في مثل هذه الأيام من كل عام يتسلل البرد الى ساعات نهارنا وليلنا فنبحث عن مكان دافئ لنحتمى فيه. كما أننا نشتاق أكثر لصحبة حميمة تجمعنا مع الأهل والأصدقاء في مواجهاتنا لتقلبات الزمن وتبدلات البشر. صحبة نتوانس بها ونسترجع معها ذكرياتنا الجميلة وفيها أيضا نسرد أحلامنا الحلوة. صحبة تحضننا وتحتوينا وتحمينا من صدمات الحاضر ومفاجأت المستقبل. الا أننا أحيانا قد نلجأ بل يجب أن نلجأ الى الوحدة لعلها تسحبنا ولو لفترة قصيرة من ضجيج الحياة ومشاغلها .. وتنقذنا ولو لفترة وجيزة أيضا من «هوسة» البشر و»خنقة كلامهم». والأهم أن هذه الوحدة (ولو كانت لفترات لا تطول) تعطينا فرصة لا تعوض للتمهل والتأمل معا .. وأيضا التأهل ليوم آخر وأيام أخرى أكثر صدقا مع النفس وبالتالي أكثر فهما لنفسك وأكثر تفهما للآخرين. ومنذ أيام كانت الصحبة بالنسبة لي وكان التمهل في وتيرة الحياة وتأمل تفاصيلها مع «حبات الرمان» و»حكواتي لم يتوقف عن سرد حواديته وحواديتنا لخلق الله أينما كانوا .. وأينما كنا». خلال أيام قليلة يتم الاعلان عن الفائز بجائزة الكتاب الوطني الأمريكي لأحسن رواية لهذا العام. وما يلفت الانتباه أن واحدة من الروايات الخمسة المرشحة لهذه الجائزة ذات القيمة الأدبية العالية والمصداقية الكبيرة هي رواية «امراة لا لزوم لها» للروائي الأمريكي اللبناني ربيع علم الدين. وسواء قمنا بتسمية الرواية «امراة غير ضرورية» أو «امراة لا لزوم لها» فان الترجمة الأسبانية لهذه الرواية اختارت لها عنوانا مختلفا «امراة من ورق» ربما وصفا لحالة بطلتها أو توصيفنا نحن لها أو قراءتنا نحن لحياتها ولتوحدها مع الكتب وصحبة الأوراق. وهذه الرواية تحكي حياة امراة تدعى «عالية صالح» تعيش بمفردها في شقتها ببيروت محاطة ومحاصرة بتلال من الكتب. عالية الوحيدة (كما توصف) «بلا رب وبلا أب وبلا أطفال .. ومطلقة». عالية تعيش حياتها وتجدها من خلال الكتب. وهي راوية الرواية ومن حكيها وسردها نعرف أنها في العقد السابع من عمرها ولون شعرها «أزرق» ومنذ سنوات طويلة لم تغادر شقتها في بيروت وقضت حياتها في القراءة المتواصلة لكتب وروايات وهي عاشت وعايشت هذه الكتب والكتاب ووكما نقول «التهمت» كلماتهم وعوالمهم. كما أنها قررت مع نفسها أن أفضل كتاب تقرأه خلال العام تقوم بترجمته الى العربية. وأوراق هذه الترجمات لم تنشر ومتواجدة مخزونة في صناديق في غرفة بالشقة. وأن هناك 37 كتابا قامت عالية بترجمتها الى العربية لم يقرأها أحد لأنها لم تنشر. ان هذه الرواية هي بيروت الذكريات والأحلام والآلام. كم أنها الحرب الأهلية اللبنانية الغائب والحاضر أبدا كما أنها آفاق وعوالم الابداع العالمي من الأدب والموسيقى والخيال والألوان .. معهم وبهم تعيش عالية وتقرأ وتحلم وتحبط وتحزن.. وتحكي لنا. وهى التي تصف بيروت في لحظة ما بأنها «اليزابيت تايلور المدن» .. «متهورة وجميلة ومبتذلة ومحطمة وتتقدم في العمر ودائما حياتها مليئة بالدراما. كما أنها دائما تتزوج أي عاشق مفتون بها والذي يعدها بأنه سيجعل حياتها أكثر راحة .. ولا يهم ان كان غير مناسبا لها». ونقرأ في بداية الرواية (320 صفحة) مقولة الكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا «من قريتي أرى من الكون ما تستطيع أن تراه من الأرض كله. وبالتالي قريتي كبيرة مثل أى أرض آخر. وحجمي يقاس بما أراه وليس بقياس طول قامتي». ومنذ سنوات قليلة مضت وتحديدا بعد عام 2008 صار ربيع علم الدين اسما معروفا في الأوساط الأمريكية والعالمية بروايته «الحكواتي» ( واسمها هكذا في الرواية الأصلية مكتوبا بحروف لاتينية). والروائي اللبناني ربيع علم الدين' ولد في الأردن عام 1956 من أبوين لبنانيين من أصول درزية وعاش سنوات صباه بين الكويت ولبنان، وعندما إندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 إنتقل إلى إنجلترّا للدراسة بها، ثم بعد ذلك إنتقل ليتابع دراسته في كاليفورنيا حيث حصل على الماجستير في إدارة الاعمال، وعلى بكالوريوس هندسة. وبجانب الكتابة فانه فنان تشكيلي طل بأعماله في معارض فنية. ويرى الكاتب اللبناني سمير عطا الله أن علم الدين في «الحكواتي» ..» يلعب لعبة أمين معلوف في التوليف. يعود الى آنفاق الشرق وأقبيته العتيقة لينقل منها الحكايات الغابرة