تحرك أمني بالعاشر من رمضان بعد بلاغ عن استدراج طفلة وتقديم مشروب يحتوي على مادة مجهولة لها    جامعة حلوان تنظم برنامجًا تدريبيًا بعنوان "مفاهيم الإدارة الحديثة"    آخر موعد لتلقي المقترحات البحثية في برنامج العلوم الأساسية والمجالات المطلوبة    خبير عسكري يكشف كواليس غرفة العمليات يوم 6 أكتوبر 1973    منتخب الجزائر يتأهل رسميًا إلى كأس العالم 2026 بعد الفوز على الصومال    خامس العرب.. الجزائر تتأهل لكأس العالم 2026    مصر ترفع رصيدها إلى 9 ميداليات في اليوم الأول لبطولة العالم للسباحة بالزعانف    رسالة النني للاعبي منتخب مصر بعد التأهل للمونديال    حبس 4 سيدات بتهمة ممارسة أعمال منافية للآداب عبر تطبيق هاتفي بالإسكندرية    نوكيا تطلق هاتف Nokia Premium 5G بمواصفات رائدة وتقنيات متطورة    كاظم الساهر يحيي حفلا في الرياض 30 أكتوبر    هيئة الدواء تبحث مع فاكسيرا توطين صناعة اللقاحات وتعزيز الأمن الدوائي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9-10-2025 في محافظة الأقصر    الطاهر: الدولة تبنت برنامجًا طموحًا لزيادة إنتاج الطاقة المتجددة وتعظيم قيمتها الاقتصادية    مصدر من اتحاد الكرة ل في الجول: من السابق لأوانه تحديد المرشحين لتدريب مصر للشباب    إصابة 4 أطفال فلسطينيين برصاص جيش الاحتلال في الخليل وجنين    تحذير مهم من «الأطباء» بشأن تصوير الأطقم الطبية في أماكن العمل    موعد تطبيق التوقيت الشتوي في مصر وإلغاء الصيفي 2025    على أنغام السمسمية.. مسرح المواجهة والتجوال يحتفل بانتصارات أكتوبر فى جنوب سيناء    «محدش فينا هيتردد».. كريم فهمي يكشف حقيقة اعتذاره عن المشاركة في «وننسى اللي كان» ب رمضان 2026    «واخدينها بالفهلوة».. رجال هذه الأبراج هم الأسوأ في قيادة السيارات    في اليوم الثاني لفتح باب الترشح لمجلس النواب بالبحر الأحمر: «لم يتقدم أحد»    ترمب بعد اتفاق شرم الشيخ : أنهينا الحرب فى غزة ونتوقع سلامًا دائمًا فى الشرق الأوسط    خبيرة أمن: ترامب واضح في التزامه بجلب السلام للشرق الأوسط    بارليف.. نهاية وهم إسرائيل.. تدريبات الجيش المصري على نماذج مشابهة ببحيرة قارون    جهاز تنمية المشروعات ينظم معسكر للابتكار ضمن معرض «تراثنا 2025»    بيت الزكاة والصدقات يثمّن جهود الوساطة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة    هل يجوز للرجل الزواج بأخرى رغم حب زوجته الأولى؟.. أمين الفتوى يجيب    ساليبا: نريد الثأر في كأس العالم.. والإصابة مزعجة في ظل المنافسة الشرسة    سمير عمر: الوفود الأمنية تواصل مناقشاتها لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق غزة    نتائج مباريات اليوم الخميس في دوري المحترفين    تأثير اللولب على العلاقة الزوجية وطرق التغلب على ذلك    جامعة قناة السويس ضمن تصنيف التايمز البريطاني لعام 2026    محافظ كفر الشيخ: تجربة مصر في زراعة الأرز نموذج يُحتذى إفريقيا    إعلان عمان: ندين ما خلفه الاحتلال من أزمة صحية كارثية بقطاع غزة    وزير التنمية النرويجي يلاطف الأطفال الفلسطينيين خلال زيارته لمستشفى العريش العام    الاحتلال