إن القول بنسبية الجمال هو القول الشائع عند عموم الناس. فإن سألت أي واحد من عوام الناس عن الجمال، سيبادر على الفور بالقول بأن الجمال مسألة نسبية، وكأنه بذلك قد أفرغ كل ما في جعبته عن الجمال، فأراح واستراح! لا يعرف هذا المسكين أن الحكم على الجميل أو ما يُعرَف الآن «بالتلقي الجمالي» هو أمر كتب فيه الفلاسفة مئات الآلاف من الصفحات؛ لأن التلقي الجمالي ما هو إلا طرح جديد لموضوع تقليدي عتيق هو الخبرة الجمالية على مستوى التذوق الجمالي. وهذا الطرح الجديد يركز على فهم آليات عملية التلقي، أي يركز على العمليات المعرفية والشعورية التي تهدف إلى إدراك جماليات العمل الفني (وما يميز هذا الإدراك عن إدراك الجمال الطبيعي)؛ ومن ثم يركز على دور القارئ أو المتلقي الذي ظل غائبًا عن النظريات التقليدية التي تُعنى في المقام الأول بخبرة المُبدع، وبتحليل العمل الفني وفهم طبيعة بنيته، بمنأى عن دور المتلقي. وعندما نتحدث عن «شروط» للتلقي الجمالي، فإن هذا يعني ضمنًا إنكار تلك المقولة الساذجة التي غالبًا ما يرددها عامة الناس، وهي «لا مناقشة في الذوق»، أي القول بأن الذوق أو التفضيل الجمالي مسألة نسبية؛ ومن ثم لا يجوز مناقشتها: فنحن نفضل أعمالاً فنية معينة، مثلما نفضل ألوانًا أو سيارات معينة؛ فليس هناك معيار أو أساس موضوعي يمكن أن يستند إليه المرء ليزعم أن ذوقه أفضل من غيره! وتلك هي النزعة النسبية الذاتية بعينها في أحط صورها. ولقد نشأ علم الجمال بمفهومه الحديث مع باومجارتن Baumgarten وكانط Kant في القرن الثامن عشر- نشأ مدفوعًا بالرغبة في دحض هذا التصور في المقام الأول؛ لأن علم الجمال إذ ذاك قد نشأ كبحث في منطق الذوق أو ما أسماه كانط «الحكم الجمالي»، بمعنى البحث عن شروط للحكم على الجميل، أي البحث عن أساس موضوعي يستند إليه حكمنا الجمالي. وقد انتهى كانط- فيما انتهى- إلى أن الحكم الجمالي الذي نصف فيه موضوعًا ما بأنه جميل، هو حكم يستند إلى شعورنا بأن «الموضوع الجميل» ينطوي على «غائية بدون غاية»، فهو ينطوي على نوع من النظام الباطني بحيث يبدو متجهًا نحو غاية، ولكنها غائية بدون غاية محددة، أي غائية باطنية: فعندما نصف الوردة- على سبيل المثال- بأنها جميلة؛ فإن هذا لا يعني أننا يجب أن نقطفها أو نضعها ضمن باقة للزهور؛ فالحكم بأن «الوردة جميلة» هنا يظل صحيحًا بمنأى عن نظرتنا النفعية للوردة، أي بمنأى عن أية غاية خارجية؛ فهناك شيء ما موضوعي في الوردة ذاتها، في شكلها ولونها وملمس نسيجها، يشعرنا بالانسجام الباطني ويجعلنا نحكم (أو نُجمِعَ ضمنيًا على) أنها جميلة. إن هذا الحكم ذاته يصدق على الموضوع الجميل في العمل الفني، وإن كان أساسه الموضوعي في هذه الحالة يبدو على نحو أكثر تعقيدًا إلى حد بعيد مما يكون عليه في حالة الجمال الطبيعي الغفل أو البسيط: ذلك أن الحكم الجمالي هنا إنما ينشأ عن عمليات بالغة التعقيد تحدث عندما نتخذ موقفًا جماليًا من العمل أثناء خبرتنا به؛ إذ يتعين علينا أن ندرك القيم الفنية والجمالية الكامنة في كل عمل، وأن نقوم بالتوليف والربط بينها من خلال إدراك كلي للعمل. وفي إثر كانط سارت كثير من المحاولات التي تسعى لتأسيس منطق للتجربة الجمالية على أنحاء شتى. ومن الحجج القوية على منطق حكم الذوق أن شرطه أو أساسه الموضوعي مرهون بالتربية والثقافة الفنية، بمعنى أن خبراء الفن ونقاده الحقيقيين المسلحين بالثقافة الفنية والمعرفة الجمالية يتفقون دائمًا في أحكامهم التي ينسبون فيها قيمة فنية وجمالية لعمل ما، بحيث يقدرون أعمالاً فنية على غيرها، ويجردون بعضها من القيمة الفنية والجمالية. لقد كان ديفيد هيوم Hume واحدًا من أهم الفلاسفة