كشف الرئيس الامريكى باراك اوباما عن مدى خصومته مع الرئيس فلاديمير بوتين، حين ادرج روسيا فى قائمة الاخطار التى تهدد العالم قبل الارهاب الدولي، تالية لفيروس الايبولا، فى كلمته التى القاها فى الجمعية العامة للامم المتحدة. ولم يكن ذلك ليغيب عن رؤية الزعيم الروسى الذى كان اول من حذر من مخططات الولاياتالمتحدة منذ تدخلها لاشعال نيران «الثورات الملونة» فى بلدان الفضاء السوفيتى السابق وحتى اشعالها نيران الازمة الاوكرانية فى نهاية العام الماضي، وعاد ليضع الاخطار الداخلية نصب عينيه كاحد اهم الاسباب التى تدعوه الى تغيير عقيدة روسيا العسكرية. ولذا لم يكن غريبا ان يعود الملياردير اليهودى ميخائيل خودوركوفسكى فى مثل هذه الاجواء الى صدارة الساحة الاعلامية ليعرب عن استعداده للترشح رئيسا لروسيا خلفا لبوتين «فى حال اندلاع أزمة تستوجب ذلك». ولعل ما قاله خودوركوفسكى الذى كان بوتين افرج عنه نزولا على وساطة المستشارة الالمانية انجيلا ميركل وسياسيين غربيين آخرين، فى نهاية العام الماضي، قبل انتهاء فترة العقوبة وبعد قضاء ما يزيد على العشر سنوات فى سجون روسيا لاسباب تتعلق بنهب ثروات روسيا وجرائم اخرى كثيرة، يقول باحتمالات تطورات عاصفة تستهدف احياء ما سبق واضمرته واشنطن من مخططات تستهدف تغيير النظام فى روسيا والاطاحة برئيسها. ومن اللافت فى هذا الصدد ان اعلان خودوركوفسكى الرغبة فى العودة الى السياسة، جاء فى توقيت مواكب لخروج المظاهرات الى شوارع موسكو تحت شعارات «زائفة» تطالب بالسلام فى اوكرانيا، مواكبة لشعارات اخرى تنادى ايضا بتنحية الرئيس بوتين، لتميط اللثام عن مخططات الرئيس الامريكى الذى كان استهل فترة ولايته الاولى بالحصول على جائزة نوبل للسلام ولم يكن قد فعل شيئا بعد من اجل تحقيق السلام فى اى من بقاع الارض. ولعله من سخريات القدر ان ينهى «الحائز على جائزة نوبل للسلام»، فترة حكمه وقد غاص حتى اذنيه فى الكثير من الحروب التى اشعل نيرانها فى مختلف الارجاء بداية من افغانستان وحتى حربه الحالية ضد «الدولة الاسلامية- داعش» فى العراقوسوريا، ومرورا بتهديداته بقصف سوريا وتدخله السافر فى اوكرانيا سعيا وراء ضمها وجورجيا وبلدان اخرى الى عضوية حلف الناتو. وهكذا وفى مثل هذه الاجواء يعلن خودوركوفسكى صاحب « يوكوس» اكبر مؤسسات النفطية فى روسيا والعالم عودته الى صدارة الحياة السياسية، وهو الذى كان سبق وافصح فى مطلع هذا القرن عن طموحات رئاسية فى روسيا. ويذكر المراقبون انه كان حاول ذلك حين قام بتمويل رموز المعارضة اليمينية واليسارية على حد سواء نكاية فى الرئيس بوتين، ورغبة من جانبه فى «شراء» البرلمان الذى يكفل له تغيير الدستور وسن ما يريده من قوانين. وكان ايضا عمل على تشكيل تنظيم شبابى اطلق عليه اسم «روسيا المنفتحة» فى عام 2001 بتمويل مباشر من مؤسسته النفطية «يوكوس»، فيما حرص على افتتاح فروع لها فى 55 من الجمهوريات والاقاليم الروسية. ويذكر التاريخ ان خودوركوفسكى مضى الى ما هو ابعد حين اعلن خطته لافتتاح عدد من المشاريع والمراكز التربوية السياسية ومنها «مدرسة السياسة العامة»، والحركة الشبابية»الحضارة الجديدة»، والبرنامج التعليمى «فيدرالية التعليم المفتوح عبر الانترنت»، ونادى الصحافة تحت اسم «من المصادر المباشرة». وعلى الرغم من ان طلب العفو عن خودوركوفسكى كان يعنى ضمنا التعهد بالتوقف عن العمل بالسياسة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية لروسيا، فقد عاد ليفصح عن طموحاته فى معرض مداخلة تليفزيونية مع تنظيم «روسيا المنفتحة» فى مدينة «نيجنى نوفجورود» الروسية. وقال :»ان هذا التنظيم يمكن ان يكون شبكة من اجل تنسيق وتنظيم العلاقات بما يمكن معه الاعداد لخوض الانتخابات البرلمانية المرتقبة فى عام 2016». وقد جاء ذلك عقب ما نشره من تفاصيل لهذه الخطة على موقعه الالكترونى تحت عنوان «الطريق الاوروبي» لروسيا، وإن لم يشر صراحة الى ان ذلك هو جوهر خطته الرامية الى الاعداد للترشح لمنصب الرئيس. وسعيا من جانبه للخروج من الدائرة المحلية الضيقة الى عالم اكثر رحابة، عاد خودوركوفسكى ليكشف عن ذلك صراحة فى حديثه الى صحيفة «لوموند» الفرنسية ابان احتفالاتها بالذكرى السبعين لاصدارها. ونقلت عنه وكالة انباء «ريا نوفوستي» قوله انه واذا احتاج الامر يمكن ان يخوض الانتخابات مرشحا لمنصب الرئيس