أما عن شخصيات تلك القصة، فأربع قد يكون لهم خامس: أليخاندرو كولمبي. من مدينة بوينس أيرس. ولد لأبوين من جيل يناير. ضد الديكتاتور يكون النضال. الورود التي تتفتح في المصانع. كانت المدينة تأتيها الضواحي. وبهكذا غموض! يعمل في مطبخ Pick me up cafe. يجمع القصص باستراق السمع لأحاديث الزبائن عبر شباك صغير يربط المطبخ بمكان جلوسهم. مهاجر غير شرعي. شاعر. أميجو في نيويورك. كاتب قصة بعد أن قرر أن الشعر لا يناسب العصور الحديثة التي هي لنا. لن أقول عنه الكثير. فقط بيتان من الشعر. لنتركه في المطبخ. في تخفيه. الصباحات لا تتشابه لكن الرحلة قالوا بخصوصها الكثير. جيل فبراير. قهوة الصباح، في تصور البوينس أيرسيين عن أنفسهم، أهم من سندوتشات الفلافل عند سكان بوجوتا. أكثر من ذلك جداً. أقوي من حمي الأرشيف. لنتركه مع القصص الكثيرة التي يمنحها له العالم. اسم مستعار يتظاهر أنه عراقي. كاتب قصة قصيرة. ضائع. لا يبحث عن طريق. الضياع طريقه. لم يكتب شيئاً منذ فترة طويلة. ولا يريد. هو هناك فقط لأن "قهوة علقني" تمنح مكاناً دافئاً وطعام وقهوة مجانية مدة شهر. نحن في الشتاء. أو في عز الصيف أثناء تحول جليدي. والصباح الباكر للهيبرة إن لم ينم الليل، أما بدايات المساء فللهسترة إن كان وحيداً. إنها مسابقتها المبتكرة: قصص المقهي. سيخطب ود العبارات المستهلكة، ويزيد في نفسه: ومقهي القصص. أشياء لا تُصدق يا أخي. والعالم يشبه كوكب الأرض ذات ليلة. لحفلة القراءة الختامية سيقرأ عليهم قصة سيترجمها. شهر كامل سيقضيه في ألفة طريقه، وفي اختيار قصة لكاتب ليس من مفضليه. في هذه الأثناء، بينما يتفنن في قتل الوقت، يقرأ كتاب "تلال ماكومبي". دانيال (داني) أمريكي. الولاياتالمتحدة بمفردها. تحب العالم علي حدة. قلما يتحرك من مكانه. يقرأ طيلة اليوم. نظارات هيبية إن سألت قال: اشتريتها من بائع أرشيف في فيلادلفيا، في الحي القديم الذي بنوه حديثاً. كيف نهرب من الملل الذي هو شعار الدولة؟ لا يكتب. مظلوم بين كل الشخصيات الأخري لأن الكاتب لا يبدو أنه يحبه. فلنحزن من أجله بقي. إن توفر لدينا بعض الوقت بعد أن يمر بعض الوقت. رجل عجوز: وجه مرهق وذقن مهملة. له عيون فراشة. ما الذي يعنيه ذلك؟ لا شيء. بلا عمق يكون كل شيء. قصصه غير مكتوبة: ضائعة. قصص سعيدة تبتسم لأنها لم تمر باختبار الكلمة. مُزة الجيل تبدو متوترة دائما. بلا سبب واضح. العالم يبدأ بدون كل هذه الأشياء التي تواضعنا عليها، والأدهي بجد أنه يستمر. ذلك موجود أصلاً بينما نحن نتمشي في شوارع القارة. تكتب كثيراً. تجلس كأن العالم من حولها قد انتهي. كأنني استيقظت بعد منتصف الليل وتساءلت إن كان العالم قد كف عن الوجود بينما النوم يحدث. في هدوء من لا يعنيها ذلك كثيراً لكن بتوتر لا يشبه نفسه أكثر مما يجب. القهوة والسجائر واللابتوب