الإسرائيلي يطلق قنابل غاز مسيل للدموع وسط الخليل بعد إجبار المحلات على الإغلاق    بتكليف من السيسي.. وزير الصحة يزور الكابتن حسن شحاتة للاطمئنان على حالته الصحية    أطعمة تضر أكثر مما تنفع.. احذر القهوة والحمضيات على معدة فارغة    النيابة العامة تصدر قرارًا عاجلًا بشأن المتهمين بقتل البلوجر يوسف شلش    استبعاد معلمة ومدير مدرسة بطوخ عقب تعديهما على تلميذ داخل الفصل    نادي جامعة حلوان يهنئ منتخب مصر بالتأهل التاريخي لكأس العالم 2026    التضامن: مكافحة عمل الأطفال مسؤولية مجتمعية تتكامل فيها الجهود لحماية مستقبل الأجيال    بالأسماء تعرف علي أوائل الدورات التدريبية عن العام 2024 / 2025 بمحافظة الجيزة    لترشيد استهلاك الكهرباء.. تحرير 134 مخالفة لمحال غير ملتزمة بمواعيد الإغلاق    بعد معاينة الطب الشرعي.. جهات التحقيق تصرح بدفن طفل فرشوط بقنا    قسطنطين كڤافيس وشقيقه كيف يُصنع الشاعر؟    إصابة 12 شخصا فى حادث انقلاب سيارة بطريق العلاقى بأسوان    إطلاق قافلة زاد العزةال 47 من مصر إلى غزة بحمولة 3450 طن مساعدات    انتخابات النواب: 73 مرشحًا في الجيزة بينهم 5 سيدات مستقلات حتى الآن    كوارث يومية فى زمن الانقلاب…حريق محل مراتب بالموسكي ومصرع أمين شرطة فى حادث بسوهاج    التقييمات الأسبوعية للطلاب فى صفوف النقل عبر هذا الرابط    محمود مسلم: السيسي يستحق التقدير والمفاوض المصري الأقدر على الحوار مع الفلسطينيين والإسرائيليين    متوسط التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات على خطوط السكة الحديد    شاهيناز: «مبحبش أظهر حياتي الخاصة على السوشيال.. والفنان مش إنسان عادي»    عاجل - بالصور.. شاهد الوفود الدولية في شرم الشيخ لمفاوضات غزة وسط تفاؤل بخطوة أولى للسلام    من أدعية الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج    دينا أبو الخير: قذف المحصنات جريمة عظيمة يعاقب عليها الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهروب الكبير
قصة لم تنشر كاملة من قبل بمناسبة ذكري رحيله التاسعه
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 02 - 2012

ظل مذهولا وقد فقد دون أي مقدمات كل حواسه‏. المكان مفتوح.. والصخب غالب.. والأصدقاء والغرباء حول كل الموائد. وربما كان أحدهم يحدثه ولم يجد القدرة علي سماعه.. وتفرس فيه ولم يتبين ملامحه.. مد يده ليرفع الكوب ليحتسي ما فيه ولم يشعر بأي طعم له.. فأعاده إلي مكانه. بعد لحظات سريعة ترك كرسيه بعد أن جمع ما يخصه في حركة تقليدية.. الولاعة وعلبة السجائر والمفاتيح.. وبدأ خطواته إلي خارج المكان.. ربما كان أحدهم يناديه باسمه.. ولم يلتفت وراءه.. عبر المدخل إلي الشارع.. توقفت أمامه كالمعتاد سيارة أجرة سهلة المنال في هذا الوقت المتأخر من الليل.. وفي هذا المكان الذي يتوسط العاصمة. وجد نفسه يقول: إلي باب الحديد.. أطاعه السائق.. واندهش أنه لا يصدق نفسه.. إنه بهذه الطريقة لن يعود إلي بيته في شارع قصر العيني.. فماذا سيفعل في باب الحديد؟
انتبه أنه قد فاتت كل مواعيد القطارات.. فهل سيركب سيارة أجرة من جديد.. ولكن إلي أين..؟!
