الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الأكثر نفوذا وتأثيرا فى العالم لأنه يصعب دون مشاركته حل الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، سواء فى سوريا أو أوكرانيا وغيرهما من مناطق هذا العالم، هذا ما خلصت إليه مجلة «فوربس» الأمريكية التى وضعت فى تصنيفها الأخير الرئيس الأمريكى باراك أوباما تاليا لبوتين للعام الثانى على التوالى، فى وقت جاء مواكبا للإعلان عن نتائج انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى، التى أطاحت بالكثير من مواقع أوباما وحزبه «الديمقراطى». هكذا وجدت المجلة الأمريكية ما يدعوها إلى اعتبار بوتين الأقوى والاكثر نفوذا وتأثيرا، رغم كل المتاعب التى يواجهها الرئيس الروسى وما يلحق ببلاده من أزمات ومشكلات من جراء ما فرض ضدها من عقوبات اقتصادية عقب الأزمة الأوكرانية. وعزت فوربس هذا الاختيار إلى ما اتخذه بوتين من قرارات، وفى مقدمتها ضم شبه جزيرة «القرم»، غير آبِه بتهديدات الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين، وبما فرضوه على بلاده والكثيرين من أعضاء فريقه من عقوبات وقيود، تستهدف إثارة تذمر النخبة الحاكمة ودفعها مع جموع الشعب إلى الإطاحة به. وذلك وغيره، لم يكن ليغيب بطبيعة الحال، عن فطنة «ثعلب الكرملين» الذى شب وترعرع بين أحضان واحد من أعتى أجهزة المخابرات العالمية «كى جى بى»، جهاز المخابرات فى العهد السوفيتى. ولذا كان من الطبيعى أن يسارع بوتين بأولى خطواته للرد على بعض هذه العقوبات من خلال رحلته إلى الصين فى مايو الماضى، والتى توصل خلالها إلى توقيع العديد من العقود والاتفاقيات الاقتصادية طويلة الأمد مع الصين بقيمة إجمالية تبلغ ما يقرب من أربعمائة مليار دولار، ومنها عقد بناء أنابيب الغاز بقيمة 70 مليار دولار. وكانت المجلة الأمريكية تعرضت فى العام الماضى لسيل هائل من الانتقادات بسبب قرارها حول اختيار بوتين لنفس المركز الأول، فى الوقت الذى جاء فيه أوباما أيضا فى المركز الثانى، وهو ما اعتبره البعض، رغم ذلك مركزا متقدما مبالغا فيه، نظرا لأنه يعتبر المسئول الأول عن توريط العالم فى مواجهة مع الإرهابيين من تنظيم "داعش" ممن دعمهم وساهم فى توحشهم، ضاربا عرض الحائط بذكرى ضحايا حملته العسكرية فى العراق من أبناء جلدته، والذين بلغ عددهم ما يزيد على أربعة آلاف ونصف الألف، ناهيك عن أن ذلك يسلبه عمليا الحق المعنوى فى الاحتفاظ بجائزة نوبل للسلام، التى لا يزال الكثيرون يعتبرون أنها آلت اليه عن غير حق. وتشير الشواهد إلى أن توقف فوربس عند بوتين لتصدر قائمة أقوى أقوياء العالم، يظل يبدو أكثر إثارة وتشويقا، على خلفية اختيار الرئيسين الأمريكى أوباما، والصينى لى كه تشيانج تاليين فى الترتيب لبوتين، رغم كل ما تتمتع به دولتاهما من مسوغات وقوى اقتصادية وعسكرية هائلة. وكان عدد من المراقبين الأمريكيين عزا اختيار بوتين لتصدر قائمة أقوى أقوياء العالم، إلى كونه الأكثر سرعة وحسما وصلابة فى مواقفه، سواء من موقع "الفعل" أو "رد الفعل" ، ليس فقط على مدار العام الفائت، بل ومنذ جاء إلى سدة السلطة فى الكرملين مع مطلع عام 2000. وكان بوتين سبق واحتفظ بموقعه على خريطة الكبار طوال سنوات وجوده كرئيس للحكومة الروسية بعد تركه لمنصب الرئاسة فى الكرملين فى عام 2008. ويذكر المراقبون أن بوتين سبق وأبدى فى حينه قدرا هائلا من المرونة على صعيد الخارج، لدعم مواقفه وسياساته التى طالما اتسمت بالحسم والقوة لدى إدارته لمعاركه مع خصومه فى الداخل من أرباب نظام سلفه بوريس يلتسين ممن نهبوا ثروات الوطن، وفرطوا فى مواقعه لصالح أعدائه وخصومه فى الخارج. وقد تمثل ذلك فى تعاونه مع الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش فى مجال مكافحة الإرهاب، وفيما قدمه من تسهيلات لقوات الائتلاف الغربى فى حربها ضد الإرهاب فى أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. لكنه سرعان ما اتخذ موقفا مغايرا أعرب عنه فى خطابه النارى فى ميونيخ فى مؤتمر الأمن الأوروبى فى عام 2007، والذى طالب فيه بوضع حد لهيمنة القطب الواحد وبناء عالم متعدد الأقطاب، وهو ما تناولناه فى