كنت محظوظا فى طفولتى حيث وقعت على كتاب قصص أطفال اسمه «عشر دقائق مع الأحداث». كان يحكى قصصا قصيرة جدا وببلاغة شديدة، وأسعدنى أن أكتشف طبعات حديثة منه. المهم، كانت إحدى هذه القصص تحكى عن صانع الكمان الإيطالى «أنتونى ستراديفاروس»، وكيف أن كل ما لمسته يداه من أخشاب قد تحول إلى ذهب، وربما حتى أكثر بكثير من الذهب. فمثلا صنع أنتونى كمانا فى عام 1720 عرف بإسم مالكته ليدى بلانت، واشترته مؤسسة نيبون للموسيقى باليابان فى عام 2008، ولكن المؤسسة الثقافية إيمانا منها أن لها دورا فى الجحتمع يتعدى الغناء وعزف الموسيقى، قررت بيع «كمان ليدى بلانت» فى مزاد علنى لتسهم بقيمته فى تعويض المصابين فى زلزال اليابان وإعصار تسونامى عام 2011. بيع الكمان بمبلغ يزيد على 14 مليون دولار أمريكى، تعادل حوالى مائة مليون جنيه مصرى تم التبرع بها بالكامل لضحايا الزلزال. يعنى بالعربى كده «كمانجه بميت مليون». وقد جاء إلى القاهرة الأسبوع الماضى عازف الكمان العالمى «حيدون كريمر» وهو خبر هام تداولته بعض المواقع الإخبارية على استحياء، ولكن الخبر الأهم والذى لم يذكره أحد (على قدر معلوماتى) سوى بوابة الأهرام الإنجليزية هو أنه كان يعزف على كمان ستراديفاروس. ولكن ما هو سر هذا الصانع؟ يقولون إنه أبدع فى تكوين الفراغات وفى التحكم فى تدرج سمك الخشب المكون لصندوق الكمان، ويقولون إنه كان يستعمل نوعا نادرا من الأخشاب تكون فى العصر الجليدى الثانى فى أوروبا، ويقولون أنه كان يستعمل أخشابا ذات كثافة عاليه جاءت خصيصا من أوكرانيا، ويقولون ويبحثون ويتكلمون. ولكن ما قرأته فى كتاب العشر دقائق كان يتفوق على كل هذه التحليلات العلمية المعقدة. جاء فى الكتاب (وهو ما أذكره منذ حوالى أربعين عاما) أن أنتونى ستراديفاروس كان يحب عمله، وأن الحب هو أقوى دافع للإتقان والإبداع. ولم أصدق عينى حين خطوت داخل مدرسة الفنون فى زاكوبانى فى جنوب بولندا، فبالرغم من أن الأعمال الخشبيه تتطلب قوة بدنية وبالرغم من أن ستراديفاروس كان رجلا، فإن معظم الدارسين فى قسم صناعة الكمان كن فتيات. سألت كاتارجينا كلوسكا عما دفعها لاختيار أعمال شاقة كهذه، فقالت إنها تحب الكمان وتعزفه مع أسرتها المشهورة بالموسيقى الفلكلورية فى جبال تاترا القريبة. وأضافت أنها تريد أن تفعل شيئا مختلفا عن الذهاب لمدرسة ثانوية عادية . وأضافت أن الكثيرين الذين لا يعرفون شيئا يظنون أن صنع الكمان هو لا شئ وأن الصانع هو نجار من مستوى أرقى قليلا عن نجار الموبيليا، ولكن الموضوع يختلف تماما، فهناك حرفيون يصنعون الكمان وكأنه كرسى وهناك محترفون هواة يحبون عملهم، وأنا أحب أن أتعب حتى أحصل فى النهاية على شئ أحبه. شئ يستطيع أن يثير بداخلى مشاعر الأسى لو أخطأت فيه. أن فنى هذا أصعب من الفنون الأخرى التى يمكنك فيها إصلاح خطئك كالرسم مثلا. وأخيرا سألتها عما وجدته فى سترادبفاريوس وتريد تقليده؟ فأجابت كما يجيب الفنان الحقيقى: كل شئ وأن كنت لا أعرف بالظبط. وتدخل أستاذها ليحيب أن ذلك سؤال صعب للغاية وأن كان يذكر حين كان يدرس فإن زميلته قالت أن ستراديفاروس كان يعمل الكثير من التفاصيل فى الآلة الموسيقية وجميعها كانت متقنة للغاية واسترسل فى حديثه قائلا: بالمناسبة، أنتم فى مصر اخترعتم الكمان والناى والهارب فى أدواتكم الموسيقية الفرعونية ونشرتموها فى العالم بما فيه المغرب العربى؟ نظرت له مندهشا، فقال بلغة عربية ركيكه : «الربابة» وانطلق مقلدا صوت الربابة فضحكنا وسألته: هل تعرف أن لدينا الكثير من التكفيريين يريدون تحطيم آثار الفراعنة؟ فقهقه صائحا: شِيوعيين.