التعليم تكشف حقيقة زيادة مصروفات المدارس الخاصة 100%    قرار جديد بشأن دعوى إلغاء ترخيص شركة أوبر واعتماد نظام المراقبة الإلكترونية    أستاذ اقتصاد: موازنة 2025 قاسية جدا وتمثل انعكاسات لسياسات خاطئة    إعلام عبري: مجلس الحرب بحث الليلة قضية اليوم التالي في غزة    رئيس قطاع الناشئين في الزمالك يكشف عن الاستراتيجية الجديدة    حرارة شديدة حتى الأسبوع المقبل.. الأرصاد ترد على وصف الطقس ب"وحش جهنم"    13 مليون جنيه، القائمون على حفل ليلة النكد في ورطة بسبب أسعار تذاكر الحفل    شذى حسون تبدأ سلسلتها الغنائية المصرية من أسوان ب"بنادي عليك"    11 يونيو.. الطاحونة الحمراء يشارك بالمهرجان الختامي لفرق الأقاليم المسرحية ال46 على مسرح السامر    تكريم هشام ماجد بمهرجان روتردام للفيلم العربي.. صور    نسرين طافش: "مالقيتش الراجل إللي يستاهلني"    داليا عبدالرحيم: التنظيمات الإرهابية وظفت التطبيقات التكنولوجية لتحقيق أهدافها.. باحث: مواقع التواصل الاجتماعي تُستخدم لصناعة هالة حول الجماعات الظلامية.. ونعيش الآن عصر الخبر المُضلل    لوكا مودريتش يوافق على تخفيض راتبه مع الريال قبل التجديد موسم واحد    نادي الصيد يحصد بطولة كأس مصر لسباحة الزعانف للمسافات الطويلة.. صور    رانيا منصور تكشف ل الفجر الفني تفاصيل دورها في الوصفة السحرية قبل عرضه    4 شهداء فى قصف للاحتلال على منزل بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة    حظك اليوم لمواليد برج الدلو    استمتع بنكهة تذوب على لسانك.. كيفية صنع بسكويت بسكريم التركي الشهي    مدير مستشفيات جامعة بني سويف: هدفنا تخفيف العبء على مرضى جميع المحافظات    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    سم قاتل يهدد المصريين، تحذيرات من توزيع "سمكة الأرنب" على المطاعم في شكل فيليه    رئيس النيابة الإدارية يشهد حفل تكريم المستشارين المحاضرين بمركز التدريب القضائي    موعد مباراة الأهلي والاتحاد السكندري في نهائي دوري السوبر لكرة السلة    فرص عمل للمصريين في ألمانيا.. انطلاق برنامج «بطاقة الفرص»    "بشيل فلوس من وراء زوجي ينفع أعمل بيها عمرة؟".. أمين الفتوى يرد    تكبيرات عيد الأضحى 2024.. وقتها وأفضل صيغة    اتحاد منتجي الدواجن: الزيادة الحالية في الأسعار أمر معتاد في هذه الصناعة    مدبولى: مؤشر عدد الإناث بالهيئات القضائية يقفز إلى 3541 خلال 2023    «مغشوش».. هيئة الدواء تسحب مضاد حيوي شهير من الصيداليات    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    متى إجازة عيد الأضحى 2024 للقطاع الخاص والحكومي والبنوك في السعودية؟    قبل ذبح الأضحية.. أهم 6 أحكام يجب أن تعرفها يوضحها الأزهر للفتوى (صور)    السعودية تصدر "دليل التوعية السيبرانية" لرفع مستوى الوعي بالأمن الإلكتروني لضيوف الرحمن    بعد نهاية الدوريات الخمس الكبرى.. كين يبتعد بالحذاء الذهبي.. وصلاح في مركز متأخر    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية الفرجاني في مركز بني مزار غدا    أخبار الأهلي : من هو اللاعب السعودي خالد مسعد الذي سيُشارك الأهلي في مباراة اعتزاله؟    ذا هيل: تحالف كوريا الشمالية وروسيا قد يلحق ضررا ببايدن في الانتخابات الرئاسية    تعرف على محظورات الحج وكفارتها كما حددها النبي (فيديو)    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    البنك التجاري الدولي يتقدم بمستندات زيادة رأسماله ل30.431 مليار جنيه    علاء نبيل يعدد مزايا مشروع تطوير مدربي المنتخبات    خاص رد قاطع من نادي الوكرة على مفاوضات ضم ديانج من الأهلي    إصابة سائق إثر حادث انقلاب سيارته فى حلوان    وكيل «قوى عاملة النواب» رافضًا «الموازنة»: «حكومة العدو خلفكم والبحر أمامكم لبّسونا في الحيط»    محمد الشيبي.. هل يصبح عنوانًا لأزمة الرياضة في مصر؟    برلماني أيرلندي ينفعل بسبب سياسة نتنياهو في حرب غزة (فيديو)    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل مسن في روض الفرج    الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصفه قرى وبلدات جنوبي لبنان    وزير المالية: مشكلة الاقتصاد الوطني هي تكلفة التمويل داخل وخارج مصر    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    وزير الإسكان ومحافظ الإسكندرية يتفقدان مشروع إنشاء محور عمر سليمان    أمناء الحوار الوطني يعلنون دعمهم ومساندتهم الموقف المصري بشأن القضية الفلسطينية    وزيرة التخطيط ل«النواب»: نستهدف إنشاء فصول جديدة لتقليل الكثافة إلى 30 طالبا في 2030    حفر 30 بئرًا جوفية وتنفيذ سدَّين لحصاد الأمطار.. تفاصيل لقاء وزير الري سفيرَ تنزانيا بالقاهرة    غرفة الرعاية الصحية: القطاع الخاص يشارك في صياغة قانون المنشآت    تحرير أكثر من 300 محضر لمخالفات في الأسواق والمخابز خلال حملات تموينية في بني سويف    جامعة طيبة: امتحانات نهاية العام تسير في أجواء هادئة ومنظمة    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معجم جماليات الأدب
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 02 - 2014

منذ بداياته لم يتوقف الناقد والمفكر إبراهيم فتحي عن الإبداع، وتقديم ما هو جديد دائما إلي المكتبة العربية في مجالات الأدب والفلسفة والنظرية السياسية تنظيرا وتطبيقا وترجمة، دور هام لا تقوم به إلا مؤسسة متكاملة، بينما يفعل فتحي ذلك منفردا. لم يتوقف عن هذا الدور رغم السنوات الطويلة التي قضاها في سجون الأنظمة التي حكمت مصر: شهور قليلة قضاها في سجون الملك، وسبع سنوات في سجوان عبد الناصر، وأربع في سجون السادات، وعدة شهور في سجون مبارك .. هي الأقل ولكنها الأبشع من وجهة نظره:" كان تعذيبا منظما .. قاسيا أكثر مما يتصور المرء".. فتحي بدأ مؤخرا الإعداد ل "معجم جماليات الأدب" ..الذي يرصد فيها أبرز المصطلحات الأدبية ..يستقصي تاريخها يقدم نماذج لها..وننشر هنا بعضا من هذه المصطلحات.
-1-
معني الجمال
The Meaning of Beauty, Le Sens de Beauté
يصف الناس أشياء متباينة مثل القصائد والروايات واللوحات والقطع الموسيقية، ووجوه شابات، والأزهار ومنظر الغروب بأنها جميلة. فما الذي يجعلها تحدِث في البشر هذا النوع الخاص من التأثير الذي يوصف بأنه جمالي؟ يري مفكرون أن هذا الشيء المشترك عيني وليس مجردًا، يُدرَك بالحواس ويشغل حيزًا مكانيًا. فالقصائد والروايات تنقلها الكلمات والأصوات وتمكن رؤيتها مكتوبة أو سماعها والنطق بها، أي تدركها الحواس، وكذلك الحال مع بقية أنواع الأدب، فهي تقدم مجالات من المدركات الحسية.
والفارق النوعي بين الأدب (والفن عمومًأ) من ناحية والعلم والفلسفة من ناحية أخري هو أن الأدب (والفن عمومًا) لا يسعي وراء قوانين أو مفاهيم مجردة كلية مثلهما، فهو مجال للمدركات الحسية. ولكن المدركات الحسية تنتمي إلي نوعين: إدراك للموضوعات الخارجية عن طريق الحواس الخمس، وإدراك داخلي عن طريق الاستبطان (ملاحظة الذات وتأمل الحالات النفسية والمشاعر والأفكار والإرادة). والمشترك بين المدركات الحسية جميعها هو أن ما تدركه حاضر مباشر أمام الوعي. ومن المجمع عليه أن المدركات الخارجية مثل الكتابات واللوحات والقطع الموسيقية وكذلك الأزهار والفتيات ومنظر الغروب يمكن أن تكون جميلة، ولكن أيمكن أن تكون السمات الشخصية أو الانفعالات أو النفس، وهي مواد التناول التي ينشغل الأدب بتصويرها وتحليلها جميلة، أم ينحصر الجمال في الموضوعات الحسية؟ أيمكن أن تكون الموضوعات النفسية والذهنية جميلة بذاتها أو بطريقة تصويرها؟ الصعوبة ماثلة في أن الرأي السائد عند كثير من المفكرين يتجه إلي اشتراط أن تكون الموضوعات الجميلة عينية ومحسوسة معًا. ولكن في حالة الأدب لا تكون الصورة الأدبية موضوعًا فيزيقيًا، فهي باستمرار فكرة ذهنية عن موضوع يمكن أن يكون طبيعيًا، ومن ثم يمكن أن توصف بالحسية، وهذا ما يتعلق بالفكرة. أما الأمر الحاسم فهو أن الصورة لا تتحقق إلا بواسطة الكلمات، أي بأصوات مسموعة أو بكتابة مرئية وهي مدركات خارجية. ولا يخلط التفكير الجمالي بين الفن (والأدب) والمعرفة، ولكنه لا يرفض أن يكون في الفن والأدب قدر من المعرفة بشرط ألا تنعزل المعرفة مقتطعة في ذاتها حتي لا يصيبها الجفاف والتحجر في وهدة التجريد والنزعة التخطيطية الاختزالية. وقديمًا رأت الأفلاطونية في مذهبها المعرفي جمالاً مطلقًا خالدًا، واعتبرت أن جمال الأشياء يرجع إلي أنها تحوي انعكاسًا للمثل ويستهدف الفن عندها إعادة خلق ذلك الجمال المتعالي المطلق والإبداع داخل نطاقه. وقد عاشت الأفلاطونية زمنًا طويلاً باعتبارها صنمًا، وما تزال تحيا علي نحو مزعزع في نظرية الفن للفن. وتعرضت بطبيعة الحال لهجمات النقد التاريخي الذي يبرز الصفة النسبية للجمال؛ ولكل عصر ولكل حضارة فكرة خاصة عن الجمال الخاص. وقد تتغير وتتحور تلك الفكرة وفقًا للأمة والطبقة.
وتستخدم اللغة تفريعات وتنويعات مختلفة للجميل في الطبيعة والمجتمع والجسد الإنساني والتعبير مثل: رشيق graceful, graceux، ومعتدل القامة حَسَن القد pretty, jolie من الحُسن صفاته تروق العين، رائع wonderful, merveilleux ماجاوز الحد في الصفات التي تأخذ بمجامع القلوب، والفاتن charming, charmant يجذب ويأخذ باللب، والوسيم حسن الوجه good-looking, beau. وكل هذه التنويعات تُستخدَم بطريقة تعسفية في الكتابة الأدبية، فليست لها نظرية جمالية تجمعها وتحدد الفروق بينها، بل تعبر عنها ألفاظ رائجة منتشرة تصف الكثير جدًا من الدرجات الممكنة للإحساس بالجمال دون تحديد دقيق.
-2-
ابتهال
Invocation, Invocation
تضرع أو مناشدة أو مناجاة من أجل العون (علي الإلهام مثلاً) موجه إلي الربة الملهمة في بداية الملحمة، كتقليد في الإلياذة والأوديسه والفردوس المفقود. وقصيدة سافو إلي أفروديت من أقدم الابتهالات. وكان الابتهال وسيلة سحرية للتأثير في الربة لاكتساب بعض القوة إزاء الواقع، فهي عمل سحري والغاية التأثير في الألهة الوثنية والبشر. ونجد قصائد التوبة والتضرع إلي الله عند أبي العتاهية والزهاد والمتصوفة. وقد لقي هذا الابتهال كتقليد شعري محاكاة ساخرة عند الرومانسيين، كما أن مخاطبة الأطلال كمطحع شعري لقي سخرية أبي نواس. وتكرر ترديد الابتهالات في تسلسل عند الكهنة والمصلين في العصور الوسطي فيما سمي الابتهال المتسلسل litany, litanée الذي يطلق الآن علي الكتابة المطولة المملة.
