(3) جاء الليل.. كان قد استقر به المقام في مقهي صغير علي الكورنيش .. رأي أن هذا وقت مناسب ليخاطب زوجته.. كانت بالبيت.. لم تندهش وقالت كلمات قليلة: خللي بالك من نفسك!.. دائما هي نادرة الكلام والفضفضة علي عكس الزوجات اللاتي يشكو أزواجهن من الثرثرة التي قد تمتد حتي القمر!.. أعلنت فرمان الحرية. قادر علي فعل كل ما يتوق إليه.. ولكن.. ما الفائدة.. نفسه عازفة.. دخل دائرة عدم الرغبة في أي شيء.. لم يتحرك من هناك وفي نيته هدف معين.. ساعات طويلة ولم يستعد توازنه.. لا يمكن أن يكون سبب ذلك هو جري السنوات بعمره.. كان يخدع نفسه في بعض اللحظات انه يستطيع البداية من جديد.. أية بداية؟!.. آخر فتاة تلاطف معها قالت له في رقة بعد إذنك يا عمي!.. طبعا هناك الكبيرات مثله, ولكنه شبع من الكبيرات.. ولكنه أيضا لا يعتقد أن حالته هذه سببها الوحيد هو فقدان الحب.. الحنان.. كلمات المواساة والتشجيع.. الابتسامة من القلب عند اللقاء.. لقد تمرس علي الجفاء.. كل شيء محسوب بالثانية وبالدقيقة.. يحترم العواطف فهل تبقي مكتوبة عليه هو وحده؟!خطوات من هذا المقهي ويجد الكافيتريا التي كان يمضي فيها اسعد لياليه أيام الجامعة وقبل الزواج.. اندفع إلي المكان الجديد بحماس أن يأكل ويشرب وينتظر المفاجآت.. علي المائدة القريبة من المدخل استقبلته فتاتان ترتديان نفس الزي.. واحدة بيضاء وممتلئة الجسد والثانية نحيفة وسمراء.. ارتاح للطريقة التي تتعاملان بها معه.. تعاونتا علي إعادة ترتيب المائدة.. وتم كل شيء في وقت سريع.. ما يريد أن يأكله وخاصة الكاليماري وما يريد أن يشربه.. وقالت السمراء: هناك مفاجأة لك.. عادت بعد لحظات وهي تحمل الكوفية الفلسطينية الشهيرة وقدمتها له وهي تقول: هدية من المحل.. قالت البيضاء: هل اشتركت في مظاهرة التأييد صباح اليوم.. هز رأسه دون أن يقول شيئا.. قالت السمراء: لابد أن يعرفوا رأينا الحاسم.. نحن ضد مذابح الملعون شارون.. اندهش لكلماتها بالعربية الفصحي.. قالت البيضاء بالفصحي أيضا: قلوبنا مع كل أم وكل زوجة وكل ابنة.. صمتت قليلا ثم عادت تقول: إحنا بندرس في الجامعة وبنشتغل عشان نساعد لم تنتظر أي كلمة منه.. غابت بعد السمراء وتساءل: هل يمكن أن يحدث كل هذا الرفض الجامح حتي في مثل هذا المكان المخصص للترفيه؟.. ظهرت الفتاتان الواحدة بعد الأخري وأعدتا المائدة أمامه بكل ما طلبه. رأي السمراء وهي تضع الكوفية فوق ذراع الكرسي المقابل له.. ثم انسحبت لتتركه مع ما يشرب ويأكل.. كأنه يمارس الاجترار.. اقبل علي المطروح أمامه مثل العالم الذي يفحص العينات.. يلمح بين حين وآخر تحركات الفتاتين بين الموائد الأخري وحرصهما علي إهداء الكوفيات للآخرين.. أية عظمة؟.. هل يمكن أن يكون قد سلك درب الصواب بمجيئه إلي هنا؟.. لا يعرف.. هو ليس احد العلماء والذي أمامه ليس عينات.. كان يقبل عليها من قبل في نهم, وفي شوق.. فماذا حدث؟.. يتمني لو يظل هنا حتي الصباح.. ولكن الذي جاء بعد ساعتين ليطلب الحساب كان رجلا متقدما