سمع النداء الذي يدعو لركوب سيارة ذاهبة إلي الإسكندرية. دخل السيارة دون كلمة واحدة.. هل هو ذاهب إلي الإسكندرية.. ولماذا الآن؟.. وماذا سيفعل هناك.. وماذا ستقول زوجته عندما لا تجده في فراشه عند الصباح؟.. سيمر وقت طويل قبل أن يعرف ولداه وابنته غيابه عن البيت.. يستطيع أن يخبر زوجته بالمحمول أنه في الإسكندرية.. تحركت السيارة بعد أن أعلن السائق السعر الجديد المطلوب.. تركت السيارة باب الحديد.. أدرك في النهاية أنه مسافر.. وإلي الإسكندرية.. دون أن يعرف لماذا.. بعد أن عرف كيف.. وبعد أن أيقن أنه فعلا مسافر!
في الطريق الصحراوي لم يغالبه النوم. عليه أن يختار بعد الوصول إلي أين يذهب؟.. ومن يستقبل معه بداية النهار؟.. توالت الصور في سيناريو محفوظ ومعروف عن أي خطوة قادمة.. سواء بالمكان الذي سيلجأ إليه أو بالشخص الذي سيقابله.. شخصان متميزان تعود أن يبدأ بهما ولكنهما للأسف في رحاب الله.. يفتقدهما وإن لم تكن هذه هي مشكلته الآن.. توقفت الأغاني في راديو السيارة.. وعلا صوت موجز الأنباء.. العدوان الوحشي لأحدث سفاك دماء في التاريخ.. يتلاشي إلي جواره نمرود ونيرون وهتلر وميلوسوفيتش.. لا جبروت يماثله من قبل.. ولا يمكن أن يجيء مثله من بعد.. تعالت زمجرات الغضب من راكبي سيارة الأجرة ومن سائقها.. تداخلت التعليقات ثم ركنوا في النهاية إلي الزفرات والغل المكتوم.. تساءل: ماذا يحدث لو هيأت له الظروف أن يجد أمامه شارون وجها لوجه؟.. لابد أنه سيملأ جسده الضخم وملامحه الكئيبة بعشرات الطعنات.. سيصفق العالم له لأنه قاتل شارون الذي تمتد جريمته من صبرا وشاتيلا إلي رام الله وجنين.. استكان في النهاية إلي الغل المكتوم.. واستأذن السائق في أن يدخن سيجارة.. ولكن السائق قال له إن السيارة ستتوقف في استراحة لشرب الشاي وتدخين السجائر.. علا صوت امرأة لم ينتبه لوجودها.. وكانت تطلب أن تكون الاستراحة في أقرب مكان لأنها حامل.. تذكر ابنته وقرب موعد وضعها المولود الثاني بعد حفيدته الحبيبة هادية.. زام بأنه لا يعي دائما انه أصبح الجد الذي يتناسي كيف كان زمان يعامل جده.. بصراحة كان يراه علي الهامش وكان يتعجب عندما يستحوذ علي جريدة الصباح ولا يتركها إلا عند الظهيرة وبعد قراءة صفحة الوفيات.. هل أصبح هو الآخر علي الهامش الآن؟كان لهذا الجد كلمة مأثورة: إذا أحببت فلا تظهر الحب.. داره حتي تعلن من تحبها ذلك الحب.. وارجع ثانية إلي إخفاء حبك.في الاستراحة شرب الشاي ودخن سيجارة.. ولم تتحرك السيارة إلا بعد وقت طويل لأن المرأة الحامل غابت في دورة المياه.. ماذا تراه يفعل الآن في قلب الليل ووسط الصحراء المترامية؟ هل هو هروب أم أنها نزوة.. أم أنه قرار نهائي بالعودة إلي الإسكندرية التي هاجر منها إلي القاهرة منذ سنوات وسنوات.. أصبح له عمل دائم, وأصبحت له مكانة في المجتمع.. وتزوج من إحدي قريباته وجاء بها من الإسكندرية لتعمل وتستقر معه.. وكبر أولاده وتخرجوا في الجامعة وتولوا الأعمال المختلفة.. وأصبح لهم أولاد, يعني أحفاد له.. وتحول البيت القديم إلي ما يشبه البيت الجديد عندما أصبحت جدرانه لا تضم إلا هو وزوجته.. لا يوجد بينهما حديث مشترك إلا عن الأولاد والأحفاد.. أو عن الوجبة المطلوبة في غداء اليوم.. ملل ما بعده ملل.. فماذا عن هذه النزوة؟.. نعم إنها نزوة.. لن تطول إقامته في الإسكندرية وسيعود إلي الطاحونة من جديد وإلي الساقية مرة أخري.. وإلي أحضان الملل.. لو كان هذا من قبيل الهروب لرتب كل شيء وعمل حساب كل صغيرة وكبيرة.. الشقة التي في انتظاره هي في حساب الجميع مكان للمصيف فقط.. يذهبون إليها في الصيف بعد مراجعة كل شيء فيها.. النظافة والنور والمياه.. أما الآن, فلابد أنها ساكنة تحت طبقات التراب والفوضي.. ولابد أن النور مقطوع وأن المياه لا تجري في الحمام.. وان عشرات الإيصالات واجبة الدفع ستكون في انتظاره.. هل يتراجع عن الذهاب إلي تلك الشقة؟ هل يذهب إلي بيت أحد أشقائه؟ وهل من المعقول أن يوقظه في مثل هذا الوقت؟.. كان يفعل ذلك مع الشخصين المتميزين بالصداقة اللذين رحلا إلي جوار ربهما.. كان يذهب إلي أيهما في أي وقت بالليل أوالنهار.. لابد أنها نزوة.. علا صوت أحد الركاب بأنه يريد النزول قبل مدخل المدينة.. وطلب من السائق أن يتوقف.. وتوقف السائق وفكر في لحظة أن ينزل مع ذلك الراكب.. ولكنه تجمد في جلسته وتعجل أن تتحرك السيارة من جديد!
ماذا بعد ذلك العمر الطويل؟.. كل شيء أصبح محلك سر.. في كل صباح يبحث عن الجديد ولا جديد.. يقرأ الجرائد ويتحسر علي الضعف وعلي جرائم الذين يقتلون والذين يسرقون والذين احترفوا أن يكونوا من الضحايا.. وبعد الجرائد يعود ثانية إلي النوم, فهو يتناسي أنه علي المعاش.. وأن الخروج من البيت لا يكون إلا في الحالات النادرة.. زيارة للمستشفي.. أيا كان سبب الزيارة.. مرض مفاجئ.. أو تحضير للولادة أو الولادة نفسها.. وسرعان ما تنقضي الحالات النادرة ليعود كل شيء إلي الرتابة والتكرار والقرف.. في يده أن يجعل سفره هذه المرة أكبر هروب بالنسبة له.. لا يعود ثانية.. يوافقون علي بقائه حتي الممات في المدينة التي شهدت مسقط رأسه كما يقولون.. والتي درس فيها الابتدائي والثانوي والجامعة.. وصادق البحر.. واستمتع بنهاره وليله.. ثم كان القرار الحقيقي في أن يترك كل شيء ليفخر فقط بأنه واحد من أبناء الإسكندرية حتي ولو ضاع في شوارع وأزقة القاهرة.. وبحث عن السمك في أسواق السيدة زينب والعتبة.. ثم عندما يأتي الليل يذهب للقاء الأصدقاء.. كما حدث في بداية هذه الليلة.. وكما فقد معظم حواسه.. فلم يسمع.. ولم ير.. ولم يحس..وكان أعظم ما فعله هو تجاهله للذي يناديه باسمه..وركوبه هذه السيارة..واستكانته لصوت العجلات وهي تنهب الطريق.. يعرف إلي أين.. ولكنه لا يعرف ماذا سيحدث.. هروب أم نزوة؟ عادت نشرة الأخبار في راديو السيارة.. ليعود ثانية الغل المكتوم والغضب الذي لا يجد المتنفس..شيء غامض كبير يداهمه..وأبدا.. ليس هو السفر..ليس الهروب الذي يريده ويتمناه..شيء غامض كبير.. كبير!