-3-
ائتلاف
Conformity, Conformité
تركز البلاغة التراثية علي أن يجمع الناظم أو الناثر أمرًا وما يناسبه وصولاً إلي المطابقة، سواء كان التلاؤم بين اللفظ واللفظ، أم المعني المعني، أم اللفظ والمعني. فالمقصود جمع شيء إلي ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أحد الوجوه؛ وتلائم الألفاظ بعضها بعضًا بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله رعاية لحسن الجوار وللتناسب، أو بأن تتماثل في الجرس حتي يكون الكلام مؤتلف النسج. كما تراعي درجة تجريد الكلمات أو عينيتها، عرفيتها أو مجازيتها، عاديتها أو اصطلاحيتها، شيوعها أو ندرتها، ودواعي ملاءمتها الخاصة لنوع أدبي أو آخر. وائتلاف اللفظ مع المعني أي إعرابه عن فحواه، فلا يكون الغزل كالفخر ولا التعريض مثل التصريح، أي يكون التلطيف مع الغزل، والتفخيم مع الفخر. ويتميز المدح بالشجاعة والبأس عن المدح باللباقة والظرف. ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف مجلس الشراب والمنادمة. إن المعني الفخم يشاكله لفظ جزل، والمعني الرقيق يشاكله لفظ رشيق. وهناك ائتلاف اللفظ مع الإيقاع، وائتلاف الإيقاع مع المعني دون أن يضطر الإيقاع الشعر إلي تأخير ما يجب تقديمه، ولا إلي تقديم ما يجب تأخيره، ولا إلي إضافة لفظة أو معني يلتبس بها السياق أو لا يجتاج الغرض الشعري إلي المعني المضاف. ويزعم حازم القرطاجني أن هناك صلة بين الأوزان والمعاني، ووجوب محاكاة الأوزان للأغراض والمقاصد ولكن ذلك جري تفنيده. وعمومًا تؤكد البلاغة التراثية علي التجانس والانسجام.
-4-
الرمزية الصوتية
sound symbolism, symbolisme du son
هناك في البلاغة التراثية وفي اللغويات الحديثة تخمينات حول ائتلاف الأصوات اللغوية (الحروف) ومدلولاتها في رمزية صوتية. ويرجع ذلك إلي تخمينات بدائية تتعلق بنشأة اللغة افترضت أن الأسماء في الأصل محاكاة لأصوات طبيعية: صوت نباح الكلب أو عواء الذئب أو زمجرة الرعد صار اسمًا لفاعل الصوت. وعاصرت تخمينات محاكاة أصوات الطبيعة تخمينات أخري تفترض أن الأسماء صدرت عن صرخات وأصوات انفعالية، عن شهقات وتأوهات انفعالية للتعبير عن الذات. وقد حاول دارون الربط بين الأصوات اللغوية وبين ما يحدث لأعضاء النطق من تقلص أو انبساط؛ الشعور بالضيق أو الازدراء يصحبه في العادة صوت نفخ من الفم أو الأنف صوت بوه pooh باللغة الانجليزية أو "أف" بالعربية. وحينما يفغر المرء فمه يميل إلي الاستدارة ويصدر صوتًا يشبه الضمة، وحينما تطول الضمة يتصل بها صوت يشبه الهاء، وينشأ عن هذين معًا صوت أوه oh الملازم للتأوه. ولكن في حالة التألم تتقلص أعضاء الجسم وتأخذ الشفتان وضعًا يناسب صوت الفتحة يؤدي إلي إحداث صوت آه. ولكن تلك الأصوات تختلف باختلاف القوميات واللغات. وقد كتب كبلنج Kipling في إحدي قصصه يصف شخصية بقوله إنها ليست من الأفغان لأنهم هناك يبكون بصوت آي آي Ai Ai وليست من الهند لأنهم يبكون بصوت أوه أوه ولكن تلك الشخصية تبكي علي طريقة بكاء الأوروبيين أو أو ow ow. وهناك استنتاج يذهب إلي أن النطق الإنساني نشأ في صورة جماعية؛ حين يعمل الناس تصدر عنهم أصوات تخفف من عناء العمل مثل هيلا هوب هيلا هيصا (عند العرب مثلا)، فهي مرتبطة بالتنفس ولا تتضمن معني محددًا. وقد أكد بعض المفكرين العرب مثل جلال الدين السيوطي أن هناك ائتلافًا وتناسبًا بين اللفظ ومدلوله، أي لابد من وجود رابطة عقلية منطقية بين الأصوات والمدلولات (رمزية صوتية). ويري بعض هؤلاء المفكرين إن أصوات الجيم والباء والهاء والراء مهما يختلف ترتيبها في الكلمة تعبر عن القوة والشدة: جبر العظم، جبر الفقير تقويتهما، والجبروت القوة والجبر الأخذ بالقهر والشدة، والجراب يحفظ ما فيه، والبرج قوي متين. ويري بعض أصحاب هذا الاستنتاج أن النون والجيم والدال مهما تقلب تعبر عن القوة والنجدة والإعانة. النجد ما ارتفع من الأرض، والجند حماة الوطن، والدجن المطر الكثير. وعلي النقيض من اجتماع النون والجيم والدال اجتماع السين والميم والحاء في سمح؛ ومنها السماحة التي هي لين ودعة ومنها المسح. ولكن علي النقيض من هذا التحقق هناك حمس وحماسة بمعني الشدة في القتال وهناك حسم بمعني قاطع. ويري الدكتور كمال بشر أنه بإنكاره وجود هذا الائتلاف الطبيعي في الأمثلة المتناقضة لا يعني عدم وجود هذا الارتباط نهائيًا، ولكنه يعني إنكار أن يكون الارتباط كاملاً ومطردًا، إنكار أن يكون قاعدة عامة. ولكن ذلك لا يمنع أن تكون هناك أمثلة يتحقق فيها هذا الائتلاف بوجه من الوجوه أو بصورة من الصور. وكذلك ظل الخلاف يدور حول السؤال: أبإمكان الألفاظ مثلاً أن تدل تمام الدلالة علي المعاني التي في داخل النفس، أم أنها لا تستطيع البوح بكل ما في الوجدان؟ إن البحث الذي كان عن العلاقة بين اللفظ وماهية الشيء انتقل إلي البحث عن العلاقة بين اللغة والمشاعر الباطنة. ويري كثيرون علاقة طبيعية بين الألفاظ الموضوعة لمحاكاة أصوات الحيوان والطير وتلك الأصوات نفسها، فالعصفور يزقزق والحمام يهدل والقمري يسجع والهرة تموء والكلب ينبح والعجل يخور والحمار ينهق والذئب يعوي. ومثل ذلك في هزيم الرعد وخرير الماء وشهيق الباكي وتأوه الموجوع وحشرجة المحتضر وتمتمة الحائر وغمغمة الغامض. ولكن اللغات المختلفة لها ألفاظ مختلفة لهذه الأصوات، فالائتلاف أو التناسب ليس طبيعيًا.
وعلي الضفة الأخري يذهب كثيرون إلي رفض الائتلاف بين الخاصة الصوتية للحروف ودلالتها التعبيرية، فهو لا يصدق إلا جزئيًا. فعلي سبيل المثال يدل حرف الغين غ علي الغياب والخفاء والاستتار. غاب غار غاص غام غمد غمر غمض غرب غرز غرس غرق غطي. ولكن أين حرف الغين في الاستتار والخفاء؟ فليس حرف الغين وحده هو الذي يعطي المعني وإنما حروف الكلمة مجتمعة. وهناك ادعاء بأن حرف النون يدل علي الظهور والبروز: نفث، نفخ، نبت، نجم، نشأ، نهض، نما. ولكن حرف النون وحده ليس الذي يعطي الدلالة وانما الذي يعطيها هي حروف الكلمة مجتمعة. ولكل كلمة دلالتها المختلفة. أما حرف القاف (ق) فإن هناك ادعاء بأن الكلمات التي يرد فيها تتضمن معني الاصطدام أو الانفصال إذا صاحبته ضجة، فالقاف حرف شديد: قدّ، قطع، قرع، دق، شق، طق، طرق، عقر، عقّ. وهناك ادعاء بأن حرف السين (س) يجمع كثيرًا من الألفاظ التي يدخل فيها معني الليونة والسهولة: سهل، سلم، سلس، سال، سار، ساب، ساح، ساق، مس، سحب، سكن. وقد استنتج لغويون وأدباء من هذه الأمثلة وأشباهها أن للحرف الواحد في تركيب الكلمة العربية قيمة تعبيرية، وأن الكلمة الثلاثية تعبر عن معني هو ملتقي معاني حروفها الثلاثة ونتيجة تمازجها. كلمة غرق عندهم تدل فيها الغين علي غيبة الجسم في الماء والراء تدل علي التكرار والاستمرار في سقوطه والقاف تدل علي اصطدام الجسم في قعر الماء. والمعني الإجمالي حاصل من اجتماع المعاني الجزئية للحروف وهو مفهوم مادة غرق. ولكن الكثرة من الباحثين تؤكد عدم وجود قانون عام يشمل ألفاظ العربية في مجموعها. وأول من أشار إلي ائتلاف الألفاظ ومدلولاتها من علماء العربية هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ثم تابعه تلميذه سيبويه. فعندهما تدل الأصوات المعينة علي معان معينة. وهناك آخرون يواصلون القول بإخاء بين الحروف: السين أخت الزاي، واللام أخت الراء، والعين أخت الهمزة وإن تكن الهمزة أقوي من العين. أما آخرون من مفكري العربية فقد قالوا بالطبيعة الاعتباطية والعرفية للألفاظ. وعمقوا هذا القول في التراث العربي مثل الغزالي وبعض الشعراء والناثرين. ولكن بعض مبدعي الأدب المعروفين بتجويد الصياغة لا يجدون حرجًا في أن يعمدوا إلي استغلال إمكانات الأصوات في الإيحاء بالمعني أو محاكاته لأن المعني عندهم يرتقي ويزداد إرهافًا إذا ما صاحبته مؤثرات صوتية وإيقاعية خالصة. وعند إدوار الخراط يتكرر حرف الحاء في لحظة الاحتدام والحرارة والحرقة في رامة والتنين، تجانس الجرس الصوتي ( assonance).
ويري نقاد محدثون أن بلاغة القدماء تقف عند اللفظ والمعني، أما البلاغة الجديدة فتنتقل من دراسة الجملة لغة إلي دراسة اللغة نصًا وخطابًا وأنواعًا أدبية وأسلوبية. والبلاغة الجديدة ليست في ائتلاف اللفظ واللفظ، أو اللفظ والمعني، فهي بلاغة بناء وسياق ونمو داخلي وتناسب الأجزاء مع إدراك التناقضات وصراعها، ولها خصوصيتها ودلالتها الإنسانية المتطورة المستمرة.
-5-
اللعب والفن
Play and Art, Le jeu et lArt
يدل اللعب في معناه العام علي نشاط حر ممتع ويندرج ما يقال عن تماثل بين اللعب والفن بطرق متعددة من مجرد استعارة إلي هوية حرفية، فهناك تباين بينهما وبين أنشطة العمل والأنشطة التي تمارس تحت إجبار أو إكراه ما اقتصادي أو سياسي أو أخلاقي. ويرفض كثيرون هذا التماثل، فالفن كان دائمًا نشاطًا يتسم بالجدية عند البالغين، كما يقبله بعض المفكرين الذين يركزون في الفن علي طابع اللذة والترفيه. وبين التطرفين هناك الذين يجدون قيمة إيجابية في الفن واللعب من ناحية القيمة الثقافية ويذهبون إلي القول بالطاقة الفائضة أو وقت الفراغ كدافع للثقافة، ويرون الفن واللعب نتاجًا لهذا الفيض من الطاقة بعد تلبية الحاجات الضرورية. كما يذهبون إلي القول بالتعليم والمحاكاة والتجارب المتقمصة البديلة (ممارستها كما لوكانت بالنيابة)، فالفن واللعب يلقيان التقدير لطريقتهما في تمكين الناس من مواجهة واقع خشن دون أن يصابوا بأذي. وثمة كذلك ادعاء بأن الطفل يظل ماثلاً في البالغ الناضج وتأكيد عمليات السذاجة والبراءة واللاوعي في تضادها مع العقلانية.