في السن.. سأله وهو يعطيه ما طلبه: أين الفتاتان؟.. رد علي الفور: ميعادهم انتهي من نصف ساعة.. ضاع حلمه في تلك الألفة الجديدة التي هو في اشد الحاجة إليها.. غيابهما طرد من رأسه أية أفكار خبيثة حتي ولو كانت من منطلق الحرية التي منحتها له زوجته.. كانت الأفكار الخبيثة قد توارت للحظات عندما قدمتا له الكوفية ولكنه لابد أن يعترف بمتابعته لتحركات جسد البيضاء الممتلئة.. هز رأسه بأن ذلك يدخل ضمن مشروعه الذي يهيمن علي حياته.. الفرجة.. لا يمكن أن يكون التجاوب بالتساؤل.. هو وسنوات عمره الجارية في كر وفر.. حرام أن يصبح نوعا جديدا من المتسولين.. لا يطلب الصدقة.. وإنما يتعشم في الصداقة.. وفرق كبير بين الصدقة والإحسان.. وبين الصداقة والأمان!انتعش وامتلأ بطنه.. لن يستطيع البقاء في هذا المكان أكثر من ذلك.. هل يذهب إلي المحل الآخر الذي يعرفه ويطل علي مشارف المنشية.. أم يأخذ طريقه إلي محطة سيدي جابر؟ لن يحدث في المحل الآخر ما يختلف عن الذي حدث هنا.. يعاوده التساؤل عن المغزي الغامض لتصرفاته.. الأحكام التي كان يصدرها في الماضي لا تصلح الآن.. هو نفس الإنسان.. ونفس الاسم.. ولكن الشيب والضعف هزما كل شيء.. يتذكر كلمات المدير الذي أحيل للمعاش قبله بخمس سنوات: العقل يريد.. ولكن الجسد لا يستطيع!.. زمان كانت الإمكانيات شحيحة ولكن الصحة كانت بمب.. والآن الأموال تجري بين يديه.. ولكن القدرة تسبقه إلي المغيب!غشي الحل رأسه مثل البرق.. يذهب إلي بيت عمته في كوم الدكة.. دائما هناك مفاجآت ولكنه نسيها في الأيام الأخيرة.. يتذكر كيف أنها كانت تسبب المتاعب لأبيه قبل رحيله.. طول عمرها تعشق الغناء.. ربما لان بيتها قريب من بيت الفنان الكبير سيد درويش.. وأحيانا عندما تكون ذات بال رائق.. تقول إن سيد درويش كان معجبا بها وهي في مطلع شبابها.. قوام ممشوق, وعيون زرق, وشعر ناعم طويل.عرف مكان البيت بسهولة.. تأكد بعد سماعه صوت الدفوف.. فور دخوله ضاع في زحام النساء والرجال أصحاب الشعور المسترسلة.. وكانوا جميعا علي أهبة الاستعداد.. لا لاستقباله.. وإنما لحفل الزار.. سأل عن عمته فقالوا له ببساطة: في الزير!.. ظن انه اخطأ السمع وأنها في الزار.. ولكنهم كرروا ما قالوه إنها في الزير.. وعرف أخيرا أنها تضعه علي جانبه, وتقبع داخله, ورأسها خارجه.. كان الزير في احد الأركان بعيدا عن الزحام.. ياه علي الزمن.. عمته الطويلة أصبحت مثل دجاجة رومي طالها البلل.. لولا عيونها الزرق- مثل أبيه- ما عرفها.. العينان تبدوان مثل شريط ضيق, أو مثل بصيص نور في نافذة قديمة يعلوها التراب.. واندهش أنها عرفته.. نادته باسمه.. ودعته للاقتراب منها.. وراحت تدمدم بكلمات ليس لها حروف.. قالت واحدة تجلس قريبا من الزير.. إن هذا الزار من اجل ابنة عمته التي ماتت.. أو في الحقيقة من اجل الحفيدة التي طلقت من ثلاثة أزواج في اقل من عشر سنوات.. ارتفع الدق.. وتيقن انه لن يستطيع الاستمرار في المكان.. عمة تلاشت.. وابنة ماتت.. وحفيدة تحترف الزواج.. تسلل في هدوء ليهبط التل أو الكوم إلي الشارع المفضي إلي محطة مصر.. هل آن أوان الرحيل؟.. هل أسدل الستار علي أحداث تلك الليلة وكل ما فيها من قهر, وغموض, وعذاب حقيقي؟ فعلا هي ليست نزوة ولا حتي هروب.. هي معايشة حقيقية لما يسمونه العدم.. أن تكون في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية, فلا أنت فوق.. ولا أنت تحت.. لو نصحه أحد بأن يواصل ما كان يواصله في حياته قبل هذه الليلة لأطبق علي رقبته ولم يتركه إلا جثة هامدة.. لن يذهب إلي محطة القطارات!سمع النداء باسمه وهو يخطو في اتجاه شارع النبي دانيال.. هذه هي ثاني مرة يسمع فيها النداء باسمه.. المرة الأولي كانت عمته التي أصبحت في خبر كان.. تري من يناديه الآن؟التفت في فضول كبير.. لم يتعرف عليه من أول وهلة.. ولكنه تذكر ملامحه.. شقيق صديق قديم رحل هو الآخر.. نطق اسمه وتبادلا العناق والقبلات غير الحقيقية.. توالت الكلمات عن الغياب, والذكريات, وان رب صدفة خير من ألف ميعاد. اعتقد أن اللقاء سينتهي عند هذا الحد.. وهذا ما يريده فعلا.. لا جدوي من تلك اللقاءات.. وهذا الشخص بالذات ثقيل الدم ويضحك علي النكتة التي يقولها قبل غيره. قال إنه ترك سيارته في مكان قريب وان عليه أن يصحبه كما كان يحدث زمان إلي شقة شقيقه, لان أرملته تعيش مع ابنتها.. وافق علي ضجر وسأل: وهل سيكون كل شيء كما كان في الماضي؟.. وأجابه: بالكمال والتمام رغم غياب بعض أعضاء الشلة لأسباب إلهية!.. ضحك ولكنه لم يضحك.. سأله: في الإبراهيمية أليس كذلك.. شرب ولعب البوكر؟.. قال وهو يقود سيارته عبر شارع أبوقير: بالكمال والتمام.. واللعب له سقف.. يعني زي ما انت عارف مش أكثر من عشرين جنيه في البداية.. أما النهاية فالله أعلم بها!.. وضحك ثانية فرأي أن يجامله بابتسامة.. لم يتكلم حتي وصلا إلي الشقة.. كان هناك شخصان تذكرهما بالعافية.. توسطت المائدة الزجاجة المعهودة من الصنف غير الراقي.. تكثر مكاسبهم ويصرون علي هذا النوع الرخيص.. وظهرت الكوتشينة الجديدة.. ووضع كل واحد أمامه خمسة جنيهات.. وبدأ التوزيع.. يعرف أن كلا منهم يريد أن يفترس الذي يلاعبه.. والضحية لن تكون غيره هذه الليلة.. في فترة من فترات الانسحاب المؤقت من اللعب.. تذكر صاحب الشقة.. كان صديقا نعم ولكنه كان طرازا فريدا من البشر.. يعبد المال والحساب.. ظل حتي مرضه ووفاته يحسب كل شيء بالمليم ويفخر بأنها فتاكة الحياة ثم لم يعرف كيف يتصرف بعد أن هربت الفتاكة.. وهربت معها الحياة. تواصل اللعب وهو شبه غائب عنهم.. ماذا سيحدث بقية هذه الليلة وهل سينتهي به المطاف للمبيت في هذه الشقة؟.. طغي عليه إحساس كراهية المكان وكل من حوله.. رغم ترحيبهم به.. ورغم ضحكاتهم الكاذبة وهم يحصدون ما يضعه أمامه أولا بأول.. لابد أن يفكر في طريقة ليستطيع الانفلات.. واسترداد نفسه الضائعة!! (4) قرر أن يتوقف عن اللعب ومغادرة المكان. قاوموه في البداية ولكنه أصبح واقفا أمام باب الشقة مستعدا للرحيل. قال من قابله صدفة في