"فليقولوا لنا أين دُفن موتانا كي نترحم عليهم!" بهذه الكلمات التى يملؤها الغضب والحزن تلقت ليليانا بوستوس قرار إستئناف مباحثات السلام التي تعقد بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" بهدف إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت خمسون عاما بين الطرفين أدت إلى سقوط حوالى 600 ألف قتيل وفقدان 15 ألفا آخرين ونزوح أربعة ملايين مواطن. ليليانا التى خطفت منظمة "فارك" الإرهابية أباها عندما ذهب لدفع فدية لتحرير شقيقه المخطوف، والتى تريد مثل باقي ضحايا النزاع في كولومبيا إسماع أصواتهم, لم تتردد فى النزول إلى الشارع للتظاهر مع ألاف خرجوا فى مظاهرات حاشدة احتجاجا على عفو محتمل عن متمردي حركة "فارك", متهمين الرئيس خوان مانويل سانتوس بتجاهل فظائع المتمردين من أجل دفع عملية السلام، مؤكدين أن السلام لا ينبغي أن يأتي على حساب الإفلات من العقاب. فارك، أو ما تعرف ب"القوات المسلحة الثورية الكولومبية"، تعد واحدة من أكبر وأقدم جيوش حرب العصابات في العالم، ويصنف هذا التنظيم، وفقا لتقارير عدة، بأنه من التنظيمات الثورية اليسارية الماركسية، وسياسته منذ تأسيسه قائمة على محاربة حزب المحافظين الحاكم في كولومبيا بوصفه جناحا عسكريا للحزب الشيوعي الكولومبي، وحركة مسلحة تعتمد حرب العصابات بإعتبارها استراتيجية لتحقيق أهدافها، ويعتبر أعضاؤها أنفسهم ممثلين لفقراء الريف الكولومبي ضد هيمنة الطبقات الغنية، كما يعلنون رفضهم لتأثير الولاياتالمتحدة على كولومبيا، ويقفون في وجه خصخصة اقتصاد بلادهم. حركة "فارك" إنطلقت في الأساس بسبب التوزيع غير العادل للأراضي الزراعية، وكشفت دراسة أخيرة أجرتها الأممالمتحدة أن 1% من الكولومبيين يمتلكون 52% من أراضي الدولة، وهي أصغر نسبة للمساواة في إمتلاك الأراضي في العالم، وبناء عليه كان أول قرار تصدره "فارك" عن طريق إعلامها أنه تجب إعادة توزيع الأراضي الزراعية على المزارعين الفقراء. وخلال معظم السنوات ال 40 الأولى من عمر الحركة، كانت "فارك" تواصل التطور عسكريا، حتى بلغ تعداد أفرادها نحو 18 ألف مقاتل مع نهاية تسعينات القرن الماضي, وكانت تمول عملياتها العسكرية من خلال اختطاف الأثرياء من الكولومبيين. ف "الابتزاز" هو الحرب الضريبية المفروضة على الأثرياء، و"خطف الضحايا" كان يتم لمن يرفضون دفع الضرائب، و"الفدية" تشمل الضرائب المتأخرة. لكن الكولومبيين ضاقوا ذرعا بأعمال الخطف والطريقة التى تنتهجها هذه المنظمة لفرض سياساتها, وصاروا يعتبرون هذه العمليات انتهاكا كبيرا لحقوق الإنسان، وهو ما دفع المنظمة إلى نبذ هذه الممارسة ليقل عدد عمليات الخطف بشكل كبير خلال الأونة الأخيرة, الأمر الذي اعتبر نزولا علي أحد شروط الحكومة للموافقة على مفاوضات السلام التى كانت قد بدأت عام 2012. السجل الإجرامي لهذه المنظمة لم يتوقف على عمليات الخطف فقط, بل إمتد لتجارة المخدرات أيضا, فقد أشارت عدة تقارير أنه منذ حلول عام 1980، تحولت القوات المسلحة الثورية لنشاط تهريب الكوكايين وخطف الساسة وأصحاب الأراضي وكبار رجال الأعمال، بهدف الحصول على المال الذى يمكنها من شراء الأسلحة، حيث ذهبت بعض الإحصائيات إلى أن التنظيم يحصد نحو 300 مليون دولار سنويا من تجارة الكوكايين, غير أن تصنيف الولاياتالمتحدة لها على أنها "أخطر مجموعة إرهابية دولية" في الشطر الغربي من العالم، وإدراجها على لائحة الإرهاب الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبرلمان أمريكا اللاتينية وكندا عام 2005، أدي إلى استمرار الحملات العسكرية المدعومة من واشنطن ضد مقاتلى"فارك"، حتى تراجعت أعداد المتمردين في صفوفهم لتصبح حوالى ثمانية ألاف مقاتل. ورغم الإعلان التاريخي الذي إتفق عليه الجانبان (الحكومة الكولومبية وفارك) فى السابع من يونيو الماضي والذي تضمن مجموعة مبادئ ستحكم إطار المرحلة القادمة من محادثات السلام، التي ستركز على حق الضحايا وإشراكهم فى المناقشات وإنشاء "لجنة تقصي حقائق", إلا أن بعض المحللين وعلى رأسهم مارسيلو بولاك الباحث في الشأن الكولومبي في منظمة العفو الدولية يري أن هذا الإعلان لا يضمن حق الضحايا في الإنصاف, فحقيقة أن الحكومة وفارك قد تعهدتا بوضع حقوق الضحايا في صلب محادثات السلام خطوة كبيرة إلى الأمام. ومع ذلك، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل وأي اتفاق يفشل في ضمان جلب من يشتبه في مسؤوليتهم الجنائية عن الانتهاكات أمام المحاكم سيكون ناقصا وهشا, كما أنه يتعين أن تضمن الحكومة ألا يفلت المسؤولون عن الجرائم بموجب القانون الدولي بسهولة من العقاب, فللضحايا الحق في رؤية العدالة تتحقق في المحاكم المدنية العادية. ومع أن هذا سيشكل تحدياً، ولكن ذلك هو السبيل الوحيد لضمان سلام دائم وفعال في كولومبيا, كما أن إعلان وقف إطلاق النار أحادى الجانب الذي تبنته فارك مؤخرا يبدو فى ظاهره بادرة جيدة للبدء فى مفاوضات جادة من أجل إحلال السلام, ولكن رد الحكومة الكولومبية على هذا البيان جاء واضحا وهو لا تهاون فى حماية المواطنيين, حيث أن فارك دعت إلى نشر مراقبين دوليين وحذرت من إختراق الهدنة فى حال تعرض قواتها لهجمات من قبل القوات الكولومبية. يبدو أن الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس أصبح فى موقف لا يحسد عليه, فهو من جهة يريد إحلال السلام الذي راهن عليه لينهي أقدم نزاع مسلح في أمريكا اللاتينية, ومن جهة أخري يحاول كسب رضاء المواطن الكولومبي الذي يرفض التهاون فى حقه ويوقع سلاما وهميا بدماء الأبرياء.