وفي العصر القديم كان من النادر ربط الفن باللعب، فقد كان للفن امتيازه الطقسي، علي حين كان يعتقد أن اللعب هو نشاط الحيوانات والأطفال وفي مرتبة دنيا، أو يظن أنه بلا غرض سام أو وظيفة معرفية وأنه عابث طائش ومضيعة للوقت وإن يكن مصدرًا للذة ما. وبطبيعة الحال كان هناك في العصر القديم كما في كل الأزمنة أولئك الذين يجدون غاية الفن في اللذة الجمالية والاسترخاء والترفيه وما أشبه. ولكن كانت توجد كذلك أفكار عن الصلة بين اللعب والمحاكاة والتربية مما يربطه بالفن نجدها عند هوميروس وغيره في إشارات متناثرة إلي قيمة خاصة بالتحضيروالإعداد في ألعاب الأطفال وبتهيئة لمرحلة النضج. فهناك ألعاب بالصلصال والرمل والحجر ترهص بالنحت والعمارة، وألعاب النزاع والصراع ترهص بالدراما وقد تكون إعدادًا للقتال. وفي هذه الألعاب أنشطة رمزية تختلف عن الأنشطة الواقعية, ويري أفلاطون أن اللعب متصل اتصالاً وثيقًا بالمحاكاة. فالأطفال يلعبون أنهم جنود أو أنهم كبار أو أبطال. وتعد تلك الألعاب إعدادًا تربويًا لروح النظام والقانون بغير طريق الإجبار. أما أرسطو فيذهب إلي أن الفن (والشعر خصوصًأ) لا يحاكيان فحسب ما هو واقعي كما هي الحال عند أفلاطون بل ما يمكن أن يكون، فالخيال ليس مقيدًا بالفعلي بل حر في اللعب بالممكن والمرغوب. ويذهب كانط إلي اللعب الحر للخيال، وإلي وجوب التوازن بين الحقيقة الواقعية أو المنطقية والحقيقة الجمالية، الأولي موضوعية وجادة والثانية ذاتية ولعوب. فالحقيقة الجمالية تتطلب رد الاعتبار لها ونفي اتهامات بالطفولة والطيش عنها، مما يستوجب ربطها بالحقيقة الواقعية.
وعند أرسطو كانت تلك الصلة أقوي بعض الشيء من تعليق عدم التصديق suspension of disbelief, suspension de incrédulité عند كوليردج (طرح الشك جانبًا والامتناع عن توجيه أسئلة عن الحقيقة والواقع وقبول نتائج الخلق الخيالي)، فهناك ملامح للعب في هذين المستويين.
واللعب الحر للخيال مهم عند كانط وهناك الآن إحياء متجدد للاهتمام باللعب وعلاقته بالفن، ويدور حول وظيفة المحاكاة والتقمص والتربية في عمليات التعليم والتنشئة الاجتماعية حيث تتأكد بنية قواعد ذاتية الغرض تستدعي إعمال الخيال ومعارضته سلبية المتلقي بإيجابية المبدع. ولكن بعض المفكرين المعاصرين يرون أن الفن مشتبك اشتباكًا حميمًا بالحياة إلي درجة تمنعه من أن يكون مجرد لعب وإن وسّع بعض الاشتراكيين الخياليين من نظرية وقت الفراغ إلي درجة إدخال الفن واللعب في الأنشطة المناسبة لمجتمع الوفرة في ستينيات القرن العشرين. فهناك ميل متزايد لتوسيع نطاق الإبداع والتجديد والقواعد الذاتية الخالصة. وكان التأمل الجمالي الحر قد ارتبط عند تشارلس بيرس باللعب الخالص. كما ادعي كوستلر أن الاكتشافات والتجديدات في العلم الرياضي والفيزياء النظرية والفن الجميل لا ترجع إلي التكنولوجيا أو النفع المباشر، بل مرتبطة بدوافع اللعب ومترجمة إلي مجال الخيال والتجريد والشكل!. وثمة مساحة غامضة متعلقة بالخصائص الطفولية بما فيها الاتجاه إلي اللعب تتمثل في ملامح مزعومة يتطلبها الفن الآن تتركز في الطبيعة اللاواعية للإبداع والتأكيد فيه علي براءة الطفل وتلقائية فطرته واستغراق أنشطته في ذاته، وكلها مفضلة علي حسابات البالغين وجريهم وراء أغراضهم العملية. وتوصف الرؤية الفنية في هذا الادعاء بتماثلها مع رؤية الطفل البريئة الطازجة غير المثقلة بالجمود المفهومي أو غير الخاضعة لمعايير معرفية أو أخلاقية أو نفعية.
ولا يجب الخلط بين ذلك الادعاء وتحرر فنانين مثل الشاعر ريلكه أو الرسام بول كلي من مطالب التمثيل والمحاكاة أو من مطالب نماذج صياغية تشكيلية مقرة. فليس من الصواب الإصرار علي أن كل مظاهر التحول في الأهداف الفنية متصلة بالحنين إلي بساطة الطفولة أو إلي ممارسة اللعب. فقد يرجع جزء من هذا التحول إلي التحليل النفسي الفرويدي أو التركيز علي الجماليات. وهناك بحث لفرويد عنوانه "الكتاب المبدعون وأحلام اليقظة" يربط بين الخيال والإبداع واللعب، ويستنتج توازيًا بين الطفل والكاتب، فكل منهما يخلق عالمًا خاصًا به. وهذا العالم يؤخذ باهتمام جاد؛ لأن عكس اللعب ليس ما هو جاد بل النفعي المباشر. ويذهب فرويد إلي أن اللعب ليس بالكامل عديم الصلة بالواقعي وإلا سيكون توهمًا وليس لعبًا. ونصل من ذلك إلي أن ملامح من العالم الواقعي يعاد تنسيقها بواسطة الطفل في لعبه، وبواسطة الفنان في إبداعه (رغم تباين المستوي والقيمة). والفرق بين هذين وحلم اليقظة هو أن حلم اليقظة يتضمن درجة من تحقيق الأمنية (ربما تتحرك مستقبلاً نحو العصاب أو الذهان). وإذا كانت قطعة من الكتابة الخلاقة تشبه حلم يقظة فإنه يمكن اعتبارها استمرارًا لما كان ذات مرة لعب طفولة وتعويضًا عنه.
-6-
أدبية
Literality, Literalité
موقف جمالي محض يركز علي ما يميز الأدب مما ليس بأدب. موقف نخبة يركز علي جماليات الأدب في حد ذاته ويفصل بين ما هو اجتماعي (اقتصادي/ سياسي) أو سيكولوجي وما هو أدبي بحت. فالأدب ليس سوي كلمات. ومن هنا أسطرة الظاهرة الجمالية التي اصطلح علي تسميتها أدبًا وتهميش السياق الاجتماعي والثقافي الذي أنتج فيه الأدب أو الذي استُقبِل في إطاره. ويقال إن ذلك رد فعل إزاء ما أصاب الأدب من فقر وتسطيح في خدمة السياسة الرسمية وكانت تسميها قضايا المجتمع. وقد وصل رد الفعل إلي توجه صوفي أسطوري يتم تجميله في صورة أدب محض، مستقل عن العوامل التي أثرت فيه والآليات المركبة التي تربطه بالسياقات الثقافية الحية، أي اختزال الأدب في تاريخه إلي الصور والصيغ البلاغية وتكريسه لرؤية ذاتية للوجود. وهذا الاختزال لا يزيد في حقيقته عن كونه هالة إيديولوجية لا تقل ضيق أفق عن إيديولوجية سياسية مرفوضة كانت تري الأدب محض انعكاس للواقع الاجتماعي. وقد يكون الصواب في القول إن أدبية الأدب أي إضافاته الجمالية ماثلة في علاقاته بما هو خارجه من طبيعة حولها ويحولها الإنسان وتتوسطها تلك الطبيعة الثانية التي صنعتها الإنسانية عبر تاريخها، أي الطبيعة الاجتماعية الثقافية. فمن الخطأ الارتكان إلي ذاتية فردية مغلقة في إطار انسحابي من العالم يغيب البعد الاجتماعي في الدرس الأدبي ويكرس رؤية أسطورية مطلقة لجمالية الأدب، رؤية أخروية نخبوية والحقيقة أنه لا يكشف عن الاستقلال النسبي للجماليات الأدبية سوي الكشف عن علاقتها بسواها من النسبيات الثقافية (الإيديولوجية أيضًا). وهل يجرنا توكيد خصوصية العمل الأدبي (أي جماليته) إلي تفتيش داخله عن صفة محددة هي التي تهبه الخصوصية الأدبية؟ هل نصل إلي الخصوصية الجمالية بعزل صفات جاهزة مغروسة في أحشائه بعد غربلة العمل لفرز تلك الخصيصة التي تميزه؟ فهل تلك الخصيصة هي صياغة نوعية ثابتة من الممكن أن نعتبرها مناط أدبيته؟ لقد ذهب النقد الجديد في أيام ازدهاره إلي أن الصياغة الأدبية النوعية هي مواضعات الأجناس الأدبية والإجراءات اللغوية والبناء الإيقاعي متمثلة في زمرة من الأدوات: الاستعارة الموسعة والاستعمال المتعمد للمفارقة. وربما يُفهَم من ذلك أن الجمالية الأدبية جوهر لا زمني بما أن الصياغة الأدبية نظام ثابت مستقل؛ بنية ثابتة من الأدوات التقنية، وصولاً إلي أن الأدبية جوهر نهائي يتميز بصياغة باطنة ملازمة له كنه يكاد يكون نوعًا خاصًا من سلع الاستهلاك الترفي، كأنه جوهرة من المجوهرات، ماسة لدي تاجر ماس. وتوجد هذه الصياغة بمعزل عن أنماط القراءة. ولكن القراءة ليست نشاطًا بريئًا مساويًا لنفسه عبر العصور، فالتواصل الاجتماعي بكل تناقضاته التاريخية هو الوسيط الذي تكتسب فيه الظاهرة الأدبية وجودها النوعي (إلقاء الشعر وتلقيه الجماعي أو القراءة الفردية، ووجود قراء لجنس أدبي معين ذوي إعداد خاص). فطريقة الاستجابة للأعمال الأدبية منقوشة في صميم طريقة الصياغة.
والأدب كما يقال يغمر نسيج الحياة الاجتماعية المعاصرة، ماثلاً فيها بوصفه إقناعًا وإغراء وحثُا وفتنة للحواس والذهن والوجدان جميعًا. وليست النوعية الأدبية الجمالية خصيصة صياغة محايثة في كل الأعمال الأدبية رغم تباينها النوعي تاريخيًا. هل من الممكن أن نعتبر أن تلك الصياغة ماثلة هي نفسها في الملاحم البطولية الشعرية وفي حكايات الجنيات الساذجة كما في المآسي الكلاسيكية والقصص الخرافية الشعبية، هل تلك الأنواع المتباينة ذات نسيج أدبي متجانس الصياغة؟ ألا تصير تلك الخصوصية الأدبية المزعومة وذات قوام بلا خصوصية مثل قوام الحساء (المرق)؟ لقد كان الأدب الرفيع في التراث اليوناني الروماني ثم المسيحي الرسمي يضم كتابات فلسفية وتاريخية وتعليمية متنوعة، بالإضافة إلي ما نسميه الآن كتابات الخيال الإبداعي. ولكنه كان يلفظ خارجه الأشكال الشعبية التي نعتبرها أدبية الآن. أما الأدب العربي فقد شمل في تاريخه الماضي المواعظ المنبرية والحكم والأمثال والخطب والمراسلات الديوانية: وبعض هذه العناصر توضع الآن خارج الأدب علي نحو حاسم. ومن الصواب رفض النزعة اللا أدرية التي ترفض كل استمرار في التاريخ الأدبي. فلهذا التاريخ في الحقيقة جانبان، جانب متعاقب متتال، وجانب متزامن يضم ما له قيمة مستمرة ويواصل البقاء. وليست قيمة الاستمرار ومواصلة البقاء جوهرًا ميتافيزيقيًا، بل هي مستمدة من رؤي القوي الطبقية الصاعدة أثناء صعودها وفق سيكولوجيتها الجمعية في كفاحها مع عناصر من السيكولوجيا الجمعية للطبقات الشعبية. وهذا المضمون المتطور تاريخيًا للأدب هو الخصائص الجوهرية للإنسان الاجتماعي أي هو التطور التاريخي لقدرات وطاقات الإنسان الحسية والوجدانية والذهنية مستوعبًا عند نقاط حاسمة. وكل رائعة من الروائع الأدبية المتعارف عليها تكثف مرحلة جوهرية لتطور طاقات الإنسان، يتعرف فيها الناس علي طبائعهم الإنسانية في تاريخهم. وتصير الرائعة الأدبية ذاكرة لعملية خلق الإنسان خصائصه الإنسانية الحقة والاستمتاع بالرائعة الأدبية هو بين أشياء أخري بمثابة غزو للماضي، وامتلاك كفاح الإنسانية لتطوير ثروتها الإنسانية الحقة. فليس الأدب من حيث الأساس إلا وعي الإنسانية بذاتها وبتناقضات تطورها وبمآزقه المأساوية ومفارقاته الكوميدية.