بداية الليلة انه سيصحبه إلي حيث يريد.. قال وهو ينزل معه الدرج: بالطبع أنت ذاهب إلي شقتك إياها.. هز رأسه دون أن يجيبه.. فات وقت طويل قبل أن يقول احدهما شيئا.. كان متأرجحا بين كل القرارات.. توهم أن مدينته الحبيبة لا تريده.. لا ترحب به.. هل لأنه جاء إليها دون ميعاد؟.. المدينة عاشقة وتعشق من يعشقها من اجلها وحدها.. لا ترحب بالذين يأتون إليها وكأنها مستشفي أو دار علاج.. تغفر للأغراب.. ولكن الأمر يختلف مع الذين احتضنتهم منذ ميلادهم.. وعرفت صباهم.. وهنأت بحيوية شبابهم.. معها حق.. قبل أن تدرك السيارة شارع السبع بنات لتأخذ طريقها إلي القباري والدخيلة والمكس ثم العجمي.. ارتفع صوته رغما عنه: استني.. أنا غيرت رأيي. توقف عن القيادة في انزعاج.. قال كلاما كثيرا لم يهتم به.. قال له في النهاية: انت بالطبع حتروح في ستانلي.. تبقي تنزلني في طريقك في سيدي جابر.. استدار بالسيارة ليعود إلي قلب المدينة.. عاد يتكلم ويتكلم.. حتي توقف وتوقفت السيارة.. ونزل أمام المقهي الكبير المشهور بأنه مقهي السفر علي بعد خطوات من المحطة.. أسرع بالنزول قبل إشارة المرور.جلس علي أول كرسي قابله فوق الرصيف.. الوقت متأخر وبالطبع فاتت مواعيد القطارات والأتوبيسات.. انه نفس الموعد الذي تحرك فيه من باب الحديد بالأمس.. أربع وعشرون ساعة لا يعرف ماذا يقول عنها.. لماذا جاء.. ولماذا هو هنا الآن؟.. ومتي يفيق المضروب فوق أم رأسه؟ لم ينل ضربة فوق رأسه.. ولكنه يحس بالضربة.. ضربة غريبة غامضة ضاعت معها كل حواسه فأصبح يتحرك مثل الإنسان الآلي.. الروبوت.. ولكن من الذي يحركه.. وكيف يتحكم فيه؟.. قبل الأمس كان عبدا من عباد الله سبحانه.. كل شيء بمشيئته,.. كيف يفكر؟.. إلي أين يذهب؟.. متي يستقر علي قرار وسط الضبابية القاتمة التي تجعله يفعل ما لا يريد.. ويريد ما لا يفعل؟أحس بالبرد فوضع الكوفية الفلسطينية حول رقبته.. شكرا للفتاة المليئة البيضاء ومعها الفتاة النحيفة السمراء.. كأنه قد فات دهر منذ لقائهما.. لا نصف ليلة فقط. ولكن لا جديد سواء داخله أو خارجه.. داخله الغموض وخارجه نفس الأخبار ونفس المآسي ونفس الكارثة.. كان في مطلع شبابه يضع شعب الجزائر كله في قمة البطولة من اجل تحرير وطنهم.. كان الجميع يتألمون لبشاعة الاستعمار الفرنسي وكيف أن جنودهم كانوا يفخرون بقتل الجزائريين الهمجيين.. والذين يطالبون بحق ليس من حقوقهم.. وهو ارض الجزائر التي تعتبر جزءا من فرنسا.. مليون شهيد حتي يقتنع الطغاة أنها ارض جزائرية.. وان علي فرنسا أن تنحسر إلي الشمال.. وترحل إلي أوروبا بعيدا عن شمال إفريقيا!مد يده ليحكم وضع الكوفية الفلسطينية حول رقبته..