ويقدمها الى القارئ الحديث. وكما فعل غيره من قبل يتوقف طويلا عند أطباق الشهد في «ألف ليلة وليلة». وبالتأكيد انها دائما التوليفة البشرية والسبيكة الانسانية التي نبحث عنها ونلجأ اليها كلما تهنا في دروب الحياة أو سرنا فيها أكثر. كاتب «سمرقند» اللبناني الفرنسي أمين معلوف يقدم روايته «التائهون» قائلا: في «التائهون» أستلهم فترة شبابي بتصرف شديد. فقد عشتُ تلك الفترة مع أصدقاء كانوا يؤمنون بعالم أفضل. ومع أنَّ لا شبه بين أبطال هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين، فهم ليسوا من نسج الخيال تماماً. فلقد نهلتُ من معين أحلامي واستيهاماتي وحسراتي بقدر ما نهلتُ من معين ذكرياتي». ثم يضيف: «كان أبطال هذه الرواية متلازمين في شبابهم ثم تشتَّتوا ودبَّ بينهم الخصام وفرّقتهم الأيام، وسيجتمع شملهم بمناسبة وفاة أحدهم. بعضهم أبى أن يغادر وطنه الأم، وبعضهم الآخر هاجر إلى الولاياتالمتحدة، أو البرازيل، أو فرنسا، وأخذتهم الدروب التي سلكوها في اتجاهات مختلفة. فماذا يجمع بعد بين صاحبة الفندق المتحرِّرة، أو المقاول الذي جمع ثروة، أو الراهب الذي اعتزل العالم وانصرف إلى التأمل؟ بعض الذكريات المشتركة، وحنين لا برء منه للزمن الذي مضى» وسواء كان حديثنا عن بيسوا أو «ربيع علم الدين» أو «أمين معلوف» وغيرهم من التائهين أو الهائمين أو الحالمين فان هذا الحديث يأخذنا الي المخرج الأرمني العالمي سيرجى باراجانوف وتحفته الرائعة والخالدة فيلم « لون الرمان» الذي أخرجه عام 1968 مستلهما ومستوحيا مضمون الفيلم ومشاهده ورموزه من أبيات وحياة الشاعر والمغني الأرمني «سايات نوفا» في القرن الثامن عشر. وفي الفيلم مثلما في مخيلة الشاعر والمخرج وأيضا الانسان الأرمني نجد الرمان والحلم والذكرى والعشق والهيام والتحليق والألم والحزن والموت والحياة. وهذا الفيلم في نسخته الجديدة (التي تم ترميمها مؤخرا) تم عرضه في عدة مهرجانات خلال الأسابيع والشهور الماضية ومنها مؤخرا مهرجان أبو ظبي. وباراجانوف (1924 1990) الفنان العبقري اضطهد كثيرا وسيق الى السجن أيضا الا أنه لم يتوقف عن ابداعه المتنوع والثري. وزيارة لمتحف «باراجانوف» في يريفان عاصمة أرمينيا لهى متعة لا مثيل لها .. فهي جولة ثرية وسط مقتنياته وابداعاته ونحته وتشكيلاته الفنية والفوتوغرافية والفيلمية وأيضا تصميمه للملابس والقبعات للنساء. وفي كل هذا بالطبع نجد ونعايش التوليفة الانسانية التي عاشها باراجانوف بنفسه وبخياله وبحياته اليومية سواء كان حرا طليقا أم مسجونا وراء القضبان أو الجدران. ثم أليس ملفتا للأنظار ومثيرا للانتباه أن الرمان الثمرة وأيضا الرمز والمذاق والابداع عند شعوب المنطقة عبرت العصور وعبرت الحدود. وكم من أعمال فنية وأدبية لجأت الى الرمان الثمرة وحباتها لتبحث وتتأمل حالنا وحياتنا وتجد فيها الجمال والحلاوة والعشق والحب والخصوبة والعطاء .. والمرأة والبقاء. فالمخرجة الفلسطينية نجوى النجار أخرجت منذ سنوات قليلة فيلم اسمه «المر والرمان». كما أن الكاتب العراقي سنان أنطون (من مواليد 1967) كتب رواية بعنوان» وحدها شجرة الرمان» صدرت عام 2010. ولا شك أن سيرة الرمان تسري في عروقنا وفي أيامنا وليالينا وفي حكينا وسردنا لماضينا وحاضرنا وأيضا تبقى في الذاكرة أبدا . ونعم ثمرة الرمان قد تكون لها موسم الا أن سيرة الرمان تذكر في كل المواسم. وطالما نتذكر الرمان ونلتفت للمرأة التي أرادت أن تعيش وحدها مع الكتب والقراءة فاننا لا ننسى أبدا الذاكرة وعصارة الأيام وحكمة الكتب ونصائح الأولين وحواديتهم الشيقة «التى طيرت النوم من عنينا» ونذكر أيضا «قدرتنا ورغبتنا في أن نرى الكون كله ونعيش الحياة بطولها وعرضها» ونعم، قد نكون أيضا مع اختيار الوحدة أحيانا لكى نخرج من دوامة الحياة ونتحرر من ساقية المعتاد والمتكرر. وطالما انها وحدة اخترتها أنت بنفسك فلا تعتبرها «لعنة تطاردك» وبالتالي ليس عليك أن تلعنها، بل أعطي لهذه الوحدة موعدا .. مكانا وزمانا في حياتك. فالمطلوب أن تعرف متى ستسحب نفسك وتترك اللعبة ومتى ستبتعد عن الآخرين وتقترب أكثر من نفسك ومن ما تحبه وتريده وتسعى اليه ومن ما تبغي أن تضمه لحياتك وأيامك.. ولياليك. وأن تصبح حالما وهائما وتائها ووحيدا .. مع أوراق كتاب أو مع مشاهد فيلم.