الذين ناصروا هذه الحجة التي دعمها من بعده كثير من الفلاسفة، وكثير من علماء النفس ببحوثهم السيكولوجية التي أجروها على المبدعين والمثقفين ثقافة فنية رفيعة. غير أن البحث عن شروط للذوق أو للحكم الجمالي يواجه أحيانًا حججًا مضادة تتبناها أنواع أخرى من النسبية أكثر تعقيدًا من النسبية الذاتية الساذجة التي أشرنا إليها، ومنها النزعة النسبية التاريخية. والحجة الأساسية هنا يمكن صياغتها على النحو التالي: إن الأعمال الفنية هي نتاجات ثقافية تاريخية، فهي تقدم لنا ذاتها من خلال مرجعية الإطار الثقافي المرتبط بمرحلة تاريخية معينة؛ وهكذا تختلف الأعمال الفنية باختلاف الثقافات والعصور، بل في العصر الواحد. وأكثر من ذلك أن العمل الفني الواحد يمر بفترات يتألق فيها وبفترات أخرى يذوى ويتوارى فيها؛ وذلك لأسباب تاريخية وثقافية معينة. ومع أن هذه الحجة تستند إلى ظواهر النسبية الثقافية التي توجد بالفعل، إلا أنها غافلة عن أن مثل هذه الظواهر لا يمكن أن تطعن في القيمة الفنية والجمالية للأعمال الفنية ذاتها؛ ومن ثم لا تطعن في الأساس الموضوعي الذي يستند إليه حكم الذوق، وفي إمكانية التحدث عن شروط موضوعية للتلقي الجمالي. فالواقع أن ظواهر النسبية الثقافية تعني ببساطة أن العمل الفني يمكن أن يتجلى في تفسيرات أو تأويلات خاطئة تنتج عن سوء فهم أو تمثل القيمة الفنية للعمل؛ ومن ثم سوء تطبيقها. وعلى هذا؛ فإن هذه الظواهر النسبية لا تعني نسبية القيمة الفنية ذاتها، وإنما تعني نسبية إدراك أو تمثُّل القيمة، تمامًا مثلما أن نسبية تمثل المبدأ الأخلاقي لا يعني نسبية قيمته وإنما يعني نسبية إدراكه بحسب ثقافة الشخص المدرِك: فالشخص البدائي- في بعض القبائل الإفريقية- الذي يقدِّم زوجته إلى ضيفه بغرض مضاجعتها،هو شخص يظن أنه يعبر بسلوكه هذا عن اعتراف- بل عن إيمان- بأن مبدأ الكرم قيمة أخلاقية؛ ولكن تواضع ثقافته الأخلاقية هو الذي يجعله يخطئ تصور هذا المبدأ الأخلاقي، بحيث يتصور مشروعيتة أو إمكانية تحققه في هذا المسلك، غافلاً عن أنه لا يجوز للسلوك الذي يريد أن يعبر عن مبدأ أخلاقي أن يجور على أي مبدأ أخلاقي آخر، اللهم إلا إذا كان من أجل مبدأ أخلاقي أسمي منه؛ والواقع أن هذا المسلك لا يجور على مجرد مبدأ أخلاقي آخر، وإنما يجور على مبدأ أخلاقي أسمى وأعم، وهو أنه لا يجوز استخدام أي شخص باعتباره أداة أو وسيلة لتحقيق أي غرض ما، حتى إن كان هذا الغرض هو التعبير عن الكرم في هذه الحالة (التي يستخدم فيها المرء زوجته مثلما يستخدم الطعام والشراب كأداة لتكريم الضيف). إن هذا مجرد استطراد يهدف إلى بيان ما هنالك من وشائج قربى بين منطق القيمة الفنية ومنطق القيمة الأخلاقية. فالقيمة الفنية تبقى مستقلة عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تتجلى فيها من خلال تفسيرات نسبية عديدة، فهي تبقى مستقلة عن التاريخ، حتى إن كان هذا الكشف يكون ممكنا فقط من خلال التاريخ، أعني من خلال تواتر ظواهر الفن عبر التاريخ! وربما يكون هذا هو السبب في أن ماركس نفسه الذي كان يتبنى موقفا مؤيدًا للنسبية التاريخية في الفن، قد أبدى اندهاشه في تساؤله عن السبب في أن أعمالاً فنية معينة في عالم القدماء تظل تلقى تقديرًا إلى الآن، على بعد المسافة الزمانية التي تفصل بيننا وبينها! والواقع أن كل الملاحظات التي قدمناها فيما سبق لا تتعامل مع عملية التلقي الجمالي في ذاتها، وإنما تهدف إلى البرهنة على مشروعية الكلام عن «شروط» لعملية التلقي الجمالي، طالما أن هذه العملية تستند إلى فهم الأساس الموضوعي لتلك القيمة وحسن تأويله. أما الإفاضة في شروط التلقي الجمالي فهذا شأن آخر يطول شرحه وبيانه.