لسعات البرد بدأت تهاجمه.. كان في الطريق إلي شقته.. سيارة كانت تحت أمره حتي الباب فلماذا تراجع فجأة؟.. أمامه عذاب العودة مع سيارات الأجرة التي لا تتحرك إلا بعد اكتمال الزبائن.. أحيانا سبعة.. وفي معظم الأحيان عشرة.. وربما تظهر امرأة حامل أخري.. فلماذا يبدو وكأنه قد فقد صوابه.. أو انه يستمتع بالفوضي.. هاجمته زوجته مرة لأنه لا يريد تغيير الحذاء الذي أصبح باليا.. يقول لها انه يستريح مع هذا الحذاء.. بل انه يحبه.. حذاء وش خير.. وتتعمد زوجته إخفاء الحذاء حتي لا يرتديه.. ولكنه يبحث عنه حتي يجده ويرتديه.. فما كان منها إلا أن ألقت به من النافذة أمام عينيه.. وفي نفس اللحظة قدمت له صندوقا به حذاء جديد.. رغم ذلك فكر في أن يسرع إلي الشارع لاسترداد الحذاء القديم, ولكنها وقفت في طريقه وابتسامة غامضة فوق شفتيها ونظرة رثاء أيضا!أحس انه يرتدي ذلك الحذاء القديم رغم أن الذي يرتديه له شكل مختلف ولون مختلف أيضا.. تلك هي الحكاية.. ما تحبه أنت وتريده.. لا يحبه غيرك ولا يريده.. يرددون دائما: يكفيك ما حققت.. فلماذا لا يتركونه في حاله التي لا يعرفون عنها شيئا؟!لابد ألا يتعجل قرار العودة, فسيارات الأجرة جاهزة حتي الصباح.. وفي الصباح يمكن أن يستعيض عنها بالقطار لو أراد.. جدد ما يشربه في المقهي الذي يتجدد زبائنه مهما غادره آخرون.. فكرة رائعة.. هو الآن زبون جديد.. فليتعامل مع كل شيء بصورة طازجة.. كأنه قد وصل الآن فقط.. هو غير مرتبط بأية مواعيد.. وزوجته استكانت بأنه في الإسكندرية وعودته ستكون وقت أن يريد.. الموضوع يتحول من الإياب إلي الوصول.. عظيم.. اللحظات الطازجة تطالبه بأن يختار المكان الذي يذهب إليه.. إن لم يكن الآن.. ففي الصباح.. دفع الحساب وغادر المقهي وبشائر الفجر تلقي ضياءها علي الشوارع والبيوت.. وفي قرار طازج أشار لسيارة أجرة وعندما توقفت ركب وقال للسائق:سيدي بشر.. أول شارع خالد بن الوليد!شارع بعد شارع توقف السائق ليسأله:عايز نمرة كام في الشارع؟كان قد غط في نوم داهم.. أعاد السائق سؤاله بصوت أكثر ارتفاعا.. فانتبه وحرك رأسه وكأنه غير نائم.. ثم قال في كلمات متثائبة:وديني عند الجامع!ترك السيارة عند سفح جامع سيدي بشر الذي يقع قريبا من الفندق الجديد المرتفع.. ارض هذا الفندق قبل بنائه كانت ملكا لأبيه وعمه.. ولكنهما باعاها بأبخس ثمن.. ليبيعها من اشتري منهما بمليون جنيه.. الناس كلهم في هذه البقعة يعرفون ذلك جيدا.قرار طازج آخر.. أن يقيم في الفندق الجديد.. الأرض أرض أبيه وعمه ولا يهم أنهم ارتفعوا بالبناء وناطحوا السحاب.. يطل من حجرته علي مدخل الجامع وعلي مكتب البريد القريب منه.. أبوه كان يضع كل ما يمتلكه من نقود في دفتر توفير هذا المكتب الصغير الذي ظل كما هو.. باب واحد وحارس لا يحمل أي سلاح.. ولا حتي عصا له فيها مآرب أخري.. يعاوده الإحساس بالتملك رغم انه لا يمتلك هنا شيئا!استيقظ عند الظهيرة.. فتح باب الشرفة فاستقبله هواء البحر العاصف.. غالبه انتعاش كبير فخاطب نفسه باسمه: صباح الخير!.. متي يفهم البحر وتفهم الإسكندرية أنهما كل شيء في حياته.. مثلهما مثل أولاده وأحفاده.. آن الأوان ليخاطبهم جميعا واحدا بعد الآخر.. يدعوهم للقدوم بأسرع وقت.. امسك المحمول ثم أبعده.. لن يجد احدهم الوقت ليجئ إليه مهما كانت المغريات.. ينزل إلي المطعم لتناول الفطور