وينقلنا ذلك إلي مسألة الحساسية الإنسانية human sensibility باعتبارها زاوية النظر الصحيحة إلي الخصوصية الفنية (والأدبية). فمن أمثلة هذه الحساسية الإنسانية الأذن الموسيقية والعين التي تحس جمال اللون والشكل، وعلاقة الحب بين الرجل والمرأة التي ارتفعت بالحاجة الطبيعية إلي مستوي تبادل المشاعر وإلي معيار جمالي روحي وحركة المقهورين من أجل التحرر. وكل ذلك نجد له تجسيدًا في الأداء اللغوي الذي هو الواقع الفعلي الأول للوعي الإنساني. إن الحساسية الإنسانية ليست منتمية فحسب إلي مجرد الحواس البيولوجية المتوارثة بالجينات، فتطورها تطور اجتماعي تاريخي. إن الحساسية الإنسانية ليست منتمية فحسب إلي مجرد الحواس البيولوجية المتوارثة بالجينات. فتطورها تطور اجتماعي تاريخي. فالحساسية الإنسانية نتاج للعمل الاجتماعي وفاعلية البشر وهما يعيدان بناء العالم الطبيعي وفقًا لأهداف صارت إنسانية، ولرغبات ومطامح يتزايد طابعها الإنساني خالقة من الطبيعة المعطاة طبيعة ثانية ذات صياغة إنسانية هي عالم الثقافة والمدنية أو الجسد غير العنصري للإنسان. أي أن الإنسان الاجتماعي التاريخي ظل يعمل من حيث الإمكان وفقًا لقوانين الجمال، كما أن إنسانية الحواس والقدرات ولدت وتولد بفضل تلك الطبيعة الثانية، عالم الثقافة والمدنية.
-7-
حساسية
sensibility, sensibilité
كان للمصطلح في البلاد العربية أهمية واضحة ابتداءً من بزوغ الحداثة إلي منتصف القرن العشرين، ولكن أهميته تضاءلت بعد ذلك. ومن الناحية اللغوية يرجع جذر المصطلح إلي الإدراك بواسطة إحدي الحواس. والحاسة قوة طبيعية يدرك بها الجسم الحي تأثير الأشياء الخارجية ويُشتَق منها الحس؛ وهو مقدرة علي المعرفة بصورة مباشرة وبدهية مثل حس الإيقاع. والحس الخلقي هو ضمير يميز بين الخير والشر. ويحكم علي قيمة الأعمال والأفكار والأقوال. وهناك الحس المشترك common sense, sens commun ويسمي أحيانًا الحس السليم، ويعتبر أحيانًا نوعًا من الحاسة السادسة مشترك بين جميع الناس. وتوسع نقاد الأدب وقالوا بحس أدبي أو ذوق أدبي أي بملكة أدبية وتعني نمط الحس بالأمور الفنية الأدبية. ويختلف ذلك كل الاختلاف عن ردود الفعل العضوية الحادة بتأثير عامل مرضي ولا علاقة لها بالحساسية الأدبية التي تعني القدرة علي الإحساس الدقيق وقوة الشعور وشدة الإحساس بالأحوال الانفعالية. فثمة اختلاف في الاتساع بين الحساسية في الاستعمال الأدبي والفني sensibility والاستعداد للإثارة الحسية عند فرد بواسطة الأشياء والأحداث التي تخصه شخصيًا sensitiveness وتلك القابلية للإثارة الحسية ليست مصطلحًا أدبيًا أو جماليًا، والحساسية الأدبية أو الفنية عمومًا ليست مقصورة علي الحواس الخمس بل تتعلق بالتجارب الحسية والعاطفية والعقلية وتجارب التعبير جميعها. إن المصطلح الأدبي الفني لا يتحدد بالاشتقاق اللغوي وحده، بل بالاستعمال التاريخي في المحل الأول، كما جري وفقًا للأعراف. وحينما يتكلم مؤرخ أدبي أوروبي عن أدب الحساسية فإنه يشير تحديدًا إلي ظاهرة ثقافية معينة في القرن الثامن عشر، نشأت كرد فعل ضد عقلانية ورواقية القرن السابع عشر اللتين أكدتا العقل والإرادة غير العاطفية باعتبارهما الحافزين المفردين للفضيلة. وكذلك كرد فعل ضد نظرية توماس هوبز (1651) القائلة إن الكائن الإنساني بفطرته أناني وإن دوافع سلوكه الأساسية ترجع إلي المصلحة الأنانية الذاتية والسعي وراء الكسب والنفوذ والمكانة. وفي مواجهة ذلك نشأ أدب الحساسية متمثلاً في عظات ورسائل شعبية تدعو إلي الخيرية والإيثار وتصرح بأنهما نظرتان تقعان في مركز التجربة. فالحساسية هي مشاعر التعاطف مع الآخرين واستجابة سريعة الاستثارة لآلامهم ومباهجهم بالإضافة إلي استجابة مكثفة للجمال والجلال في الطبيعة والفن.
وكانت تلك الحساسية مؤشرًا لمنزلة الفرد وحسن تربيته، فالاستعداد لذرف الدموع تعاطفًا مع حزن آخرين هو علامة تربية مهذبة لأبناء السادة المحترمين وفؤاد ممتليء بالورع والفضيلة. وتلك الاستجابة عاطفة مبهجة في ذاتها، فيها ترف أن يكون المرء حزينًا لأحزان آخرين، فذلك ممتع. ولكن الكثير مما كان يسمي في ذلك العصر حساسية؛ تسمية تمجدها، صار يسمي الآن نزعة عاطفية مفرطة بعيدة عن العقل.
وقد مجدت رواية الحساسية في أواخر القرن الثامن عشر آلام الفضلاء والفاضلات مثل رواية "باميلا" للكاتب ريتشاردسون واسمها الفرعي "مكافأة الفضيلة". وكانت صرعة الحساسية عالمية، متمثلة في رواية جان جاك روسو التي عنوانها جولي Julie أو هيلواز الجديدة (1761) وفي سيرته الذاتية اعترافات (1764-1770) التي كانت تعبيرًا عن كثافة الاستجابة للجمال أو الجلال، أي الحساسية الجمالية. فمصطلح الحساسية في القرن الثامن عشر كان يعني عمومًا سرعة التأثر بالمشاعر الرقيقة. ومن ثم قدرة لا تقف عند مشاعر الذات، بل تتعداها إلي الاستجابة لمشاعر الآخرين، وكذلك إلي الاستجابة لمشاعر الآخرين، وكذلك إلي الاستجابة لكل ما هو جميل.
واختلفت الحال تمامًا في القرن التاسع عشر وحلت رقة الأحاسيس الخاصة sensitivity محل الحساسية الفنية، ولكن اللجوء إلي الأحاسيس الذاتية لم تتأسس كلمته قط باعتبارها مصطلحًا أدبيًا.
وفي النقد العربي الحديث كان من أوائل استعمال مصطلح الحساسية استعمال لويس عوض له عندما قال إن الأصل في ثورة العروض التي قام بها الشعر الجديد وخرج بها عن عمود الشعر التقليدي هو أن مضمون الحياة التي عرفها الأولون يختلف عن مضمون الحياة الحديثة وهو يحتم تجويد صورة الأدب بما يجعلها أقدر علي حمل وتوصيل مضمون الحياة الجديدة. وعند لويس عوض لا يدخل في هذا المضمون موضوع الشعر وحده ولكن حساسية الشاعر للحياة وطبيعة انفعاله بها وتأمله لها وتعبيره عنها لغة وخيالاً وتصويرًا. والحساسية هنا حساسية جديدة، وتعد نقلة في الإبداع. ثم استعمل المصطلح إدوار الخراط وصبري حافظ بطريقة مختلفة. ويؤكد لويس عوض أن الثورة الحقيقية فيما كان يسمي بالشعر الجديد هي اختلاف النظرة للعالم. وعنده أن الشاعر بعد أن كان يمسك بربابة ويتغني بحالة وجدانية خاصة تحول إلي إنسان يعبر عن هموم الإنسانية أو هموم جيله في هذه الفنرة. وبعد ذلك حينما جاءت السبعينيات وأشعارها تصاعد صخب نقدي شديد الارتفاع يسميها في بعض الأحيان حساسية جديدة (إدوار الخراط صبري حافظ) وفي أحيان أخري الحداثة الشعرية (جابر عصفور، محمد عبد المطلب). ويفرق الخراط بين الحساسية الجديدة والحداثة. وفي ظنه أنهما يتقاطعان ولكنهما لا يتطابقان. فالحساسية عمومًا تعني تطورًا تاريخيًا محددًا للكتابة يقع في الزمن أي مجموع الرؤي والطرائق الفنية التي تختلف عن مقابلاتها القديمة والأكثر قدمًا، أي مجموع الرؤي والطرائق الفنية الحديثة المختلفة عن التقليدية إزاء الاحتفاظ بالنمط البنائي المتسلسل أو تكسيره، والعكوف علي الترتيب المنطقي العقلي الفني أو تحطيمه ودرجة ذلك أي درجة الولوج إلي عالم الحلم والأسطورة والرمز ثم درجة التمسك بتقليدية طاقات اللغة أو درجة تفجيرها.
-8-
ابتذال هازئ
Burlesque, Burlesque
محاكاة باعثة علي الهزؤ لعمل أدبي أو موسيقي أو لأسلوب فني أو مذهب عقائدي أو أسلوب في الحياة للحط من وضعه. وتلك المحاكاة الهازئة أشد وأوسع مدي من المحاكاة الساخرة parody, parodie أي المحاكاة الضاحكة الهجائية التي تتجه إلي مجرد الانتقاص، فهي أقوي وأوسع في النغمة والأسلوب. وقد استعمل أرستوفانيس الابتذال الفكاهي في مسرحياته كما استعملته مسرحيات الساتورا satyr، الملهاة الشعبية أي الخليط من الموسيقي والحوار الهزلي ولكنه ليس مقصورا علي الدراما. إن دون كيشوت هي ابتذال فكاهي للرومانس. وهناك أشعار صمويل بتلر Samuel Butler الهازئة بالرومانس والفروسية والنزعة الطهرية. وكتب بوالو Boileau ملحمة يهزأ فيها بقواعد الملحمة الكلاسيكية كما سيطر بوب Pope سيطرة عظيمة علي إمكانات البرليسك. وكتب سويفت Swift أعمالاً ممتازة تنتمي إلي البرليسك. وفي العامية المصرية تعتبر منه شعلقات حسين شفيق المصري وأغاني شكوكو التي كتبها فتحي قورة لمحاكاة أغاني أم كلثوم. كما حفلت كتابات يحيي الطاهر عبدالله بالمحاكاة الهازئة لأساليب شائعة في السرد القصص، فقد تنتحل أسلوبًا معينًا انتحالاً هازئًا مثل الوصف التفصيلي للعام المتشيئ منتقدة هذا العالم المتطاير في غبار الناس والأشياء والحركات. وعنده نجد كذلك تهكمًا من أسلوب آخر في السرد هو أسلوب ارتياد حالات نفسية عند فرد معزول محاصر في كهفه السيكولوجي. والابتذال الفكاهي ماثل هنا في صب هذه الحالات في أوضاع متجمدة، والتهكم من مزاعم إدراك الذات في أعمق أعماقها للحس الباطن والواقع الأولي للشعور. ويبين السرد أن هذا التدفق الذي يدعي الطابع الشعري في كليشيهاته المحفوظة ليس إلا أفعالاً منعكسة آلية ودوافع بدائية. ففي وقدة الرغبة في البكاء لأن العاشق إيليا غابت عنه حبيبته كانت ألياف برتقالة قد اختبأت بين أسنانه تسبب له ضيقًا، وظل يبحث عنها بلسانه حتي عثر عليها أخيرًا ثم قذفها مع البصقة في الهاء وهو يحس بالراحة لتخلصه من هذا الهم. فالقص يعمد إلي تبشيع سردية العالم المبعثر والذات المفككة والعاطفية الصارخة، كما يبشّع لغات أخري دعية الحماس مثل لغة المذيع الرسمي ولغة الرقيب السينمائي في أهمية الرقابة لحماية المجتمع والصغار بالإضافة إلي اللغة العاطفية الطنانة.