وبروكلين وغياب اللغة وروايات هذه البلاد التي تُكتب بعد ساعات الدوام. دور النشر والمحررون والرسائل البريدية وأكتب قصصاً أنساها وحتي العنوان لا يبقي ومن سيكتب تاريخ مخدرات هذه الحضارة العظيمة ولماذا لا يخرج البشر في أجازة جماعية. وذات مساء أتي الليل وكان أمراً لطيفاً فهيا بنا نتحدث في صمت أيها الأصدقاء. الساعات الصغيرة التي لم تكبر بعد. لظروفها الخاصة لكن شكراً علي سؤالكم. بعدها بعدة سنوات، ولذلك لن تتمكن القصة من ذكره، ستُنهي حياتها لسبب سيبقي سرها المصون. لن يقترب منه دارسو الأدب، أو نقاده، أو كاتبو السير. فقط اسم مستعار سيعرف إن أراد الكاتب. قبلها ستكتب رواية "تحت شمس بروكلين،" وعنها ستفوز بجائزة "ما لن تحبه أمريكا". سحر المدينة الأخير لأقل قليلاً من عام، كنت أتنقل مرتين يوميا علي الأقل بين محل سكني ومكان آخر، فأمر بمقهي علقني. لا أتذكر الآن ما لفت انتباهي إليه. ربما اسمه الذي أسيء ترجمته، متعمداً، كما اعتدت أن أفعل قديماً، علي ظن أنني أسلي نفسي. ربما قررت، من باب تسلية النفس أيضاً، أن أحب ذلك المقهي وألا أدخله أبداً كي أحتفظ لنفسي بمكان أمنيها دائماً بالذهاب إليه. مرة واحدة أخذتني الحياة للجلوس هناك. كنت مع "ك" التي كانت صحبتها تضايقني كثيراً لكنني خرجت معها عدة مرات بسبب الضجر. لم تكن "ك" تؤمن فقط بالطاقة الإيجابية، وتوازن الكون، ونقاء الروح، وأشياء من هذا القبيل، بل كانت دائمة الحديث عنها. وفي ليلة تقابلنا، وتمشينا حتي وجدنا أنفسنا في جوار المقهي. وحين بحثنا عن مكان نجلس فيه، لا أدري لماذا اقترحت عليها الذهاب إليه. ربما كانت اللحظة قد قاومت رومانسية الاحتفاظ بمكان لم تثقله التجربة. ربما نسيت أنني قررت أمراً بخصوص ذلك الركن من المدينة الذي خطر لي أن أحفظه للجهل. ربما كانت لحظة صدق مع النفس قوية بما يكفي لأن أعترف أنني سأكون دائماً بخير فما أجهله من تلك المدينة ومن كل مدينة أخري عشت فيها هو أكثر كثيراً مما أعرف. ذهبت معها إذن. كان مساء لا يذكرني بشيء، ولا يعد بشيء. مساء من اللطف بحيث منحني حياده. في تلك الليلة، عزيزي القارئ، لم يحدث شيء يستحق الذكر هنا سوي جملة قالتها "ك": هل يمكن أن ترد لي قصتي؟ كانت قد حكت لي قصة ما، قصة مجنونة تماماً، عن أمر حدث لها في طائرة، مع أحد المشاهير، ثم في أحد فنادق المدينة. لا أتذكر جيداً لمَ حكت لي ذلك، أو لمَ طلبت مني استرداد ما حكت، لكنني أتذكر أنه بدا لي أنها تريد مني أكثر مما أستطيع: أن أصدق قصتها، أو أن أندهش جداً من غرابتها. ليلتها تساءلت كيف لأحد أن يرد لآخرٍ قصة، وتخيلت، بينما تتحدث، بينما أفقد حلم المقهي البريء من أي ذكري، كيف يكون فعل الرد. وكدت أبتسم وأنا أري نفسي، أقف أمامها، وينحني رأسي قليلاً، وأنا أقول، بنبرة تهتز لرصانتها أرجاء المكان: ها أنا ذا أرد