ثمة شخص ما هنا اليوم..قالت لنفسها مبتسمة حين رأت سيارة صغيرة أمام باب الحديقة. تأتي لتجري ساعة في الصباح الباكر من كل يوم. ليس لزيادة في وزنها, ولا لنصائح الأطباء, هي رأت حاكم المدينة علي شاشة التليفزيون يقول إنهم خصصوا حديقة كبيرة خارج البلدة, فيها يمكن أن يتنفس الناس هواء نظيفا أكثر من أي حديقة أخري. وكأنه كان علي موعد معها, يحدث لها كثيرا أن تذهب إلي أماكن بعيدة لا تتوقع فيها أحدا, فتجلس ويلفها شعور أنه ليس في الدنيا غيرها. تصفو روحها من كل كدر, وكأن الحاكم أيضا كان يعرف بسفر زوجها بعد أيام قليلة إلي أوروبا. وكيف سيغيب طويلا. الحديقة كما رأتها علي شاشة التليفزيون كبيرة, ومفتوحة علي الشمس, وقبل أن تأتي تخيلت حول الحديقة أرضا ممتدة من الثلج الذي يهبط في الشتاء, رغم أن الوقت ليس شتاء, أدركت أنها تحلم بالثلج, وأنها قررت ألا تنتظر قدومه. هي تحبه لأن زوجها يحدثها عنه كثيرا بعد عودته من رحلاته الأوروبية, رغم أنه لم يصحبها معه في رحلة واحدة, وكلما دعاها إلي ذلك أرجأت قبول الدعوة, وهو بدوره لا يكرر الدعوة أكثر من مرة. لم تشعر أبدا بضيق. هو يعود سعيدا وهذا يكفي. لم تتضايق حتي من عمله بالصحافة والاعلام. ليس عمله هو السبب. إنما قدرته وتميزه هو الذي لم يتجاوز الأربعين. إنه يعود اليها بشوق عارم, هي التي لم تتجاوز الثلاثين. حين تبتسمين تتحرك الأشياء يقول لها, ويحدثها عن بسمتها وطلة وجهها البريء من كل مكان هناك, يلثم كل مكان فاها, ويقول إنها لم تفارقه في أي بلد. في الفضاء أو الشوارع أو عربات المترو. هي بدورها صارت تراه حولها في غيابه, بل ورأت نفسها تمشي معه في كل المدن. تدخل الحديقة منتشية. ليس لأن أحدا بها, لكن لأنها تعشق الخلاء. بالليل فقط بعد أن تنام طفلتها تشعر بالوحدة. تدخل علي الفيس بوك تعلق علي مايكتبه الأصدقاء علي صفحاتهم, تقرأ تعليقاتهم علي ما تكتبه, وتدرك أنها علاقات في الفضاء, ولا تفكر أبدا أن تجعل منها حقيقة, ما أجمل الناس حين يكونون معك ولا تراهم, تقول لنفسها. لا تشعر بالوحدة إلا بين الجدران. هذا الفيس بوك مثل حديقة من الأشباح الأثيرية. هي إذن فيه في الخلاء. تدخل الحديقة منتشية كما تفعل كل يوم, ألا تبادل من بها الحديث. ولو أسعدها الحظ ينصرف من بها إلي قبلها. هكذا في صمت, فلا تعرف من أين أتي ولا إلي أين ذهب. الناس ظلال يولدون ليموتوا, إذن فليكونوا كذلك في الحياة, يظهرون ليختفوا وتنعم وحدها بالخلاء. دخلت من باب الحديقة مسرعة ترتدي التريننج سوت السماوي اللون. الحديقة صغيرة. هي تعرف ذلك حقا, لكنها تراها كبيرة كل يوم, واسعة تمتد إلي نهاية النظر. لم يكن بها غير رجل واحد يمشي علي مهل, علي الممشي المخصص لذلك, بين الأشجار التي تحيط بالحديقة ومقاعدها. الممشي ليس واسعا. لا يزيد علي مترين ويدور مع الحديقة. ماذا تفعل الآن؟ يمكن جدا أن تلحق به. يمكن جدا أن يكون قريبا منها في لحظة, هي التي جاءت لتجري. إذا تكلم ستكتفي بالابتسام. لا تظن أن رجلا مثله يمكن أن يلح عليها في الكلام. بدا لها من بعيد لا يقل عمره عن ستين عاما. شعره أبيض كثيف, ويرتدي بنطلونا فوقه قميص فوقه بلوفر. هل يشعر والجو صيف؟ لابد أنه العمر. كونه لا يرتدي تريننج سوت أو أي ملابس رياضية يعني أنه جاء لينفرد بنفسه, يفكر أو يتأمل. ترددت قليلا ثم مشت. تعمدت ألا تسرع ليظل أمامها. عجيب أمر الشمس. كأنها تركزت عليه وحده تكاد تشعله وسط الخضرة. دارت دورتين وهو لايزال أمامها. في الثالثة أسرعت قليلا, تجاوزته متعمدة الحذر من أن تلمسه. لكنها حين صارت في الجهة المقابلة التفتت إليه, فوجدته توقف ينظر اليها. رأت عينيه, رغم المسافة والضوء بينهما, خضراوين, ورأت وجهه الأبيض مشربا بحمرة, ورأت أيضا تجاعيد قليلة علي رقبته وجبهته, ابتسمت, لا يمكن أن تجيد النظر إلي هذا الحد, وقد يكون هذا كله من فعل الضوء. لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الالتفات إليه أكثر من مرة, رغم أنها وهي تدور في الممشي تتجاوزه كل مرة دون كلام, صارت تجري الآن بسرعة أكبر. سمعته يقول لها صباح الخير ولم ترد, وعلي الناحية الأخري التفتت كما صارت تفعل فوجدته لم يعد يمشي علي مهل. لقد أسرع قليلا هذه المرة. (2) لم يكن لليلة أن تمر دون أن تتذكر كيف وقف الرجل الكهل ينظر إليها من الناحية الأخري, وكيف أنها لم ترد تحيته, ولم يكررها. قررت إذا قابلته في الغد أن ترد التحية ولا تزيد. سيسعدها الحظ ولا يذهب إلي الحديقة أحد آخر. ولن تزيد في الكلام معه حتي يقلع عن الحضور, فيختفي كما تختفي الظلال, وتتأكد أنها موصولة بأسرار السماء. هذه الأسرار التي لا تفهمها, والتي جعلتها تذرف دمعة هذه الليلة حين تذكرت الرجل الذي ظهر لها في الشتاء الماضي, حين قررت أن تمارس حبها للخلاء, وذهبت حيث لا شيء إلا سحب سوداء وأمواج متسارعة إلي الشاطيء, وبرد يكاد يذيبها وهي تدخل في بعضها تحت البالطو. كانت تعرف أنها لن تجد أحدا هناك فوق الشاطيء, وليس فوق الموج غير طيور النورس. وطالت جلستها علي حجر صغير بين الرمال. رأسها بين ركبتيها تحيطه بذراعيها. وفي اللحظة التي قررت أن ترفع رأسها قليلا وجدته يقف أمامها يمد لها يده. لم تستطع إلا أن تمد له يدها, فجذبها بهدوء ووقفت, وفي اللحظة التي أحاطها بذراعيه كانت هي قد دخلت إلي صدره. راح بحنو نسيته منذ طفولتها يمشي علي ظهرها بيديه, ويقبل شعرها الذي صار يطير في كل اتجاه, بعد أن سقط عن رأسها غطاؤه, وقبل جبينها وعينيها المغمضتين وشفتيها اللتين جعلتهما مزمومتين, ثم رفع كفيها إلي شفتيه وراح يقبل أناملها. ظلت يداها مفتوحتين لكنه لم يعد أمامها حين فتحت عينيها. كان يتراجع ودموع تترقرق في عينيه. هي رأت عينيه ولم تر وجهه. قبل أن تصرخ تناديه داهمها الموج عاليا, فتراجعت في ذعر, ولم يعد هنالك أحد أمامها, كأنما حملته غيمة سوداء في الفضاء. تركت يومها الشاطئ علي عجل. وفي البيت شملها الخوف, فدخلت إلي سريرها وشدت الغطاء فوقها, وراحت ترتعش حتي نامت, وقد قررت ألا تذهب إلي هذا الشاطئ بعد ذلك أبدا. تاقت الليلة إلي هذا الرجل السراب. وفي الصباح ذهبت إلي الحديقة فرأت الرجل كما هو يمشي فوق الممشي, لكن سريعا أكثر مما بدا لها أمس. قبل أن تنصرف ابتسمت. ملابسه اليوم مختلفة