(2) كان يقول لنفسه إن ما تتميز به لا يمكن أن تحدده أنت بنفسك.. يجب أن يحدده الآخرون.. في أحيان كثيرة يتخيل أن جرس الباب يدق ويظهر شخص غريب ليقول له: مبروك.. ويقدم له شيكا بمبلغ كبير من المال لمناسبة لا يعرفها.. ولا يدق الباب.. وإذا دق ففاتورة الكهرباء أو الإيجار وفلوس المياه والبواب.. يبحث عن المفاتن في كل أنثي يراها.. لا يهم ما هو عمرها.. يسيل لعابه ثم يكتفي بالفرجة.. وإذا بحث عن مفاتن زوجته التي تسبقها صفات الماضي.. قالت له في برود: إحنا كبرنا.. تصبح علي خير!.. لابد أن يعرف سر ما حدث ويحدث في هذه الليلة.. أو علي الأدق في هذا الصباح.. فالصحراء غمرتها أضواء عاتية.. والمباني المتقاربة من الطريق بدأت في خنق أي خيال!بدأ ركاب السيارة يغادرونها بعد دفع الأجرة في أماكن متفرقة.. وهو مشدود إلي مقعده لا يعرف متي ينزل والي أين يذهب.. لو كان كل شيء مرتبا لعرف بالتحديد أين يترك السيارة.. فهو يحفظ معالم المدينة عن ظهر قلب.. ولكن المشكلة انه لم يتخذ القرار بعد.. هروب.. أم نزوة؟في النهاية توقفت السيارة في سيدي جابر.. لم يتبق في السيارة غيره وراكب آخر.. ومد السائق يده ليأخذ الأجرة وهو يردد: حمدا الله علي السلامة.. فنزل.. وبحث عن أقرب مقهي مفتوح.. وطلب كوب شاي.. وتذكر أنه جائع.. في هذا الموعد تكون زوجته قد غادرت البيت إلي عملها.. تري ماذا فعلت عندما عرفت أنه لم يعد إلي البيت في المساء.. الاحتمالات عندها كثيرة وسيخبرها بمكانه عندما يستقر به المقام.. كل صباح يعد فطوره بنفسه.. أكثر ما يحرص عليه هو كيس الفول المجمد في فريزر الثلاجة.. يتركه حتي يذوب الثلج وتتفتت أوصاله ويعده سواء بالزبدة أو بالزيت والليمون والطحينة.. لا يحفل بما تحتويه الثلاجة من أنواع الجبن ومن البيض.. فطوره هذا قاعدة أبدية تساعده علي بداية النهار.. أحيانا يكون هذا مبعث سعادته, وفي أحيان كثيرة يغالبه الشعور بأنه يحرم نفسه من مباهج الحياة.. قبل الإحالة إلي المعاش كان يسافر إلي أوروبا في فترات متقاربة.. تكون الأيام هناك للمباهج فقط.. يدخل في علاقات خاطفة مع فتيات قمة في الجمال والبساطة.. وفي كل مرة ينتهي كل شيء قبل وصوله إلي المطار ليأخذ الطائرة إلي القاهرة.. حقائبه مملوءة بالصور التي تجمعه مع تلك الفتيات وينتظر بعد عودته خطابات منهن علي العناوين التي يتركها لهن.. وعبر سنوات طويلة لم تصله أي خطابات.. ماذا يفعل بعد انتهائه من احتساء الشاي؟.. لن يذهب إلي شقة المصيف.. فهذا ليس لونا من ألوان الهروب.. ولن يذهب أيضا إلي بيت واحد من أشقائه.. يكفيهم ما هم فيه من متاعب.. ليضيف إليهم متاعب يسألون عنها ما دام قد أتي إليهم بتلك الصورة المفاجئة.. يذهب إلي قلعة قايتباي في قلب بحري والأنفوشي.. يأكل السمك عند قدورة وبعدها يفكر في المكان الذي سينام فيه.. لأنه لا يستطيع الهروب من قاعدة النوم بعد أكل السمك!