ولعله الغداء.. يدخل الحمام ويغرق نفسه في المياه.. يرتدي ملابسه ويغادر الحجرة ومفتاحها في يده.. بحث عن مكان المصعد حتي وجده في إحدي الزوايا البعيدة. هبط إلي مكان المطعم وقبل أن يجلس رأي ذلك الوجه الذي يعرفه.. حوله أسرته.. زوجته وابنتاه.. أحيل علي المعاش قبله بأسبوع.. فماذا أتي به إلي هنا؟!.. حاول أن يتحاشاه ولكنه قام ليرحب به وليدعوه أن ينضم إلي مائدتهم.. لم يجد فرصة للاعتذار. كلمات ترحيب تروح وتجئ مع الأطباق والأكواب. قال زميله في النهاية:إحنا مسافرين اليونان.. تيجي معانا؟!رد في اقتضاب: أنا مش جاهز.اندفع زميله: أنا عارف كويس إن الباسبور بتاعك دايما في جيبك.. هاته وسيب الباقي عليا.عاود الاعتذار: الفلوس مش كفايهتعالت ضحكات الذي ظهر علي غير معاد: أنا برضه عارف إن لك حسابا في بنك هنا باسكندرية.. فرصة هايلة ماتضيعهاشقال كأنما يحدث أذنيه دون غيرهما:اليونان؟! أنا رحت هناك كثير.. بس المرة دي.. أنا..قاطعه: مافيش ساعتين ونكون خلصنا كل حاجة.. وتقدر تبلغ الأسرة بالمحمول.. يللا كمل أكلك عشان قدامنا مشاوير كثيرة.. أولها انت تروح البنك.. وآخرها نروح سوا للشركة المنظمة للرحلة..!أي نوع من البشر هذا البني آدم.. يظهر فجأة ويأخذه فجأة إلي رحلة لم تكن في حسبانه.. كان المجيء من القاهرة إلي الإسكندرية مشكلة. طغي عليه إحساس الهروب من الشيء الغامض الذي اقتحم كيانه وافقده كل حواسه. هو فعلا أصبح مثل الروبوت تحركه أصابع مجهولة. الآن هذه الأصابع في يد هذا الصاحب.. طلب منه أن يعطيه مهلة حتي يجمع ما يخصه في الحجرة.. لم يكن هناك شيء في الحقيقة. انسحب وهو يعده بأنه سيعود بعد دقائق معدودة. أسرع إلي موظف الحسابات عند مدخل الفندق. دفع ما طلبه منه وهرول صوب الشارع.. ومنه إلي شاطئ البحر..تطلع ناحية اليونان عند الأفق البعيد!! (5) وهو علي مقعد فوق رصيف الكورنيش, ساعدته أمواج البحر المتراقصة في مد وجزر وحيوية أبدية.. ورائحة خاصة ليست اليود فقط كما يقولون, إنما هي ضمن سمات وملامح البحر الذي لا يجنح أبدا إلي السكينة حتي ولو كانت صفحته ساكنة.. زمان كانوا يقولون اعمل الخير وارميه البحر.. هل فهم أحد معني ذلك؟.. من الخير إلي الخير.. هو سيحفظه لك.. لن يضيع.. هذه الأمواج تقول له: أهلا بك.. لماذا أنت علي غير طبيعتك؟سلامتك.. نعرف أمك.. ونعرف أباك.. كانت أمك تحتفل بالمجيء إلينا.. طعام وحلوي وقلب ابيض كبير.. وكان أبوك يسارع إلي مشاركة الأطفال الذين لا يعرفهم في الزحلقة من فوق إلي أحضاننا.. كانت السعادة تلف كل وجدانه رغم ما في الحياة من متاعب, ومن صراع من اجل لقمة العيش.. ولا تنس أن أباك كان أزرق العينين مثل صفحتنا المفتوحة علي السماء!.. هل تبتسم؟.. لقد أضاعت أمك زرقة العينين التي كان من الممكن أن ترثها عن أبيك بسبب سواد عينيها.. أنت اقرب إليها.. وأبوك أقرب إليك!