نعيش في هذه الحياة صراعا بين الحق والباطل.. الحق له أهله، والباطل له جنده.. الحق يبدو خافتا ضعيفا أحيانا بينما الباطل مرتفع مجلجل.. وهل هناك قيمة للحق، دون تبيان للباطل، أو قيمة لأهله، دون مصارعة أتباع الباطل؟ إن البشرية تنتظر من يأخذ بيدها إلى الحق، بعد أن اُختتمت رسالات السماء، وتوقف الوحي إلى الأنبياء.. ولم لا، والحق عصمة من الاضطراب والمرج، وسبيل إلى الأمن والاستقرار؟ قال تعالى: "بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ."(ق:5).. "الأمر المريج" هو المضطرب المختلط غير المستقر، وهو هنا يشمل كل أمر من أمور الكون، والنفس، والحياة. وقديما قالوا: "اعرف الحق تعرف أهله".. وأهله هم الذين واجهوا الدنيا بكلمة الحق من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والأنصار، والتابعين. فالحق أغلى ما يملك الإنسان، وأعز ما يحرص عليه، وأثمن ما يجود بنفسه، وماله في سبيل نصره، وتمكينه. إنها "كلمة الحق" التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والرسل، وهي الميزان العدل بين الناس.. تراها في مواساة فقير، ونُصرة مظلوم، ومحاسبة غني، ومكافحة فاسد، ومؤاخذة ظالم، وبالجملة: إعطاء كل ذي حق حقه. في قصة "أصحاب الأخدود" المثل في تحرير النفس بالحق، والاستمساك به، والموت عليه.. ففي خاتمتها يأمر الملك "الظالم" بحفر أخدود، وإضرام النار فيه، وإلقاء من لم يرجع عن دينه فيها، ففعلوا، "حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ.. اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".(رواه مسلم). فهل هناك أعظم من أن جاد كل من: الراهب، وجليس الملك، والغلام، وعامة المؤمنين، وهذه الأم، وصبيها، بحياتهم، وأنفسهم.. فلم يقبلوا أن يؤمنوا بغير الحق، ولم يتراجعوا عنه -أمام النار والأخدود- قيد أنملة؟ إن الإيمان بالحق يستلزم تبليغه، والتواصي به، مع التواصي بالصبر على توابعه، ونتائجه.. قال تعالى: "وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ."(3). في بحثه القيم "كلمة الحق في القرآن الكريم.. موردها ودلالتها"، يقول الشيخ محمد الراوي: -يرحمه الله-: "قد يغلب المغلوب ساعة يُغلب، وينتصر المقتول ساعة يُقتل، ويُرى نصره من بعده نصرا للحق الذي آمن به، والحقيقة التي آثرها، وقُتل من أجلها، وقد يبقى حديث أولئك من بعدُ انتصارا للحق في نفوس لم ترهم، وأجيال لم تشهد بلاءهم، وفتنتهم". وانظر إلى "سلمان الفارسي"، كيف تنقل من بلد إلى بلد، وبيع كما تُباع السلعة، طلبا للحق، ورغبة في الوصول إلى من بُعث به.. محمد صلى الله عليه وسلم، ليسمع منه، ويؤمن بالحق. ولله دَرُّ "خُبيب بن عدي الأنصاري"، الذي قال: "ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي.. وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع." فقد خرج به كفار مكة إلى التنعيم ليقتلوه، فقالوا له، وقد أوثقوه رباطا: ارجع عن الإسلام -دين الحق- ونخلي سبيلك.. فقال: والله.. ما أحب أني رجعت عن الإسلام، وأن لي ما في الأرض جميعا." فقالوا: فتحب أن محمدا في مكانك، وأنت جالس في بيتك؟ قال: والله.. ما أحب أن يُشاك محمد شوكة، وأني جالس في بيتي.. فجعلوا يقولون: يا خبيب ارجع.. قال: لا أرجع أبدا.. قالوا: أما لئن لم تفعل لنقتلنك.. قال: "إن قتلي في الله لقليل".. فقُتل صادقا يوحد الله، ويشهد برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم. أخيرا، ذهب الطغاة الظالمون، وبقيت كلمة الحق.. فهي شرف الإنسان.. ساد بها من كان مغمورا، وغدا بها صاحب رسالة.. ينصر المظلوم ولو كان من غير معتقده، وجنسه، ويأخذ على يد الظالم، ولو كان من أهله، وحاشيته، وبها يقوم بين الناس بالقسط، ولو على نفسه.. ابتغاء رضاء ربه. لذلك كان من دعاء عمر -رضي الله عنه-: "الله أرني الحق حقا، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا، ووفقني لاجتنابه."