ركب الترام حتي آخر شارع التتويج, فقد زهق من سيارات الأجرة.. رأي شابين يتسابقان في الطريق ويتضاحكان.. فات وقت طويل منذ أن كان يضحك من قلبه.. أصبح بلا أصدقاء.. سواء هنا أو هناك.. الموت خطف الكثير منهم.. والباقون حالهم مثل حاله.. انشغال كاذب ورغبة دفينة في عدم اللقاء إلا في المناسبات التي أصبحت قليلة.. نلتقي؟.. نعم.. متي؟.. سأتصل بك ونتفق علي موعد.. ولا يحدث الاتصال ويضيع الموعد.. ماذا يحدث في العالم حتي يعود كل شيء كما كان؟ لابد أن يعترف بأن هذا العالم ليس عالمه وحده.. تتجدد الصداقات مع الكثيرين.. ابناه لهما أصدقاء.. ابنته لها صديقاتها.. ولا يمكن أن يتطفل علي تلك العلاقات.. هل هناك قوانين تقول إن الصداقات تأتي مرة واحدة؟ هل يذهب كما يقول إلي دار المسنين.. ليرغم في النهاية علي صداقات بحكم المعيشة في مكان واحد.. وظروف واحدة؟ يتذكر صديقه الذي كان يحادثه بعد منتصف الليل ويقول له: انزل سأفوت عليك بالسيارة.. ويسأله: هل نزولي ضروري؟.. ويرد- كما تعود دائما: مشكلة فيها حياتي أو موتي.. ويعرف بعد أن يلتقي به أنه واقع في قصة حب جديدة.. هو متزوج وهي متزوجة.. ولابد أن يتخلص كل منهما من الطرف الآخر حتي تتحقق سعادة الحب.. يظل صديقه يتكلم عن محبوبته الجديدة وعن صفاتها الخارقة وعن جمالها.. ويذرف الدموع التي لا يعرف ما إذا كانت حقيقية أم زائفة.. وآخر الليل يعود إلي بيته.. فإذا طلبه ليطمئن عليه.. وعلي قصة حبه.. يرد ببساطة: هو انت صدقت.. تجربة عابرة مثل بقية التجارب.. فالجميع عبيد خطر اسمه الطلاق.. ومصير الأولاد.. والنتيجة هي الاستسلام لقوانين الزواج القديمة جدا.. والجديدة جدا.. ولا مفر!يجلس في مواجهة البحر.. زوارق الصيد تتراقص فوق المياه المحيطة بالقلعة.. كم جلس في نفس المكان عبر سنوات بعيدة.. في أحيان كثيرة لم يكن وحده.. شريكة حياته قبل الزواج وبعده.. ومغامرات التمرد التي كانت تصل إلي حد الغليان.. ثم ينتابها البرود مثل حبات الفول في الفريزر.. أمواج البحر مازالت تتهدج بالحياة.. فماذا عنه هو؟.. لكم كان يتمني هذه الجلسة مع البحر.. ويعتقد وهو بعيد أن فيها كل الخلاص.. والآن.. أين الخلاص؟.. البحر أمامه.. والأفق يبدو في المدي البعيد.. ولا حل لكل ما يعتمل في وجدانه.. لماذا واجه صدمة فقدان حواسه.. لماذا استسلم للرحيل إلي هنا؟.. كان البحر في الزمن البعيد يجيب عن كل أسئلته.. والآن.. لا جواب!