من اجل تجاوز الازمة الراهنة. واضاف ايضا انه لم يكن ليفكر فى ذلك فى حال كانت بلاده تتطور بشكل طبيعي، فيما اشار الى انه سيفعل ذلك اذا اقتضت الضرورة تجاوز الازمة واجراء الاصلاحات الدستورية ولا سيما فيما يتعلق بتنظيم اعادة توزيع سلطات الرئيس بين السلطة القضائية والتشريعية والمجتمع المدني. وكان خودوركوفسكى انضم ايضا الى «جوقة» الزعماء الغربيين الذين لم يتورعوا ان يعلنوا صراحة ان الهدف الرئيسى من العقوبات التى يفرضونها ضد روسيا لا تستهدف الاضرار بمصالح الشعب الروسي، وهو ما يعنى صراحة انها تستهدف تقويض مواقع الرئيس بوتين ورفاقه فى القيادة السياسية والعسكرية الروسية ممن ادرجتهم هذه العقوبات ضمن الشخصيات غير المرغوب فيها والمحظور دخولها الى الولاياتالمتحدة والبلدان الغربية. قال خودوركوفسكى ان هذه العقوبات موجهة ضد اولئك القادة وضد المنظمات التى تسرق ثروات الشعب الروسي(!)، متناسيا ما اقترفه من جرائم لاكتناز عشرات المليارات من الدولارات خلال سنوات معدودات. هكذا صراحة كشف خودوركوفسكى عن موقفه من الرئيس بوتين حين اشار الى ان البلاد على شفا ازمة، رغم انه قال عقب الافراج عنه «انه سوف يتفرغ لاسرته ولن يتعدى نشاطه العمل الاجتماعي»، بما كان يعنى تعهدا من جانبه بانه لن يعمل بالسياسة فى الفترة القريبة المقبلة. لكنه عاد ليقول ودون مواربة ، «ان ما يمارسه عمل اجتماعي، لكنه واذا كان ثمة من يرى فى ذلك نشاطا سياسيا، فانه يوافق على اعتبار ذلك عملا سياسيا». نسى خودوركوفسكى او تناسى ان محمكة «باسماني» فى موسكو سبق واصدرت حكمها فى 17 مارس 2006 بمصادرة ممتلكات ما انشأه من منظمات كانت تعمل فى اطار مشابه لمثيلاتها من منظمات المجتمع المدنى التى يجرى تمويل معظمها من الخارج، وكانت ولا تزال بمنزلة «حصان طروادة» للبلدان الغربيةوالولاياتالمتحدة بالدرجة الاولى. نسى الملياردير اليهودى انه كان محكوما عليه بعقوبات بلغت فى مجملها ما يزيد على 14 عاما، وكانت فى طريقها الى الزيادة بعد الكشف عن ارتكابه جرائم اخرى، لو لم يصدر الرئيس بوتين العفو عن قضائه بقية مدة العقوبة فى ديسمبر من العام الماضى استجابة لطلبه الذى تقدم به لاسباب انسانية كما قال آنذاك، وكانت تتعلق بمرض والدته. وكان خودوركوفسكى غادر السجون الروسية مباشرة وفور الافراج عنه الى المانيا ومنها الى سويسرا حيث يقيم الان بعد ان حصل هناك على حق الاقامة. اما عن رد الفعل الرسمى من جانب الكرملين حول تصريحات الملياردير اليهودى خودوركوفسكي، فقد اوجزه دميترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الرئيس بوتين بقوله « انه لا يجد فيما افصح عنه خودوركوفسكى ما يستدعى التعليق عليه». غير ان القانونيين اكدوا وتعليقا على اعلان خودوركوفسكى استعداده للترشح لمنصب الرئاسة، انه لا يستطيع ذلك لان القانون يحظر عليه المشاركة فى أى انتخابات نيابية او رئاسية قبل انقضاء عشر سنوات من تاريخ الافراج عنه نظرا لانه لم يستكمل تنفيذ فترة العقوبة المحكوم عليه بها. على ان ما اعلنه خودوركوفسكى لم يكن ليكون بعيدا عن مخيلة زعيم نشأ وترعرع فى كنف منظمة كانت ولا تزال من اقوى اجهزة الامن والمخابرات فى العالم. كما ان ما قاله خودوركوفسكى لم يكن ايضا بعيدا عن سياق ما سبق وحاوله كثيرون ممن تواصل الولاياتالمتحدة والدوائر الغربية تمويلهم وتدريبهم انتظارا للساعة «صفر»، على غرار ما جرى على مقربة فى جورجيا ابان «ثورة الزهور» عام 2003، وفى اوكرانيا ابان «الثورة البرتقالية» عام 2004، وفى قيرغيزستان ابان «ثورة السوسن» فى عام 2005، وهو ايضا ما يظل احدى صور التدخل السافر من جانب هذه الدوائر فى اوكرانيا. وقد قالها بوتين صراحة حين اشار باصبع الاتهام الى الولاياتالمتحدة والناتو بوصفهما المتهمين الرئيسيين فى تدبير واشعال نيران الازمة الاوكرانية لتحقيق المكاسب المرجوة وفى مقدمتها تغيير النظام السياسى والاجتماعى فى روسيا وهو ما سبق وظهرت بوادره فى مطلع تسعينيات القرن الماضى عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. ولعل ذلك كله يفسر ايضا ما أعلنه بوتين عنه مؤخرا حول ضرورة ادخال التعديلات المناسبة على العقيدة العسكرية الروسية، ومنها ما يتعلق باعتبار الاوضاع الداخلية من اهم الاخطار التى تهدد الدولة الروسية وهو ما سوف يجرى اعلانه مع نهاية العام الحالى .