وقد عرف الأدب العربي أعمالاً بارزة يمكن أن تنتمي إلي الابتذال الفكاهي (البيرلسك) أو المحاكاة الهازئة مثل البخلاء للجاحظ فهو يدور حول نوادر البخلاء التي تدخل في باب الهزل أو باب الجد. والنوادر بعضها حقيقي وبعضها يجيء علي سبيل المزاح والملاطفة وجعل الهزل وسيلة للإمتاع والارتياح وخلو البال. فالضحك في نظر الجاحظ فعل جميل، وقد قال تعالي "وأنه هو أضحك وأبكي وأنه هو أمات وأحيا". فوضع الضحك بحذاء الحياة ووضع البكاء بحذاء الموت. والجاحظ يبالغ في تهكمه التبشيعي بالبخلاء وقد جردهم من أية مزية وألصق بهم كل عيب. فهو يصل إلي تهكم تبشيعي. وينطبق له علي عمل ذائع له هو "رسالة في التربيع والتدوير" وهي حول شخصية الكاتب أحمد بن عبد الوهاب ابتداء من شكله ومظهره. فخصائصه الجسمية معيبة وكذلك خصائصه الأخلاقية. وكل ما ذهب إليه الجاحظ من إسراف في التبشيع يعتبره من باب المزاح وهو يحذر القراء من مجاوزة الحد علي الرغم من أنه يجاوز الحد كثيرًا، وإن دعا إلي الاعتدال معتذرًا بأن المجتمع الذي عاش فيه كان مجتمعًا يموج بالبخلاء والمغفلين والحمقي والشطار والموسوسين والمتعالمين. وكان عليه من وجهة نظر ثانية أن يقاوم تيارًا عامًا من الكآبة والصرامة والمبالغة في اصطناع الجد والتقعر.
أهم المصادر
إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة
أحمد مطلوب: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها
البدراوي زهران: مبحث في قضية الرمزية الصوتية
لويس عوض: دراسات في النقد والأدب. بيروت د.ت. ص 31
والتر ستيس: معني الجمال (ترجمة إمام عبدالفتاح إمام)
Otto Jespersen: Language, Its nature, development, and origin
-1-
معني الجمال
The Meaning of Beauty, Le Sens de Beauté
يصف الناس أشياء متباينة مثل القصائد والروايات واللوحات والقطع الموسيقية، ووجوه شابات، والأزهار ومنظر الغروب بأنها جميلة. فما الذي يجعلها تحدِث في البشر هذا النوع الخاص من التأثير الذي يوصف بأنه جمالي؟ يري مفكرون أن هذا الشيء المشترك عيني وليس مجردًا، يُدرَك بالحواس ويشغل حيزًا مكانيًا. فالقصائد والروايات تنقلها الكلمات والأصوات وتمكن رؤيتها مكتوبة أو سماعها والنطق بها، أي تدركها الحواس، وكذلك الحال مع بقية أنواع الأدب، فهي تقدم مجالات من المدركات الحسية.
والفارق النوعي بين الأدب (والفن عمومًأ) من ناحية والعلم والفلسفة من ناحية أخري هو أن الأدب (والفن عمومًا) لا يسعي وراء قوانين أو مفاهيم مجردة كلية مثلهما، فهو مجال للمدركات الحسية. ولكن المدركات الحسية تنتمي إلي نوعين: إدراك للموضوعات الخارجية عن طريق الحواس الخمس، وإدراك داخلي عن طريق الاستبطان (ملاحظة الذات وتأمل الحالات النفسية والمشاعر والأفكار والإرادة). والمشترك بين المدركات الحسية جميعها هو أن ما تدركه حاضر مباشر أمام الوعي. ومن المجمع عليه أن المدركات الخارجية مثل الكتابات واللوحات والقطع الموسيقية وكذلك الأزهار والفتيات ومنظر الغروب يمكن أن تكون جميلة، ولكن أيمكن أن تكون السمات الشخصية أو الانفعالات أو النفس، وهي مواد التناول التي ينشغل الأدب بتصويرها وتحليلها جميلة، أم ينحصر الجمال في الموضوعات الحسية؟ أيمكن أن تكون الموضوعات النفسية والذهنية جميلة بذاتها أو بطريقة تصويرها؟ الصعوبة ماثلة في أن الرأي السائد عند كثير من المفكرين يتجه إلي اشتراط أن تكون الموضوعات الجميلة عينية ومحسوسة معًا. ولكن في حالة الأدب لا تكون الصورة الأدبية موضوعًا فيزيقيًا، فهي باستمرار فكرة ذهنية عن موضوع يمكن أن يكون طبيعيًا، ومن ثم يمكن أن توصف بالحسية، وهذا ما يتعلق بالفكرة. أما الأمر الحاسم فهو أن الصورة لا تتحقق إلا بواسطة الكلمات، أي بأصوات مسموعة أو بكتابة مرئية وهي مدركات خارجية. ولا يخلط التفكير الجمالي بين الفن (والأدب) والمعرفة، ولكنه لا يرفض أن يكون في الفن والأدب قدر من المعرفة بشرط ألا تنعزل المعرفة مقتطعة في ذاتها حتي لا يصيبها الجفاف والتحجر في وهدة التجريد والنزعة التخطيطية الاختزالية. وقديمًا رأت الأفلاطونية في مذهبها المعرفي جمالاً مطلقًا خالدًا، واعتبرت أن جمال الأشياء يرجع إلي أنها تحوي انعكاسًا للمثل ويستهدف الفن عندها إعادة خلق ذلك الجمال المتعالي المطلق والإبداع داخل نطاقه. وقد عاشت الأفلاطونية زمنًا طويلاً باعتبارها صنمًا، وما تزال تحيا علي نحو مزعزع في نظرية الفن للفن. وتعرضت بطبيعة الحال لهجمات النقد التاريخي الذي يبرز الصفة النسبية للجمال؛ ولكل عصر ولكل حضارة فكرة خاصة عن الجمال الخاص. وقد تتغير وتتحور تلك الفكرة وفقًا للأمة والطبقة.
وتستخدم اللغة تفريعات وتنويعات مختلفة للجميل في الطبيعة والمجتمع والجسد الإنساني والتعبير مثل: رشيق graceful, graceux، ومعتدل القامة حَسَن القد pretty, jolie من الحُسن صفاته تروق العين، رائع wonderful, merveilleux ماجاوز الحد في الصفات التي تأخذ بمجامع القلوب، والفاتن charming, charmant يجذب ويأخذ باللب، والوسيم حسن الوجه good-looking, beau. وكل هذه التنويعات تُستخدَم بطريقة تعسفية في الكتابة الأدبية، فليست لها نظرية جمالية تجمعها وتحدد الفروق بينها، بل تعبر عنها ألفاظ رائجة منتشرة تصف الكثير جدًا من الدرجات الممكنة للإحساس بالجمال دون تحديد دقيق.
-2-
ابتهال
Invocation, Invocation
تضرع أو مناشدة أو مناجاة من أجل العون (علي الإلهام مثلاً) موجه إلي الربة الملهمة في بداية الملحمة، كتقليد في الإلياذة والأوديسه والفردوس المفقود. وقصيدة سافو إلي أفروديت من أقدم الابتهالات. وكان الابتهال وسيلة سحرية للتأثير في الربة لاكتساب بعض القوة إزاء الواقع، فهي عمل سحري والغاية التأثير في الألهة الوثنية والبشر. ونجد قصائد التوبة والتضرع إلي الله عند أبي العتاهية والزهاد والمتصوفة. وقد لقي هذا الابتهال كتقليد شعري محاكاة ساخرة عند الرومانسيين، كما أن مخاطبة الأطلال كمطحع شعري لقي سخرية أبي نواس. وتكرر ترديد الابتهالات في تسلسل عند الكهنة والمصلين في العصور الوسطي فيما سمي الابتهال المتسلسل litany, litanée الذي يطلق الآن علي الكتابة المطولة المملة.
-3-
ائتلاف
Conformity, Conformité
تركز البلاغة التراثية علي أن يجمع الناظم أو الناثر أمرًا وما يناسبه وصولاً إلي المطابقة، سواء كان التلاؤم بين اللفظ واللفظ، أم المعني المعني، أم اللفظ والمعني. فالمقصود جمع شيء إلي ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أحد الوجوه؛ وتلائم الألفاظ بعضها بعضًا بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله رعاية لحسن الجوار وللتناسب، أو بأن تتماثل في الجرس حتي يكون الكلام مؤتلف النسج. كما تراعي درجة تجريد الكلمات أو عينيتها، عرفيتها أو مجازيتها، عاديتها أو اصطلاحيتها، شيوعها أو ندرتها، ودواعي ملاءمتها الخاصة لنوع أدبي أو آخر. وائتلاف اللفظ مع المعني أي إعرابه عن فحواه، فلا يكون الغزل كالفخر ولا التعريض مثل التصريح، أي يكون التلطيف مع الغزل، والتفخيم مع الفخر. ويتميز المدح بالشجاعة والبأس عن المدح باللباقة والظرف. ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف مجلس الشراب والمنادمة. إن المعني الفخم يشاكله لفظ جزل، والمعني الرقيق يشاكله لفظ رشيق. وهناك ائتلاف اللفظ مع الإيقاع، وائتلاف الإيقاع مع المعني دون أن يضطر الإيقاع الشعر إلي تأخير ما يجب تقديمه، ولا إلي تقديم ما يجب تأخيره، ولا إلي إضافة لفظة أو معني يلتبس بها السياق أو لا يجتاج الغرض الشعري إلي المعني المضاف. ويزعم حازم القرطاجني أن هناك صلة بين الأوزان والمعاني، ووجوب محاكاة الأوزان للأغراض والمقاصد ولكن ذلك جري تفنيده. وعمومًا تؤكد البلاغة التراثية علي التجانس والانسجام.
