كانت مقالات رشدي سعيد في "الأهالي" اضافة علمية وفكرية وحرصا مني علي تزويد قارئ الصحيفة بكتابات عالمنا الجليل تم الاتفاق معه علي أن يكتب عمودا اسبوعيا أي في كل عدد وكان كالعهد به وفيا بما وعد كان يكتب بلا مقابل بل ويتحمل تكلفة الفاكس من واشنطن وفي أحيان كثيرة كان استقبال فاكس "الأهالي" غير واضح فكان رشدي سعيد بنفسه يعيد رسائل العمود مرتين وأحيانا ثلاث مرات وقد أشار إلي عناوين هذه الأعمدة وتواريخها في ملحق مذكراته "رحلة عمر" ونافست "الأهالي" كلا من الأهرام والمصور والهلال ورزاليوسف في نشر كتابات العالم الجليل.. وحين غادرت الأهالي وعدت إلي "الجمهورية" في 1998 وحينما توليت صفحة الرأي سعيت إلي استكتاب عالمنا الجليل ولكني لم أوفق في هذا وان كنت وفقت في الحصول علي بعض مقالات عالم مصري كبير آخر هو الاستاذ الدكتور حامد عمار عميد التربويين العرب أطال الله عمره. شهادة "قومية" من واشنطن كنت أريد أن أقف ولو في سطور عند كتابات الدكتور رشدي سعيد المنشورة خاصة كتابيه "الحقيقة والوهم في الواقع المصري" و"نهر النيل" والأخير لا مثيل له في لغتنا العربية ولكن شهادة أخري تلقيتها من صديق لم ألتقه شخصيا إلي الآن هو المفكر القومي العربي الدكتور كمال خلف الطويل المقيم في أمريكا وهو من أصدقاء فقيدنا الكبير تلقيت الرسالة عبر الانترنت وفيما يلي نصها الذي يكشف جوانب أخري من وطنية فقيد مصر الكبير: عرفني عليه صديق الكهولة الأقرب خالد الذكر الدكتور فوزي هيكل الشقيق الأصغر للأستاذ محمد حسنين هيكل منذ خمسة عشر عاما خلت وسرعان ما تحول الحوار المتصل بين الراحل فوزي وبيني إلي حوار ثلاثي ينعقد مجلسه في منزلي بواشنطن كلما أتيتها مرتين أو أكثر كل شهر.. وكان كثيرا ما يحضر الصحفي الصديق توماس جرجسيان وان تواجد الأخ أشرف البيومي هنا اكتمل العقد. والحال ان تلك فترة "1998 2002" كانت من أخصب فترات العمر معرفة وزادا: رشدي سعيد الليبرالي التقدمي القبطي المصري العروبي كان شعلة من ألق وهو يحاور ويجادل ويتفق ويختلف ويصارح ويفضي وينصت ويصمت.. كان في كل الأطوار حاضرا بذهن متقد.. ذاكرة ندية ومحبة وارفة متواضعا برقة وشامخا بخفر. أواخر 2001 ضرب كلينا إعصار مرض ثم رحيل فوزي مارس 2002 فانكسر في كل منا شيء لم تصلح حاله الأيام ولن يسعد بإلمامي بالشأن المصري فتنفتح شهيته علي الافصاح والبوح وكم استزدت منه وكم كان لحواراتنا الثلاثية منها أم الثنائية فضل تظهير زوايا ظليلة من تاريخ مصر الحديث. لم يتناقض نقده الشديد لجوانب من التجربة الناصرية مع استمساكه بأبجديات الناصرية الجيوستراتيجية وفي الصدارة منها عروبة مصر ضرورة وقدرا عارض أنور السادات قبل وبعد كامب ديفيد.. ولقيمته في الحقل العام عينه عبدالناصر عضوا في برلماني 64 و.69 من ضمن حصة الرئيس بمقاعد عشرة كانت في الغالب للأقباط تصحيحا للتوازن.. كما استنسبه أمينا لشئون الجامعات بالاتحاد الاشتراكي في نوفمبر 64 لكن الأمد لم يطل به فيها مع تولي علي صبري أمانة الاتحاد الاشتراكي في اكتوبر 65 في 1968 عينه عبدالناصر رئيسا لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية حيث جاد وأجاد في استشعار المكنون واستثمار المعلوم قمة في العطاء والبذل. رشدي سعيد مثال لليبرالية الوطنية والتي يحتاج المرء هذه الأيام لمصباح ديوجين حتي يعثر علي بقايا البقايا منها. كان شديد التفكير علي التبعية والنيوليبرالية والوهابية.. وقبل الكل الصهيونية كان أكثر ما يضايقه عندما يسمع بتخاريف بعض القبط الشائهين هنا "أي في أمريكا" وهم يشتمون العروبة والاسلام ويتباهون بتماهيهم الصهيوني دوما ردد قبط مصر عرب ثقافة وعيشا ومصيرا يا كمال دعك من هؤلاء والقلق من أفعالهم.. انهم كغثاء السيل. .. يحضرني دوما قوله في مفاجأة ميلادي الخمسين وأنا في الثمانين خسرت أخا في الخمسين.. كان نعم الأخ والصديق. يختتم الدكتور الطويل رثاءه بقوله: "رحم الله رشدي سعيد رحمة واسعة وألهم شريكة عمره المميزة الدكتورة وداد وأسرته الصبر والسلوان" أما العبد لله فكم هو حزين وبائس أن فقد في فترة قصيرة علمين كبيرين هما أنور عبدالملك ورشدي سعيد خسارتي الشخصية بغيابهما لا تعوض واسلمي يا مصر.