تردد قبل أن يذهب إلي المكان الذي سيأكل فيه السمك.. من الضروري أن يقرر إلي أين يذهب بعد ذلك.. وأين ينام؟.. تخيل أنه قريب من فراشه هناك ولكنه في الحقيقة بعيد عنه.. بعيد.. هل يشير لسيارة أجرة لتأخذه إلي محطة سيدي جابر ومنها بالقطار إلي حيث كانت البداية.. ستكون نزوة بدأت وانتهت في نفس الوقت.. عظيم أن يجد في تلك اللحظات من يحادثه.. يحاوره.. يسمعه.. مد يده إلي المحمول ثم تراجع.. سيجد نفسه في دوامة الكلمات المعادة.. والتبريرات الكاذبة.. كان صديقه يقول: يظل البني آدم حائرا بين الممكن وغير الممكن طوال حياته.. الممكن واقع يستطيع احتماله في مرات قليلة.. وبعدها يكون الإحساس بالمهانة وبالزيف.. أما غير الممكن فهو يشابه ما هو فيه الآن.. هل يخلع الحذاء ويلامس مياه البحر بأصابع قدميه؟.. هل يخوض البحر في هذا الوقت من الشتاء؟.. ماذا سيقول عنه الناس.. ربما يقولون مجنون.. وربما يتهمونه بأنه يريد التخلص من الحياة.. تراجع عن فكرة خلع الحذاء.. عليه الآن أن يترك المكان.. ليس من المفروض أن تكون وجبته هذه المرة من السمك.. يستطيع تناول أي شيء آخر.. حدث كل شيء سريعا أمامه فوق الرصيف.. امرأة بملابس النوم تجري مهرولة, مستغيثة, ورجل يجري وراءها وفي يده قضيب صلب.. لحق الرجل بالمرأة ورغم صراخها انهال عليها ضربا فوق رأسها.. وسرعان ما تهاوت علي الأرض.. وقبل أن ينحني ليواصل ضرباته.. تدخل أكثر من رجل لسحبه بعيدا.. وتعالت الأصوات.. هاتوا الإسعاف.. فين البوليس؟.. لو بقي أكثر من ذلك لتورط في حكاية الشهادة التي لا أول لها ولا آخر.. هناك شهود كثيرون غيره.. وهو لا يريد أن يمضي بقية اليوم في قسم الشرطة وربما طلبوا عنوانه.. فأي عنوان يعطيه لهم.. هنا أم في القاهرة؟تري ما هي حكاية هذه المرأة مع ذلك الرجل؟.. انتقام أم اكتشاف خيانة؟ تتهادي خطواته نحو المنشية وقد نسي الأكل تماما.. هل يكتفي بما رآه ويعود أدراجه وليذهب كل شيء إلي الشيطان.. كل ما يقدر عليه الآن هو مواصلة الضياع دون أي داع للضياع.. أو للنزوة.. أو للهروب.. لماذا يضيع, ولماذا النزوة ولماذا الهروب؟ رجل ناضج مثله أو علي الأقل مفروض أن يكون ناضجا. كان لابد ألا يقدم علي ما فعله دون تفكير, ودون ترتيب.. يخشي أن تكون بداية لاختلال العقل.. أو بداية لأمراض الشيخوخة التي يتجاهل مظاهرها بعد أن أصبح- رغم كل شيء- شبه وحيد في هذه الدنيا.. هم يقولون: يكفيك ما حققت.. وهو يرد: هل تعنون أنها النهاية.. يخاف فعلا من تلك النهاية.. ويخاف أكثر من الكيفية التي ستكون عليها النهاية.. أطلق صفارة وهمية يسمعها وحده كما تعود دائما.. ويقول لنفسه مع إنذار الخطر:لابد أن تفيق..تعرف من أنت؟.. وماذا تفعل.. وما يجب أن يكون..؟حاول.. ولكنه تردي من جديد في المجهول!!
البقية الاسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.