حاول إعادة ترتيب كل شيء.. جئت فجأة إلينا.. هذا ما تعودناه منك.. فلماذا التخبط في الضياع.. وفي الكلمات التي تضم حروفا مزعجة مثل النزوة.. والهروب.. والشروع الخفي للانتحار.. لتمثل النهاية مع أن هذا ليس من حقك.. عليك أن تعيش ولكن ليس عليك أن تموت.. كل شيء حولك له قوانينه.. حياة أقربائك.. سكون الأماكن.. فلماذا تتخبط قوانينك.. نعم أنت لست كما كنت زمان.. لست المندفع, المتهور, المغامر.. ولكنك لا تزال أنت.. تغيرت بطاقتك ولكن لم تتغير هويتك.. اذهب الآن للقاء جذورك في كافة الأنحاء.. ليس من الضروري أن تذهب إلي أشقائك.. دع ذلك لمرة أخري تكون فيها أكثر صفاء.. اذهب إلي خالك في كامب شيزار, إنه الوحيد الباقي من رائحة أمك.. اذهب إلي عمك في غيط العنب, إنه الوحيد الباقي من رائحة أبيك.. اذهب إلي متولي في راغب باشا, إنه الوحيد الذي كان يشارك أباك ليالي المديح والأناشيد وجلسات الحوار الصوفي في جامع سيدي يوسف.. هل تتذكر ذلك اليوم الذي كنت فيه في صحبة أبيك عند مشارف الجامع.. واستفزت أصوات الدعاء المتعالية كيان الحصان الذي كان مربوطا إلي جوار العربة التي تعود أن يجرها.. جمح ورفس الرصيف برجليه الخلفيتين فتطاير الشرر والنار بفعل احتكاك الحدوتين الحديديتين بصلابة الرصيف.. انطلق بعد أن قطع الرباط وأخذ يجري كالمجنون.. قال متولي إن الحصان أصابته حمي الاستجابة لهدير الدعاء.. امسكوا به ولكنه ظل محمر العينين! لماذا يا بحر الحديث عن الجذور؟.. صلتي القديمة بك منذ مولدي تعطيني حق القول باني أمهلك بعض الشيء.. فعلها صديق عمري عندما خصص أسبوعا بأكمله لزيارة كل الأقارب.. الجذور كما تقول.. ذهب إلي القريب والبعيد.. وآسي من يحتاج المواساة.. وساعد من يتوق للمساعدة.. فعل معظم ما يقال إنه الصلاح في الدنيا.. تحقق كل شيء.. ثم رقد في بيته دون حراك.. وكأنه لم يتبق شئ آخر يفعله.. ومات!هل تعرف يا بحر أنها النهاية.. أنني سأموت؟!يذهب إلي كل الأماكن التي دعاه البحر أن يذهب إليها.. ولا يذهب!.. ظل فوق مقعده علي رصيف الكورنيش.. هل يدعي أنه ليس خائفا؟.. كلمات كثيرة تقال عن حتميته.. والحقيقة أنه فعلا خائف.. يغلف الخوف بخوف أكبر.. رد الفعل عند أحبائه.. زوجته وأولاده وأحفاده.. وعند من تبقي من الأصدقاء.. ينتبه إلي أن امرأة غريبة تشاركه المقعد.. تفرس فيها فرأي أنها كانت جميلة.. قالت كلمة واحدة مع ابتسامة أضاءت ملامحها:مالك؟!فوجئ بسؤالها فلم يرد.. قالت بنفس الابتسامة:بقالك أكثر من ساعة بتكلم روحك.. خالك.. وعمك.. ومتولي.. والحصان.. قعدت أسمع غصب عني.. تسمح لي أسألك.. مالك؟!قال وكأنها نكتة: وانت مالك؟!انفجرت ضاحكة.. اندفعت في الحديث بعد ذلك عن وحدتها بعد رحيل زوجها وبعد ابتعاد بناتها وأولادها لحياتهم الخاصة.. قالت إنها أصبحت مثل الفأر المحبوس بين جدران بيت كان مزدهرا بالحياة.. ثم أصبح كالمقبرة. أنهت كلامها بأنها تري أن حاله مثل حالها.. ولكن الرجل دائما في وضع أحسن.. يمكنه فعل ما يريد.. التغيير.. السفر.. أما هي فأسيرة كل المستحيلات في الدنيا!