عليكِ قصتكِ، مستعينا، في ذلك، بمفردات كلاسيكية لا يمكن ترجمتها بسهولة لهذه اللغة التي أكتب بها الآن. مع أنه ليس كاتباً من الطبقة الوسطي الأرجنتينية حين خرج وجد دانيال بالخارج. كان يدخن سيجارته وهو غارق في أفكاره. وقف بجواره وطلب منه سيجارة، فأعطاه. ثم الولاعة. شكره. أراد أن يقول شيئاً ولم يجد. بحث ثانية، ولما لم يجد شيئاً، قال: "هدوء الصباح." "نعم. هدوء الصباح." ثم التفت دانيال إليه، وقال كأنه يأتمنه علي سر: "مشهد الصباح دائما يسحرني. كأنه يحدث للمرة الأولي. التفاصيل الكثيرة. خروج الناس إلي أشغالهم. تريض البعض. مشي البعض بدون مسار محدد سلفاً. عشرات التفاصيل الصغيرة المباغتة. تتكرر ولكن دائما كأنها تحدث للمرة الأولي." "هل تكتب عن هذا؟" "لا. أود أن أفعل ذلك لكنني لا أستطيع. تنقصني الدقة." "هذه مشكلة،" قال وهو لا يعني ذلك علي الإطلاق. "نعم. مشكلة أن تود أن تكتب كل هذه التفاصيل ولا تغفل شيئاً." ولم لا تقرأ "زلات القديسين" كي يكون اعتبارك؟ "الأمر مثل ... ،" ثم سكت لثوان قليلة، وبدا وكأنه قرر ألا يشركه في الأمر، لكنه أكمل، "أتعرف، أشعر أنني ابن ضال للأدب لا يعود أبداً." نظر إليه، وقال باقتضاب: "هذه أيضاً مشكلة." بعد أن عاد السيد دانيال للداخل، استمر اسم مستعار في وقفته أمام المقهي، وهو يردد لنفسه "ابن الأدب الضال" التي قالها دانيال بفرنسية لها لكنة أمريكية ثقيلة، ورأي أنه محايد تماما، أن النهار يبدأ، أن امرأة هناك دخلت في شارع جانبي، أن طيوراً ترف فوق الحديقة المقابلة، أن رجلاً يجري وخلفه كلبه ينبح، قائلاً: هديت حيلي ربنا يهد حيلك، أن الأرجنتين تتفوق علي أيرلندا في مباراة الأدب الحديث لكن من يضمن المستقبل، أن ضجيج السيارات في خلفية المشهد، ساوندتراك، أن اليوم ليس السبت وليس الأحد وليس ما بينهما، أنه لم يعد يحب سندوتشات التونة، أنه توجد أنواع عدة من التفاح، أن المطعم المغربي يفتح أبوابه، أن المرأة السورية التي تعمل به تبتسم وتلوح له بيدها، أن چاكو، وهو شخصية قصصية وشاعر ولص بنوك وخائن صديقه الذي أسموه "البروفسير" و "أرق سارقي البنوك قلباً"، يمكن أن يمر من أمامك الآن ويقول: "عمت صباحاً" لأنه لا يعرف اللكنة المحلية، أنه لا توجد لكنة محلية هنا فلنبتسم بقي، أنه يسأل كم أرجنتيني من طبقة بوينس أيرس الوسطي يتحدث الإنجليزية بلكنة الساحل الشرقي في هذه اللحظة بالذات، أن المغرب دولة تطل علي المحيط الأطلنطي، أن سوريا لا تفعل لأسبابها الخاصة، أنه يريد أن يصادق مزة الجيل كي يحاول أن يجعلها تبتسم مرة أو مرتين، أنه لن يفعل أي شيء كي يحدث ذلك، أن فكرة الشيشة أكثر عمقاً من فكرة السجائر، أن تذكر الواحد منا لما كان يروقه منذ سنوات لا يعني سوي أن تكون أكثر تسامحاً مع الآخرين، وألا تدافع باهتمام عن تفضيلاتك الآن، إن وجدت.