-4-
الرمزية الصوتية
sound symbolism, symbolisme du son
هناك في البلاغة التراثية وفي اللغويات الحديثة تخمينات حول ائتلاف الأصوات اللغوية (الحروف) ومدلولاتها في رمزية صوتية. ويرجع ذلك إلي تخمينات بدائية تتعلق بنشأة اللغة افترضت أن الأسماء في الأصل محاكاة لأصوات طبيعية: صوت نباح الكلب أو عواء الذئب أو زمجرة الرعد صار اسمًا لفاعل الصوت. وعاصرت تخمينات محاكاة أصوات الطبيعة تخمينات أخري تفترض أن الأسماء صدرت عن صرخات وأصوات انفعالية، عن شهقات وتأوهات انفعالية للتعبير عن الذات. وقد حاول دارون الربط بين الأصوات اللغوية وبين ما يحدث لأعضاء النطق من تقلص أو انبساط؛ الشعور بالضيق أو الازدراء يصحبه في العادة صوت نفخ من الفم أو الأنف صوت بوه pooh باللغة الانجليزية أو "أف" بالعربية. وحينما يفغر المرء فمه يميل إلي الاستدارة ويصدر صوتًا يشبه الضمة، وحينما تطول الضمة يتصل بها صوت يشبه الهاء، وينشأ عن هذين معًا صوت أوه oh الملازم للتأوه. ولكن في حالة التألم تتقلص أعضاء الجسم وتأخذ الشفتان وضعًا يناسب صوت الفتحة يؤدي إلي إحداث صوت آه. ولكن تلك الأصوات تختلف باختلاف القوميات واللغات. وقد كتب كبلنج Kipling في إحدي قصصه يصف شخصية بقوله إنها ليست من الأفغان لأنهم هناك يبكون بصوت آي آي Ai Ai وليست من الهند لأنهم يبكون بصوت أوه أوه ولكن تلك الشخصية تبكي علي طريقة بكاء الأوروبيين أو أو ow ow. وهناك استنتاج يذهب إلي أن النطق الإنساني نشأ في صورة جماعية؛ حين يعمل الناس تصدر عنهم أصوات تخفف من عناء العمل مثل هيلا هوب هيلا هيصا (عند العرب مثلا)، فهي مرتبطة بالتنفس ولا تتضمن معني محددًا. وقد أكد بعض المفكرين العرب مثل جلال الدين السيوطي أن هناك ائتلافًا وتناسبًا بين اللفظ ومدلوله، أي لابد من وجود رابطة عقلية منطقية بين الأصوات والمدلولات (رمزية صوتية). ويري بعض هؤلاء المفكرين إن أصوات الجيم والباء والهاء والراء مهما يختلف ترتيبها في الكلمة تعبر عن القوة والشدة: جبر العظم، جبر الفقير تقويتهما، والجبروت القوة والجبر الأخذ بالقهر والشدة، والجراب يحفظ ما فيه، والبرج قوي متين. ويري بعض أصحاب هذا الاستنتاج أن النون والجيم والدال مهما تقلب تعبر عن القوة والنجدة والإعانة. النجد ما ارتفع من الأرض، والجند حماة الوطن، والدجن المطر الكثير. وعلي النقيض من اجتماع النون والجيم والدال اجتماع السين والميم والحاء في سمح؛ ومنها السماحة التي هي لين ودعة ومنها المسح. ولكن علي النقيض من هذا التحقق هناك حمس وحماسة بمعني الشدة في القتال وهناك حسم بمعني قاطع. ويري الدكتور كمال بشر أنه بإنكاره وجود هذا الائتلاف الطبيعي في الأمثلة المتناقضة لا يعني عدم وجود هذا الارتباط نهائيًا، ولكنه يعني إنكار أن يكون الارتباط كاملاً ومطردًا، إنكار أن يكون قاعدة عامة. ولكن ذلك لا يمنع أن تكون هناك أمثلة يتحقق فيها هذا الائتلاف بوجه من الوجوه أو بصورة من الصور. وكذلك ظل الخلاف يدور حول السؤال: أبإمكان الألفاظ مثلاً أن تدل تمام الدلالة علي المعاني التي في داخل النفس، أم أنها لا تستطيع البوح بكل ما في الوجدان؟ إن البحث الذي كان عن العلاقة بين اللفظ وماهية الشيء انتقل إلي البحث عن العلاقة بين اللغة والمشاعر الباطنة. ويري كثيرون علاقة طبيعية بين الألفاظ الموضوعة لمحاكاة أصوات الحيوان والطير وتلك الأصوات نفسها، فالعصفور يزقزق والحمام يهدل والقمري يسجع والهرة تموء والكلب ينبح والعجل يخور والحمار ينهق والذئب يعوي. ومثل ذلك في هزيم الرعد وخرير الماء وشهيق الباكي وتأوه الموجوع وحشرجة المحتضر وتمتمة الحائر وغمغمة الغامض. ولكن اللغات المختلفة لها ألفاظ مختلفة لهذه الأصوات، فالائتلاف أو التناسب ليس طبيعيًا.
وعلي الضفة الأخري يذهب كثيرون إلي رفض الائتلاف بين الخاصة الصوتية للحروف ودلالتها التعبيرية، فهو لا يصدق إلا جزئيًا. فعلي سبيل المثال يدل حرف الغين غ علي الغياب والخفاء والاستتار. غاب غار غاص غام غمد غمر غمض غرب غرز غرس غرق غطي. ولكن أين حرف الغين في الاستتار والخفاء؟ فليس حرف الغين وحده هو الذي يعطي المعني وإنما حروف الكلمة مجتمعة. وهناك ادعاء بأن حرف النون يدل علي الظهور والبروز: نفث، نفخ، نبت، نجم، نشأ، نهض، نما. ولكن حرف النون وحده ليس الذي يعطي الدلالة وانما الذي يعطيها هي حروف الكلمة مجتمعة. ولكل كلمة دلالتها المختلفة. أما حرف القاف (ق) فإن هناك ادعاء بأن الكلمات التي يرد فيها تتضمن معني الاصطدام أو الانفصال إذا صاحبته ضجة، فالقاف حرف شديد: قدّ، قطع، قرع، دق، شق، طق، طرق، عقر، عقّ. وهناك ادعاء بأن حرف السين (س) يجمع كثيرًا من الألفاظ التي يدخل فيها معني الليونة والسهولة: سهل، سلم، سلس، سال، سار، ساب، ساح، ساق، مس، سحب، سكن. وقد استنتج لغويون وأدباء من هذه الأمثلة وأشباهها أن للحرف الواحد في تركيب الكلمة العربية قيمة تعبيرية، وأن الكلمة الثلاثية تعبر عن معني هو ملتقي معاني حروفها الثلاثة ونتيجة تمازجها. كلمة غرق عندهم تدل فيها الغين علي غيبة الجسم في الماء والراء تدل علي التكرار والاستمرار في سقوطه والقاف تدل علي اصطدام الجسم في قعر الماء. والمعني الإجمالي حاصل من اجتماع المعاني الجزئية للحروف وهو مفهوم مادة غرق. ولكن الكثرة من الباحثين تؤكد عدم وجود قانون عام يشمل ألفاظ العربية في مجموعها. وأول من أشار إلي ائتلاف الألفاظ ومدلولاتها من علماء العربية هو الخليل بن أحمد الفراهيدي ثم تابعه تلميذه سيبويه. فعندهما تدل الأصوات المعينة علي معان معينة. وهناك آخرون يواصلون القول بإخاء بين الحروف: السين أخت الزاي، واللام أخت الراء، والعين أخت الهمزة وإن تكن الهمزة أقوي من العين. أما آخرون من مفكري العربية فقد قالوا بالطبيعة الاعتباطية والعرفية للألفاظ. وعمقوا هذا القول في التراث العربي مثل الغزالي وبعض الشعراء والناثرين. ولكن بعض مبدعي الأدب المعروفين بتجويد الصياغة لا يجدون حرجًا في أن يعمدوا إلي استغلال إمكانات الأصوات في الإيحاء بالمعني أو محاكاته لأن المعني عندهم يرتقي ويزداد إرهافًا إذا ما صاحبته مؤثرات صوتية وإيقاعية خالصة. وعند إدوار الخراط يتكرر حرف الحاء في لحظة الاحتدام والحرارة والحرقة في رامة والتنين، تجانس الجرس الصوتي ( assonance).
ويري نقاد محدثون أن بلاغة القدماء تقف عند اللفظ والمعني، أما البلاغة الجديدة فتنتقل من دراسة الجملة لغة إلي دراسة اللغة نصًا وخطابًا وأنواعًا أدبية وأسلوبية. والبلاغة الجديدة ليست في ائتلاف اللفظ واللفظ، أو اللفظ والمعني، فهي بلاغة بناء وسياق ونمو داخلي وتناسب الأجزاء مع إدراك التناقضات وصراعها، ولها خصوصيتها ودلالتها الإنسانية المتطورة المستمرة.
-5-
اللعب والفن
Play and Art, Le jeu et lArt
يدل اللعب في معناه العام علي نشاط حر ممتع ويندرج ما يقال عن تماثل بين اللعب والفن بطرق متعددة من مجرد استعارة إلي هوية حرفية، فهناك تباين بينهما وبين أنشطة العمل والأنشطة التي تمارس تحت إجبار أو إكراه ما اقتصادي أو سياسي أو أخلاقي. ويرفض كثيرون هذا التماثل، فالفن كان دائمًا نشاطًا يتسم بالجدية عند البالغين، كما يقبله بعض المفكرين الذين يركزون في الفن علي طابع اللذة والترفيه. وبين التطرفين هناك الذين يجدون قيمة إيجابية في الفن واللعب من ناحية القيمة الثقافية ويذهبون إلي القول بالطاقة الفائضة أو وقت الفراغ كدافع للثقافة، ويرون الفن واللعب نتاجًا لهذا الفيض من الطاقة بعد تلبية الحاجات الضرورية. كما يذهبون إلي القول بالتعليم والمحاكاة والتجارب المتقمصة البديلة (ممارستها كما لوكانت بالنيابة)، فالفن واللعب يلقيان التقدير لطريقتهما في تمكين الناس من مواجهة واقع خشن دون أن يصابوا بأذي. وثمة كذلك ادعاء بأن الطفل يظل ماثلاً في البالغ الناضج وتأكيد عمليات السذاجة والبراءة واللاوعي في تضادها مع العقلانية.
وفي العصر القديم كان من النادر ربط الفن باللعب، فقد كان للفن امتيازه الطقسي، علي حين كان يعتقد أن اللعب هو نشاط الحيوانات والأطفال وفي مرتبة دنيا، أو يظن أنه بلا غرض سام أو وظيفة معرفية وأنه عابث طائش ومضيعة للوقت وإن يكن مصدرًا للذة ما. وبطبيعة الحال كان هناك في العصر القديم كما في كل الأزمنة أولئك الذين يجدون غاية الفن في اللذة الجمالية والاسترخاء والترفيه وما أشبه. ولكن كانت توجد كذلك أفكار عن الصلة بين اللعب والمحاكاة والتربية مما يربطه بالفن نجدها عند هوميروس وغيره في إشارات متناثرة إلي قيمة خاصة بالتحضيروالإعداد في ألعاب الأطفال وبتهيئة لمرحلة النضج. فهناك ألعاب بالصلصال والرمل والحجر ترهص بالنحت والعمارة، وألعاب النزاع والصراع ترهص بالدراما وقد تكون إعدادًا للقتال. وفي هذه الألعاب أنشطة رمزية تختلف عن الأنشطة الواقعية, ويري أفلاطون أن اللعب متصل اتصالاً وثيقًا بالمحاكاة. فالأطفال يلعبون أنهم جنود أو أنهم كبار أو أبطال. وتعد تلك الألعاب إعدادًا تربويًا لروح النظام والقانون بغير طريق الإجبار. أما أرسطو فيذهب إلي أن الفن (والشعر خصوصًأ) لا يحاكيان فحسب ما هو واقعي كما هي الحال عند أفلاطون بل ما يمكن أن يكون، فالخيال ليس مقيدًا بالفعلي بل حر في اللعب بالممكن والمرغوب. ويذهب كانط إلي اللعب الحر للخيال، وإلي وجوب التوازن بين الحقيقة الواقعية أو المنطقية والحقيقة الجمالية، الأولي موضوعية وجادة والثانية ذاتية ولعوب. فالحقيقة الجمالية تتطلب رد الاعتبار لها ونفي اتهامات بالطفولة والطيش عنها، مما يستوجب ربطها بالحقيقة الواقعية.
وعند أرسطو كانت تلك الصلة أقوي بعض الشيء من تعليق عدم التصديق suspension of disbelief, suspension de incrédulité عند كوليردج (طرح الشك جانبًا والامتناع عن توجيه أسئلة عن الحقيقة والواقع وقبول نتائج الخلق الخيالي)، فهناك ملامح للعب في هذين المستويين.