لن يطيق البقاء مع تلك المرأة أكثر من ذلك.. صحبة مفروضة عليه.. لا تعرف إلا النهنهة والبكاء علي الأطلال.. استأذن منها وبادر بالانصراف. سمعها تقول قبل أن يبتعد:تيجي تتعشي معايا؟!تخشب مكانه وقال بصعوبة: فين؟!واصلت في شيء من الحنان: في البيت عندي!تساءل.. كيف تتصرف امرأة في مثل هذه السن بتلك الصورة؟.. هل خدعته بمظهرها؟.. قاوم رغبة قدميه في السير.. هل تراه نوعا من العطف عليه؟ هل هي شفقة؟.. لا يعرف.. قال لها رغم توسلات عينيها:اعذريني.. أنا مسافر.. رايح مصر!استأنف ابتعاده وهو يغالب الإحساس بأنه عاملها بقسوة قد لا تستحقها.. أراح مشاعره بالنظر إلي قرص الشمس البرتقالي الذي يداعب عناق البحر بالسحاب قبل المغيب.. يستطيع مواصلة السير حتي سيدي جابر.. الوصول والإياب معا.. يصل بعد وقت طويل.. يعاود الجلوس في مقهي السفر.. يعرف أنه يمكنه الحجز في واحد من القطارات ولكنه يفضل السيارة الأجرة.. لا يعرف لماذا.. كما جاء يعود.. لن يتعجل اختيار السيارة فأمامه فرصة للبقاء هنا مدة أكثر.. كوكتيل الماضي والحاضر.. لا يريد التوهان مع علامات الاستفهام.. لأن إجاباتها كلها ليست إلا علامات استفهام جديدة!سخر بنفسه من نفسه.. الحرية؟ هل هي التي منحتها زوجته له بعد مخاطبتها بالمحمول أمس؟.. ماذا قالت؟.. خللي بالك من نفسك.. وبعدها تصور انه قادر علي أن يفعل ما يشاء.. فهل فعل ما يشاء؟ لقد عايش الضياع بإرادته.. ذهب إلي حيث لا يريد.. ولم يذهب إلي حيث يريد.. فهل هذه هي الحرية؟.. إنها كمطلب أعظم منها بكثير من أن تكون معايشة بالفعل.. المطالب الذي يضحي بحياته من اجل الحرية أفضل من الذي يعيشها فعلا.. قد تكون أفكارا جنونية.. ولكن الواقع يساند تلك الأفكار مهما كان جنونها.. ومهما كانت غرابتها.. هو يفضل أن يظل مطالبا بالحرية!!ازدادت لسعات البرد والغضب..أحكم وضع الكوفية الفلسطينية حول رقبته..يمر الوقت سريعا وعليه أن يختار السيارة التي ستأخذه إلي القاهرة.. لمح السيارة التي يقف سائقها بالقرب منها مناديا بصوت خفيض عن السفر.. أشار إليه فجاء حالا, وقال دون مقدمات: خليك مكانك.. ناقص ثلاثة!.. هذا ما توقعه.. لم تكتمل الصحبة إلا قبيل الفجر.. أخيرا تحركت سيارة العودة.. تفرس في وجه السائق الذي يجلس إلي جواره.. كلهم أصحاب ملامح واحدة!.. مع بداية الطريق الصحراوي أدار الراديو فارتفعت الأناشيد الوطنية.. طلب منه خفض الصوت بعض الشيء ولكنه تظاهر بعدم السماع.. في مثل هذه الأحوال يعود نفسه علي سماع الصوت العالي رغما عنه.. تجاوب مع الكلمات الحماسية وبدأ يرددها بين شفتيه!أصبح عاطلا عن أي تفكير.. ظلام داخل السيارة المسرعة.. وأضواء متباعدة, خافتة علي جانبي الطريق.. وفجأة.. هاجمه ضوء باهر, كاسح.. ثم لم يعرف ماذا حدث بعد ذلك..دوي صدام هائل, مدمر وتعالت ألسنة النيران..تناثرت السيارة حديد وبشر..تلاشي الصوت العالي للأناشيد.. ضاع تماما..هول وموت..انفجر كل شيء في لحظة خاطفة مروعة.. دامية.. ثم كان الصمت الذي يفضي بمأساة الآن.. غافلا عن كل ما كان..فهل.. هل كان يعرف؟هل..كان..يعرف؟! (تمت)