أكثر من تقرير سابق من موسكو. ولذا كان من الطبيعى أن تترك عدم ثقته فى الإدارة الأمريكية ورفضه للتعامل معها من مواقع اكتسبتها نتيجة ممارسات غير مشروعة من جانب أوباما الذى كان كشف صراحة عن ارتياحه أكثر للتعامل مع الرئيس الروسى السابق دميترى ميدفيديف لما أبداه من مرونة هائله تجاه قبول هيمنة وتسلط الإدارة الامريكية، بل وقَبِلَ عن طيب خاطر بتدخلها السافر فى شئون بلاده من خلال تمويل منظمات المجتمع المدني، وما سمى بالمعارضة غير الممنهجة فى روسيا والتى قدم لها الكثير من التنازلات. وكان بوتين قد أدرك مبكرا أن واشنطن سوف تواصل من بوابة "حصان طروادة" التغلغل داخل فريقه الحاكم ممن سقط بعضهم فى شرك الفساد، واستمرأوا استغلال مواقعهم لاكتناز الثروات والعقارات فى داخل البلاد وخارجها، ولذا كان قراره بإلزامهم بالمفاضلة بين الثروة والمناصب الحكومية، إلى جانب إلزام كل العاملين فى الأجهزة الرسمية للدولة بالإعلان عن هذه الثروات والاستثمارات والحسابات المالية المتضخمة فى بنوك الخارج، وما قد يكونون حصلوا عليه من تسهيلات وامتيازات ومنها "جنسيات أجنبية". وفيما كان أوباما ورفاقه يقصدون باتخاذ قراراتهم التى استهدفت ممثلى هذه النخبة الحاكمة، الضغط فى اتجاه ان يكون هؤلاء فى مقدمة المتذمرين ضد سياسات بوتين، تمهيدا ل "ثورة ملونة"، تستهدف زعزعة مواقع النظام والإطاحة بالرئيس بوتين فاجأه بوتين بخطاب نارى آخر فى سوتشى فى ختام أعمال منتدى "فالداى"، لم يكن أقل حدة من خطابه فى ميونيخ 2007، وهو ما تناولناه فى تقريرنا السابق من موسكو، وسردنا فيه ما قاله حول يقينه بأن إشعال الغرب نيران الأزمة الأوكرانية كان ستارا لتنفيذ مآرب أمريكية بعيدة المدى، بما يعنى صراحة أن "اللعب صار على المكشوف" بين الزعيمين بوتين وأوباما ! فلم يعد سرا للقاصى والدانى اليوم أن الرئيس الأمريكى وضع نصب عينيه هدف التخلص من غريمه الروسى الذى لا يطيق التعامل معه منذ أن عاد إلى السلطة فى الكرملين فى عام 2012، وهو ما يبدو أن بوتين يبادله ذات المشاعر التى سبق وكشف عنها فى مستهل ولايته الأخيرة، حين اعتذر عن عدم المشاركة فى "قمة شيكاغو" فى عام 2012 فى الولاياتالمتحدة، والتى كان مقررا أن تجمعه مع باراك، وأوفد رئيس حكومته ميدفيديف بديلا عنه. وكان ذلك يعنى تأكيد يقظته لما تحيكه الولاياتوالمتحدة من دسائس ومبادرات لاستخدام ما قد يسمى بالطابور الخامس داخل روسيا، وعلى مقربة مباشرة من حدودها فى بلدان الفضاء السوفيتى السابق، من خلال من تختارهم واشنطن من سفراء معروفين بخبراتهم العريضة فى مجال "الثورات الملونة". ونذكر أن بوتين اتهم الولاياتالمتحدة صراحة بإشعال نيران هذه "الثورات"، وتدبير الانقلابات، التى كان آخرها الإطاحة بنظام الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش. بل ومضى فى ذات الطريق ليوضح أنه لا يمكن أن يكون رفيقا أو شريك رأى مع أناس يعلون "حقوق المثليين"، على نواميس الشريعة الإلهية، فى إشارة غير مباشرة، أو قلها مباشرة، إلى أوباما الأمريكى، والفرنسى فرانسوا أولاند، ومن هم على شاكلتهما ممن يدافعون عن حقوق المثليين فى تسجيل زيجاتهم وتقنين علاقاتهم جريا وراء "الشعبية" و"الأصوات الانتخابية" التى يسجل الواقع الراهن تدنيها إلى مستوى غير مسبوق، كما هو حاصل بالنسبة لكل من أوباما فى الولاياتالمتحدة ، ومع أولاند فى فرنسا. ولكم بلغ الأمر قمة تناقضاته، حين سجل ارتفاع نسبة شعبية بوتين فى الداخل والخارج على حد سواء، رغم كل العقوبات والمحاولات المضنية التى يبذلها خصومه، ما أكدته مجلة "فوربس" خلال العامين الأخيرين، باختيارها الرئيس الروسى ك"اقوى رجل فى العالم". ولعل ذلك كله يقول إن بوتين حقق الكثير من علو المكانة وسمو الهيبة والنفوذ، استنادا إلى واقع يقول "إن لا شئ تستطيع الولاياتالمتحدة تحقيقه فى عالم اليوم، دون مراعاة مواقف وسياسات الرئيس الروسى، سواء كان ذلك فى سوريا، أو الشرق الأوسط، أو أوكرانيا، أو حتى فى مجال مكافحة الإرهاب الدولى، رغم كل ما تمتلكه من آليات قوة وتسلط، وكل محاولات فرض "عزلة" بوتين، و"الزج" به ضمن زمرة من تسميهم زعماء "محور الشر" .