ألوانها, تميل إلي الأبيض والأزرق, ولاحظت أنه لم يعد يرتدي بلوفر فوق القميص, وأن في قدميه كوتش أبيض. أدركت أنه كان يرتدي أمس كوتش أسود. مشت خلفه بسرعة, وهو لم يلتفت, ولم يبد أنه شعر بها. ولما صارت في الناحية الأخري كان هو قد عاد إلي مكانه الأول الذي رأته فيه حين بدأت. إذن هو يسرع أكثر. لا تعرف لماذا التفتت إليه. ورأت وجهه أكثر اشراقا. وفجأة توقف وأشار لها بذراعه يحييها. وعاد أسرع في المشي, وهي بدورها أسرعت. إذن هو يتكلم اليوم. ولن يتكلم بعد ذلك أبدا. لقد خذلته اليوم أيضا ولم ترفع ذراعها ترد التحية. رأته يسرع أمامها. صار بين المشي والجري. تعمدت هي أن تبطئ, ستدور ويتجاوزها إذن, وبالفعل دار وجاء من خلفها وتجاوزها. صار أمامها من جديد. وما أن ابتعد قليلا حتي أبطأت أكثر. إلا أنه فجأة استدار يمشي في الاتجاه الآخر. سيقابلها وجها لوجه. هل تستدير فيصبح خلفها؟ لكن ماذا يعني هذا إذا فعلته؟ فلتظل كما هي. اقترب منها وتوقعت أن يتكلم معها, إلا أنه عبرها ولم تسمع إلا أنفاسه. تحقق لها بالفعل أن عينيه خضراوان, لكن لم يتحقق لها وجود أي تجاعيد في وجهه. هي الأضواء إذن التي فعلت بوجهه ذلك حين رأته أمس من بعيد. ربما!! أو أن هذا ما توقعته من رجل في مثل عمره. ابتسمت وأسرعت الآن, وعلي الناحية الأخري التفتت لتراه يترك الممشي, ويجلس علي أقرب مقعد مركزا عينيه نحوها موليا وجهه إليها مبتسما لا تنتهي ابتسامته. تغافلت عنه وظلت تدور علي الممشي, وتوقعت أن يلتفت إليها في اللحظة التي تعبر فيها من خلفه, لكنه لم يفعل وظل ينظر إلي الناحية الأخري, حتي إذا وصلت إليها رآها. وطال الوقت, هي ظلت تجري, وهو لا يترك مقعده, حتي إذا قررت مغادرة الحديقة, رأته يقف ويعود إلي الممشي. يجري هذه المرة منذ البداية. (3) أنفقت أول الليل تشتري أكثر من كوتش زاهية ألوانه, وأكثر من تريننج سوت وعطور, وما أكثر ما لديها من عطور. في البيت أنفقت وقتا طويلا في البانيو بين الماء الدافق والشامبوهات المعطرة. طلت أظافرها وهي تري رجل الشاطئ يقبل أناملها. لم تظفر منها دمعة هذه الليلة, بل ابتهجت ونامت قريرة العين بعد أن أطلت علي ابنتها النائمة وقبلتها. في الصباح ذهبت إلي الحديقة طائرة كالفراشة. حين رأت سيارته ضحكت. لم تترك سيارتها في المكان الذي اختارته من قبل بعيدا عن سيارته. اقتربت من سيارته وتركت سيارتها وشمت رائحة بخور جاوي تملأ المكان, كأنها تأتي من سيارته المغلقة. كانت الشمس متألقة هذا اليوم, وكان هو يجري فوق الممشي مرتديا تريننج سوت أبيض مشرقا تقطعه خطوط زرقاء لازوردية. ما الذي يحدث لهذا الرجل؟ وهل إذا كلمها اليوم تكلمه؟ فكرت أن تخالف ما تحبه, وتميل إليه, وأن تمسك بملامحه كاملة, وأن تكلمه فتكتمل الملامح. فكرت أن تجري من الناحية المقابلة لتقابله وجها لوجه في أسرع وقت. لكنها قررت أن تترك له الحرية أن يفعل هذا إذا أراد. جرت خلفه مقررة حتي ألا تتجاوزه. دارت أكثر من دورة وهو أمامها لا يلتفت ولا يستدير. أحست بالضيق بحاجة حقا إلي أن تكلمه اليوم, رغم ما تسره لنفسها بغير ذلك, ورأته يترك الممشي ويجلس علي المقعد الذي يجلس عليه كل يوم ولا يغيره. وأحست بعينيه تخترقان التريننج سوت فوقها وهي تجري. ولما صارت قريبة منه وقف وقال: كلمة واحدة. هل تسمحين بها؟ كانت قد ابتعدت وواصلت الجري حتي عادت إليه وهو يدور واقفا في مكانه معها. توقفت تجري في محلها قال: هل سبق لي أن رأيتك من قبل؟ ابتسمت وهزت رأسها وواصلت الجري, وهو عاد يجلس. ولما صارت علي الناحية المقابلة, رأته وقد وضع رأسه بين يديه ينظر إلي أسفل ويفكر بعمق. وظلت تجري حتي إذا اقتربت منه كان يقف من جديد, ويشير إليها أن تتوقف. وتوقفت تجري في محلها مرة أخري فقال: أرجوك لا تغيبي عن الحديقة. قال ذلك وهو ينظر إليها شاردا بعمق. واستمرت تجري بينما أخذ هو طريقه خارجا. بعد قليل غادرت الحديقة. وحين اقتربت من سيارته التي تقف وحدها, كانت رائحة البخور الجاوي لاتزال تملأ الفضاء, ولدهشتها بعد ان دخلت سيارتها كانت رائحة البخور أيضا تملأها. حملتها رائحة البخور إلي العصور الوسطي, حيث يقف الفرسان تحت نوافذ الحبيبات ينتظرون طلة واحدة. ثم فكرت فجأة كيف حقا امتلأت العربة برائحة البخور, وهي لم تترك فيها شيئا من قبل؟ بالليل أمضت وقتا طويلا في الحديث مع زوجها عبر الإنترنت. كانت تتكلم ولا تكف عن الضحك. كانت تود أن تحكي له عن هذا الرجل الذي قابلته في الحديقة, وكيف بدا لها ظريفا وهو يطلب منها ألا تغيب عنها. سألها زوجها عن أشياء يشتريها لها, ولم تطلب منه أي شيء. ولما سألها لماذا لم تذهب لتمضي أيام غيابه مع أهلها كما تعودت, قالت أنها قررت ألا تترك بيتها هذه المرة. هناك تتذكر أنه بعيد. هنا يمكن أن ينفتح الباب في أي لحظة ويأتي. وبدوره كان سعيدا للغاية علي الناحية الأخري, وبدورها نامت سعيدة بعد أن قررت ألا تذهب إلي الحديقة غدا. فالغد يوم الجمعة, أجازة, وربما تمتلئ الحديقة بالناس, كما أن طفلتها تعودت أن تقضي هذا اليوم بين جدها وجدتها. بين العائلة لم يسألها أحد عن زوجها. ملأت الطفلة البيت بالبهجة. وبالليل فكرت أن تغيب عن الحديقة يوما آخر. أحست أن غياب زوجها قد طال هذه المرة, إلا أنها دون أن تدري اتجهت إلي الحمام, واستحمت, وتعطرت, وقررت الذهاب. لماذا حقا تسرع بسيارتها اليوم. تضحك ولا تعرف إجابة. وصلت أسرع من كل يوم, وعلي باب الحديقة لم تر سيارته الصغيرة, وإن كانت رائحة البخور الجاوي لا تزال تملأ الفضاء. لعله جاء مبكرا وانصرف. دخلت الحديقة تمشي علي مهل فوق الممشي, وما أن انتهت من دورته حتي بدأت في الجري. مضت ساعة أو أكثر قليلا, فجلست علي المقعد تستريح. رأت شابا وفتاة يدخلان إلي الحديقة بينهما عجوز يرتدي بدلة كاملة سوداء واسعة. رأتهم يقفون في أول الحديقة وهو يشير اليهما إلي مقعد بعيد يقابلها علي الناحية الأخري. المقعد الذي تعود الرجل الذي رأته من قبل أن يجلس عليه. كانا يختلفان ويحتدان في الحديث. تري أذرعهم تتحرك ولا تسمع أصواتهما. يشيران إليه أن يجلس حيث يقفان وهو مصر علي المقعد البعيد. في النهاية أسنداه حتي جلس علي المقعد الذي اختاره. رأته يشير اليهما بالانصراف, وقفت الفتاة قليلا تنظر نحوها ثم تقدمت إليها: الحمد لله أني وجدتك هنا. هل تعرفينني؟! لا, لمن أقصد وجدت أحدا في الحديقة. أخي تركني كما رأيت, وهذا أبي يصمم أن أتركه أيضا. إنه متعب جدا, أصر أن يأتي إلي هنا اليوم, هو يقول لنا أن نعود آخر النهار لكننا سنعود بعد ساعة. هل ستبقين هنا هذه الساعة؟ ربما. ليتك تبقين, لأننا نخشي أن يحدث له مكروه في غيابنا. أجل. أبي هذا أمره غريب. خرج يوما في الشتاء الماضي إلي الشاطي. إنه في الخمسين من عمره, لقد حذرناه ذلك اليوم, فقال كلاما غريبا معناه أن أحدا يناديه. عاد من هناك مصابا ببرد شديد, وعاد أيضا كأنما هو شاب في العشرين. صار أقوي منا وصار يخرج الي الشاطئ في الشتاء كل يوم لكن يعود حزينا, وتظهر عليه الشيخوخة يوما بعد يوم. لم يعرف أحد سببا لذلك. نصحه الأطباء بالتريض في الحديقة. عاد إلينا الأيام الثلاثة الماضية سعيدا يزداد قوة كل يوم؟ يهتف ويقول شهر واحد وسأعود في العشرين من عمري. أي والله ونحن نضحك. لكنه أمس عاد صامتا. دخل حجرته ولم يكلم أحدا. في الصباح وجدناه هكذا كأنه في الثمانين, ويصمم أن يأتي إلي الحديقة. وكما رأينا يصمم أن نتركه. أرجوك أن تبقي ساعة حتي نعود, فإذا حدث له مكروه تخبرينا. كانت هي تنظر إليها في دهشة, وتتسع عيناها في ذهول ازداد بعد أن انصرفت البنت, دون أن تترك لها أي وسيلة اتصال. انكمشت في مكانها. سمعت أصوات الموج علي الشاطئ, والهواء البارد يكاد يذيبها, ورأت طيور النورس قليلة تحلق فوق الماء في تعب. شملها الخوف يتمدد في صدرها وقررت أن تترك المكان. لكنها رأته من بعيد ينظر إليها. طال تحديق كل منهما للآخر. واتسعت بها الحديقة ورأته يأتي من بعيد وحده في الفضاء يمشي بإصرار إليها, وطال جمودها في مكانها, وطال مشيه إليها, حتي وجدته واقفا أمامها يكاد يقع. وقفت بسرعة تمسك بيديه اللتين أمسك بهما بيديه المرتعشتين. كانتا باردتين جدا كأنه علي الشاطئ في الشتاء. أجلسته جوارها بعد أن رأت قدميه يرتعشان, وحدق كل منهما في الآخر دون كلام. سقطت دمعة من عينيه وأمسكت نفسها بقوة أن تنفجر في البكاء. لكن دموعها ترقرقت. مد أنامله المرتعشة يمسح دمعها. قالت: ماذا تفعل؟ أنا لا أبكي. كادت تقف فأمسك بيديها وراح ينظر في أناملها ويقبلها واحدة بعد أخري. للحظة شملها الرعب إلا إنه رفع وجهه إليها. وجدت وجهه يشرق وعينيه تتألقان بالاتساع. تركته يقبل يديها أكثر من مرة ثم رفع رأسه إليها وقال: لماذا لم تأت أمس؟ لم ترد. خلع الجاكت الثقيل الواسع ووضعه خلفه فقالت: ماذا ستفعل؟ قال بهدوء: لا تخافي مني. سأنهض لأمشي. ولن يمر اليوم إلا وأنا أجري علي الممشي. المهم أن تبقي معي. ومد يديه حول وجهها الذي جذبه إلي صدره, وراح يقبل رأسها وكانت تبكي في صدره وتقول: لن أتركك أبدا بعد اليوم.. -------------------------------------- صدرت للكاتب عدة روايات هي: لاأحد ينام في الإسكندرية, طيور العنبر, بيت الياسمين, البلدة الاخري, المسافات, الصياد واليمام, في كل أسبوع يوم جمعه. حصل علي جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الامريكية عام.6991 وجائزة التفوق عام4002. وجائزة الدولة التقديرية في الاداب عام8002.