واللعب الحر للخيال مهم عند كانط وهناك الآن إحياء متجدد للاهتمام باللعب وعلاقته بالفن، ويدور حول وظيفة المحاكاة والتقمص والتربية في عمليات التعليم والتنشئة الاجتماعية حيث تتأكد بنية قواعد ذاتية الغرض تستدعي إعمال الخيال ومعارضته سلبية المتلقي بإيجابية المبدع. ولكن بعض المفكرين المعاصرين يرون أن الفن مشتبك اشتباكًا حميمًا بالحياة إلي درجة تمنعه من أن يكون مجرد لعب وإن وسّع بعض الاشتراكيين الخياليين من نظرية وقت الفراغ إلي درجة إدخال الفن واللعب في الأنشطة المناسبة لمجتمع الوفرة في ستينيات القرن العشرين. فهناك ميل متزايد لتوسيع نطاق الإبداع والتجديد والقواعد الذاتية الخالصة. وكان التأمل الجمالي الحر قد ارتبط عند تشارلس بيرس باللعب الخالص. كما ادعي كوستلر أن الاكتشافات والتجديدات في العلم الرياضي والفيزياء النظرية والفن الجميل لا ترجع إلي التكنولوجيا أو النفع المباشر، بل مرتبطة بدوافع اللعب ومترجمة إلي مجال الخيال والتجريد والشكل!. وثمة مساحة غامضة متعلقة بالخصائص الطفولية بما فيها الاتجاه إلي اللعب تتمثل في ملامح مزعومة يتطلبها الفن الآن تتركز في الطبيعة اللاواعية للإبداع والتأكيد فيه علي براءة الطفل وتلقائية فطرته واستغراق أنشطته في ذاته، وكلها مفضلة علي حسابات البالغين وجريهم وراء أغراضهم العملية. وتوصف الرؤية الفنية في هذا الادعاء بتماثلها مع رؤية الطفل البريئة الطازجة غير المثقلة بالجمود المفهومي أو غير الخاضعة لمعايير معرفية أو أخلاقية أو نفعية.
ولا يجب الخلط بين ذلك الادعاء وتحرر فنانين مثل الشاعر ريلكه أو الرسام بول كلي من مطالب التمثيل والمحاكاة أو من مطالب نماذج صياغية تشكيلية مقرة. فليس من الصواب الإصرار علي أن كل مظاهر التحول في الأهداف الفنية متصلة بالحنين إلي بساطة الطفولة أو إلي ممارسة اللعب. فقد يرجع جزء من هذا التحول إلي التحليل النفسي الفرويدي أو التركيز علي الجماليات. وهناك بحث لفرويد عنوانه "الكتاب المبدعون وأحلام اليقظة" يربط بين الخيال والإبداع واللعب، ويستنتج توازيًا بين الطفل والكاتب، فكل منهما يخلق عالمًا خاصًا به. وهذا العالم يؤخذ باهتمام جاد؛ لأن عكس اللعب ليس ما هو جاد بل النفعي المباشر. ويذهب فرويد إلي أن اللعب ليس بالكامل عديم الصلة بالواقعي وإلا سيكون توهمًا وليس لعبًا. ونصل من ذلك إلي أن ملامح من العالم الواقعي يعاد تنسيقها بواسطة الطفل في لعبه، وبواسطة الفنان في إبداعه (رغم تباين المستوي والقيمة). والفرق بين هذين وحلم اليقظة هو أن حلم اليقظة يتضمن درجة من تحقيق الأمنية (ربما تتحرك مستقبلاً نحو العصاب أو الذهان). وإذا كانت قطعة من الكتابة الخلاقة تشبه حلم يقظة فإنه يمكن اعتبارها استمرارًا لما كان ذات مرة لعب طفولة وتعويضًا عنه.
-6-
أدبية
Literality, Literalité
موقف جمالي محض يركز علي ما يميز الأدب مما ليس بأدب. موقف نخبة يركز علي جماليات الأدب في حد ذاته ويفصل بين ما هو اجتماعي (اقتصادي/ سياسي) أو سيكولوجي وما هو أدبي بحت. فالأدب ليس سوي كلمات. ومن هنا أسطرة الظاهرة الجمالية التي اصطلح علي تسميتها أدبًا وتهميش السياق الاجتماعي والثقافي الذي أنتج فيه الأدب أو الذي استُقبِل في إطاره. ويقال إن ذلك رد فعل إزاء ما أصاب الأدب من فقر وتسطيح في خدمة السياسة الرسمية وكانت تسميها قضايا المجتمع. وقد وصل رد الفعل إلي توجه صوفي أسطوري يتم تجميله في صورة أدب محض، مستقل عن العوامل التي أثرت فيه والآليات المركبة التي تربطه بالسياقات الثقافية الحية، أي اختزال الأدب في تاريخه إلي الصور والصيغ البلاغية وتكريسه لرؤية ذاتية للوجود. وهذا الاختزال لا يزيد في حقيقته عن كونه هالة إيديولوجية لا تقل ضيق أفق عن إيديولوجية سياسية مرفوضة كانت تري الأدب محض انعكاس للواقع الاجتماعي. وقد يكون الصواب في القول إن أدبية الأدب أي إضافاته الجمالية ماثلة في علاقاته بما هو خارجه من طبيعة حولها ويحولها الإنسان وتتوسطها تلك الطبيعة الثانية التي صنعتها الإنسانية عبر تاريخها، أي الطبيعة الاجتماعية الثقافية. فمن الخطأ الارتكان إلي ذاتية فردية مغلقة في إطار انسحابي من العالم يغيب البعد الاجتماعي في الدرس الأدبي ويكرس رؤية أسطورية مطلقة لجمالية الأدب، رؤية أخروية نخبوية والحقيقة أنه لا يكشف عن الاستقلال النسبي للجماليات الأدبية سوي الكشف عن علاقتها بسواها من النسبيات الثقافية (الإيديولوجية أيضًا). وهل يجرنا توكيد خصوصية العمل الأدبي (أي جماليته) إلي تفتيش داخله عن صفة محددة هي التي تهبه الخصوصية الأدبية؟ هل نصل إلي الخصوصية الجمالية بعزل صفات جاهزة مغروسة في أحشائه بعد غربلة العمل لفرز تلك الخصيصة التي تميزه؟ فهل تلك الخصيصة هي صياغة نوعية ثابتة من الممكن أن نعتبرها مناط أدبيته؟ لقد ذهب النقد الجديد في أيام ازدهاره إلي أن الصياغة الأدبية النوعية هي مواضعات الأجناس الأدبية والإجراءات اللغوية والبناء الإيقاعي متمثلة في زمرة من الأدوات: الاستعارة الموسعة والاستعمال المتعمد للمفارقة. وربما يُفهَم من ذلك أن الجمالية الأدبية جوهر لا زمني بما أن الصياغة الأدبية نظام ثابت مستقل؛ بنية ثابتة من الأدوات التقنية، وصولاً إلي أن الأدبية جوهر نهائي يتميز بصياغة باطنة ملازمة له كنه يكاد يكون نوعًا خاصًا من سلع الاستهلاك الترفي، كأنه جوهرة من المجوهرات، ماسة لدي تاجر ماس. وتوجد هذه الصياغة بمعزل عن أنماط القراءة. ولكن القراءة ليست نشاطًا بريئًا مساويًا لنفسه عبر العصور، فالتواصل الاجتماعي بكل تناقضاته التاريخية هو الوسيط الذي تكتسب فيه الظاهرة الأدبية وجودها النوعي (إلقاء الشعر وتلقيه الجماعي أو القراءة الفردية، ووجود قراء لجنس أدبي معين ذوي إعداد خاص). فطريقة الاستجابة للأعمال الأدبية منقوشة في صميم طريقة الصياغة.
والأدب كما يقال يغمر نسيج الحياة الاجتماعية المعاصرة، ماثلاً فيها بوصفه إقناعًا وإغراء وحثُا وفتنة للحواس والذهن والوجدان جميعًا. وليست النوعية الأدبية الجمالية خصيصة صياغة محايثة في كل الأعمال الأدبية رغم تباينها النوعي تاريخيًا. هل من الممكن أن نعتبر أن تلك الصياغة ماثلة هي نفسها في الملاحم البطولية الشعرية وفي حكايات الجنيات الساذجة كما في المآسي الكلاسيكية والقصص الخرافية الشعبية، هل تلك الأنواع المتباينة ذات نسيج أدبي متجانس الصياغة؟ ألا تصير تلك الخصوصية الأدبية المزعومة وذات قوام بلا خصوصية مثل قوام الحساء (المرق)؟ لقد كان الأدب الرفيع في التراث اليوناني الروماني ثم المسيحي الرسمي يضم كتابات فلسفية وتاريخية وتعليمية متنوعة، بالإضافة إلي ما نسميه الآن كتابات الخيال الإبداعي. ولكنه كان يلفظ خارجه الأشكال الشعبية التي نعتبرها أدبية الآن. أما الأدب العربي فقد شمل في تاريخه الماضي المواعظ المنبرية والحكم والأمثال والخطب والمراسلات الديوانية: وبعض هذه العناصر توضع الآن خارج الأدب علي نحو حاسم. ومن الصواب رفض النزعة اللا أدرية التي ترفض كل استمرار في التاريخ الأدبي. فلهذا التاريخ في الحقيقة جانبان، جانب متعاقب متتال، وجانب متزامن يضم ما له قيمة مستمرة ويواصل البقاء. وليست قيمة الاستمرار ومواصلة البقاء جوهرًا ميتافيزيقيًا، بل هي مستمدة من رؤي القوي الطبقية الصاعدة أثناء صعودها وفق سيكولوجيتها الجمعية في كفاحها مع عناصر من السيكولوجيا الجمعية للطبقات الشعبية. وهذا المضمون المتطور تاريخيًا للأدب هو الخصائص الجوهرية للإنسان الاجتماعي أي هو التطور التاريخي لقدرات وطاقات الإنسان الحسية والوجدانية والذهنية مستوعبًا عند نقاط حاسمة. وكل رائعة من الروائع الأدبية المتعارف عليها تكثف مرحلة جوهرية لتطور طاقات الإنسان، يتعرف فيها الناس علي طبائعهم الإنسانية في تاريخهم. وتصير الرائعة الأدبية ذاكرة لعملية خلق الإنسان خصائصه الإنسانية الحقة والاستمتاع بالرائعة الأدبية هو بين أشياء أخري بمثابة غزو للماضي، وامتلاك كفاح الإنسانية لتطوير ثروتها الإنسانية الحقة. فليس الأدب من حيث الأساس إلا وعي الإنسانية بذاتها وبتناقضات تطورها وبمآزقه المأساوية ومفارقاته الكوميدية.
وينقلنا ذلك إلي مسألة الحساسية الإنسانية human sensibility باعتبارها زاوية النظر الصحيحة إلي الخصوصية الفنية (والأدبية). فمن أمثلة هذه الحساسية الإنسانية الأذن الموسيقية والعين التي تحس جمال اللون والشكل، وعلاقة الحب بين الرجل والمرأة التي ارتفعت بالحاجة الطبيعية إلي مستوي تبادل المشاعر وإلي معيار جمالي روحي وحركة المقهورين من أجل التحرر. وكل ذلك نجد له تجسيدًا في الأداء اللغوي الذي هو الواقع الفعلي الأول للوعي الإنساني. إن الحساسية الإنسانية ليست منتمية فحسب إلي مجرد الحواس البيولوجية المتوارثة بالجينات، فتطورها تطور اجتماعي تاريخي. إن الحساسية الإنسانية ليست منتمية فحسب إلي مجرد الحواس البيولوجية المتوارثة بالجينات. فتطورها تطور اجتماعي تاريخي. فالحساسية الإنسانية نتاج للعمل الاجتماعي وفاعلية البشر وهما يعيدان بناء العالم الطبيعي وفقًا لأهداف صارت إنسانية، ولرغبات ومطامح يتزايد طابعها الإنساني خالقة من الطبيعة المعطاة طبيعة ثانية ذات صياغة إنسانية هي عالم الثقافة والمدنية أو الجسد غير العنصري للإنسان. أي أن الإنسان الاجتماعي التاريخي ظل يعمل من حيث الإمكان وفقًا لقوانين الجمال، كما أن إنسانية الحواس والقدرات ولدت وتولد بفضل تلك الطبيعة الثانية، عالم الثقافة والمدنية.
-7-
حساسية
sensibility, sensibilité
كان للمصطلح في البلاد العربية أهمية واضحة ابتداءً من بزوغ الحداثة إلي منتصف القرن العشرين، ولكن أهميته تضاءلت بعد ذلك. ومن الناحية اللغوية يرجع جذر المصطلح إلي الإدراك بواسطة إحدي الحواس. والحاسة قوة طبيعية يدرك بها الجسم الحي تأثير الأشياء الخارجية ويُشتَق منها الحس؛ وهو مقدرة علي المعرفة بصورة مباشرة وبدهية مثل حس الإيقاع. والحس الخلقي هو ضمير يميز بين الخير والشر. ويحكم علي قيمة الأعمال والأفكار والأقوال. وهناك الحس المشترك common sense, sens commun ويسمي أحيانًا الحس السليم، ويعتبر أحيانًا نوعًا من الحاسة السادسة مشترك بين جميع الناس. وتوسع نقاد الأدب وقالوا بحس أدبي أو ذوق أدبي أي بملكة أدبية وتعني نمط الحس بالأمور الفنية الأدبية. ويختلف ذلك كل الاختلاف عن ردود الفعل العضوية الحادة بتأثير عامل مرضي ولا علاقة لها بالحساسية الأدبية التي تعني القدرة علي الإحساس الدقيق وقوة الشعور وشدة الإحساس بالأحوال الانفعالية. فثمة اختلاف في الاتساع بين الحساسية في الاستعمال الأدبي والفني sensibility والاستعداد للإثارة الحسية عند فرد بواسطة الأشياء والأحداث التي تخصه شخصيًا sensitiveness وتلك القابلية للإثارة الحسية ليست مصطلحًا أدبيًا أو جماليًا، والحساسية الأدبية أو الفنية عمومًا ليست مقصورة علي الحواس الخمس بل تتعلق بالتجارب الحسية والعاطفية والعقلية وتجارب التعبير جميعها. إن المصطلح الأدبي الفني لا يتحدد بالاشتقاق اللغوي وحده، بل بالاستعمال التاريخي في المحل الأول، كما جري وفقًا للأعراف. وحينما يتكلم مؤرخ أدبي أوروبي عن أدب الحساسية فإنه يشير تحديدًا إلي ظاهرة ثقافية معينة في القرن الثامن عشر، نشأت كرد فعل ضد عقلانية ورواقية القرن السابع عشر اللتين أكدتا العقل والإرادة غير العاطفية باعتبارهما الحافزين المفردين للفضيلة. وكذلك كرد فعل ضد نظرية توماس هوبز (1651) القائلة إن الكائن الإنساني بفطرته أناني وإن دوافع سلوكه الأساسية ترجع إلي المصلحة الأنانية الذاتية والسعي وراء الكسب والنفوذ والمكانة. وفي مواجهة ذلك نشأ أدب الحساسية متمثلاً في عظات ورسائل شعبية تدعو إلي الخيرية والإيثار وتصرح بأنهما نظرتان تقعان في مركز التجربة. فالحساسية هي مشاعر التعاطف مع الآخرين واستجابة سريعة الاستثارة لآلامهم ومباهجهم بالإضافة إلي استجابة مكثفة للجمال والجلال في الطبيعة والفن.
وكانت تلك الحساسية مؤشرًا لمنزلة الفرد وحسن تربيته، فالاستعداد لذرف الدموع تعاطفًا مع حزن آخرين هو علامة تربية مهذبة لأبناء السادة المحترمين وفؤاد ممتليء بالورع والفضيلة. وتلك الاستجابة عاطفة مبهجة في ذاتها، فيها ترف أن يكون المرء حزينًا لأحزان آخرين، فذلك ممتع. ولكن الكثير مما كان يسمي في ذلك العصر حساسية؛ تسمية تمجدها، صار يسمي الآن نزعة عاطفية مفرطة بعيدة عن العقل.
وقد مجدت رواية الحساسية في أواخر القرن الثامن عشر آلام الفضلاء والفاضلات مثل رواية "باميلا" للكاتب ريتشاردسون واسمها الفرعي "مكافأة الفضيلة". وكانت صرعة الحساسية عالمية، متمثلة في رواية جان جاك روسو التي عنوانها جولي Julie أو هيلواز الجديدة (1761) وفي سيرته الذاتية اعترافات (1764-1770) التي كانت تعبيرًا عن كثافة الاستجابة للجمال أو الجلال، أي الحساسية الجمالية. فمصطلح الحساسية في القرن الثامن عشر كان يعني عمومًا سرعة التأثر بالمشاعر الرقيقة. ومن ثم قدرة لا تقف عند مشاعر الذات، بل تتعداها إلي الاستجابة لمشاعر الآخرين، وكذلك إلي الاستجابة لمشاعر الآخرين، وكذلك إلي الاستجابة لكل ما هو جميل.
واختلفت الحال تمامًا في القرن التاسع عشر وحلت رقة الأحاسيس الخاصة sensitivity محل الحساسية الفنية، ولكن اللجوء إلي الأحاسيس الذاتية لم تتأسس كلمته قط باعتبارها مصطلحًا أدبيًا.
وفي النقد العربي الحديث كان من أوائل استعمال مصطلح الحساسية استعمال لويس عوض له عندما قال إن الأصل في ثورة العروض التي قام بها الشعر الجديد وخرج بها عن عمود الشعر التقليدي هو أن مضمون الحياة التي عرفها الأولون يختلف عن مضمون الحياة الحديثة وهو يحتم تجويد صورة الأدب بما يجعلها أقدر علي حمل وتوصيل مضمون الحياة الجديدة. وعند لويس عوض لا يدخل في هذا المضمون موضوع الشعر وحده ولكن حساسية الشاعر للحياة وطبيعة انفعاله بها وتأمله لها وتعبيره عنها لغة وخيالاً وتصويرًا. والحساسية هنا حساسية جديدة، وتعد نقلة في الإبداع. ثم استعمل المصطلح إدوار الخراط وصبري حافظ بطريقة مختلفة. ويؤكد لويس عوض أن الثورة الحقيقية فيما كان يسمي بالشعر الجديد هي اختلاف النظرة للعالم. وعنده أن الشاعر بعد أن كان يمسك بربابة ويتغني بحالة وجدانية خاصة تحول إلي إنسان يعبر عن هموم الإنسانية أو هموم جيله في هذه الفنرة. وبعد ذلك حينما جاءت السبعينيات وأشعارها تصاعد صخب نقدي شديد الارتفاع يسميها في بعض الأحيان حساسية جديدة (إدوار الخراط صبري حافظ) وفي أحيان أخري الحداثة الشعرية (جابر عصفور، محمد عبد المطلب). ويفرق الخراط بين الحساسية الجديدة والحداثة. وفي ظنه أنهما يتقاطعان ولكنهما لا يتطابقان. فالحساسية عمومًا تعني تطورًا تاريخيًا محددًا للكتابة يقع في الزمن أي مجموع الرؤي والطرائق الفنية التي تختلف عن مقابلاتها القديمة والأكثر قدمًا، أي مجموع الرؤي والطرائق الفنية الحديثة المختلفة عن التقليدية إزاء الاحتفاظ بالنمط البنائي المتسلسل أو تكسيره، والعكوف علي الترتيب المنطقي العقلي الفني أو تحطيمه ودرجة ذلك أي درجة الولوج إلي عالم الحلم والأسطورة والرمز ثم درجة التمسك بتقليدية طاقات اللغة أو درجة تفجيرها.
-8-
ابتذال هازئ
Burlesque, Burlesque
محاكاة باعثة علي الهزؤ لعمل أدبي أو موسيقي أو لأسلوب فني أو مذهب عقائدي أو أسلوب في الحياة للحط من وضعه. وتلك المحاكاة الهازئة أشد وأوسع مدي من المحاكاة الساخرة parody, parodie أي المحاكاة الضاحكة الهجائية التي تتجه إلي مجرد الانتقاص، فهي أقوي وأوسع في النغمة والأسلوب. وقد استعمل أرستوفانيس الابتذال الفكاهي في مسرحياته كما استعملته مسرحيات الساتورا satyr، الملهاة الشعبية أي الخليط من الموسيقي والحوار الهزلي ولكنه ليس مقصورا علي الدراما. إن دون كيشوت هي ابتذال فكاهي للرومانس. وهناك أشعار صمويل بتلر Samuel Butler الهازئة بالرومانس والفروسية والنزعة الطهرية. وكتب بوالو Boileau ملحمة يهزأ فيها بقواعد الملحمة الكلاسيكية كما سيطر بوب Pope سيطرة عظيمة علي إمكانات البرليسك. وكتب سويفت Swift أعمالاً ممتازة تنتمي إلي البرليسك. وفي العامية المصرية تعتبر منه شعلقات حسين شفيق المصري وأغاني شكوكو التي كتبها فتحي قورة لمحاكاة أغاني أم كلثوم. كما حفلت كتابات يحيي الطاهر عبدالله بالمحاكاة الهازئة لأساليب شائعة في السرد القصص، فقد تنتحل أسلوبًا معينًا انتحالاً هازئًا مثل الوصف التفصيلي للعام المتشيئ منتقدة هذا العالم المتطاير في غبار الناس والأشياء والحركات. وعنده نجد كذلك تهكمًا من أسلوب آخر في السرد هو أسلوب ارتياد حالات نفسية عند فرد معزول محاصر في كهفه السيكولوجي. والابتذال الفكاهي ماثل هنا في صب هذه الحالات في أوضاع متجمدة، والتهكم من مزاعم إدراك الذات في أعمق أعماقها للحس الباطن والواقع الأولي للشعور. ويبين السرد أن هذا التدفق الذي يدعي الطابع الشعري في كليشيهاته المحفوظة ليس إلا أفعالاً منعكسة آلية ودوافع بدائية. ففي وقدة الرغبة في البكاء لأن العاشق إيليا غابت عنه حبيبته كانت ألياف برتقالة قد اختبأت بين أسنانه تسبب له ضيقًا، وظل يبحث عنها بلسانه حتي عثر عليها أخيرًا ثم قذفها مع البصقة في الهاء وهو يحس بالراحة لتخلصه من هذا الهم. فالقص يعمد إلي تبشيع سردية العالم المبعثر والذات المفككة والعاطفية الصارخة، كما يبشّع لغات أخري دعية الحماس مثل لغة المذيع الرسمي ولغة الرقيب السينمائي في أهمية الرقابة لحماية المجتمع والصغار بالإضافة إلي اللغة العاطفية الطنانة.
وقد عرف الأدب العربي أعمالاً بارزة يمكن أن تنتمي إلي الابتذال الفكاهي (البيرلسك) أو المحاكاة الهازئة مثل البخلاء للجاحظ فهو يدور حول نوادر البخلاء التي تدخل في باب الهزل أو باب الجد. والنوادر بعضها حقيقي وبعضها يجيء علي سبيل المزاح والملاطفة وجعل الهزل وسيلة للإمتاع والارتياح وخلو البال. فالضحك في نظر الجاحظ فعل جميل، وقد قال تعالي "وأنه هو أضحك وأبكي وأنه هو أمات وأحيا". فوضع الضحك بحذاء الحياة ووضع البكاء بحذاء الموت. والجاحظ يبالغ في تهكمه التبشيعي بالبخلاء وقد جردهم من أية مزية وألصق بهم كل عيب. فهو يصل إلي تهكم تبشيعي. وينطبق له علي عمل ذائع له هو "رسالة في التربيع والتدوير" وهي حول شخصية الكاتب أحمد بن عبد الوهاب ابتداء من شكله ومظهره. فخصائصه الجسمية معيبة وكذلك خصائصه الأخلاقية. وكل ما ذهب إليه الجاحظ من إسراف في التبشيع يعتبره من باب المزاح وهو يحذر القراء من مجاوزة الحد علي الرغم من أنه يجاوز الحد كثيرًا، وإن دعا إلي الاعتدال معتذرًا بأن المجتمع الذي عاش فيه كان مجتمعًا يموج بالبخلاء والمغفلين والحمقي والشطار والموسوسين والمتعالمين. وكان عليه من وجهة نظر ثانية أن يقاوم تيارًا عامًا من الكآبة والصرامة والمبالغة في اصطناع الجد والتقعر.
أهم المصادر
إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة
أحمد مطلوب: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها
البدراوي زهران: مبحث في قضية الرمزية الصوتية
لويس عوض: دراسات في النقد والأدب. بيروت د.ت. ص 31
والتر ستيس: معني الجمال (ترجمة إمام عبدالفتاح إمام)
Otto Jespersen: Language, Its nature, development, and origin


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.