حينما تأتى على مسامعنا كلمة مشربية يتراءى فى خيالنا عصر الحريم، ذلك الزمن الجميل الذى يملأ الوجدان بعطر شهرزاد ذات الليالى الألف، فإذا دخلت وتجولت فى شوارع وأحياء القاهرة القديمة سرعان ما يجذبك شكل البيوت والمشربيات التى تنتشر على واجهاتها.. تلك البيوت الغامضة التى تتخفى خلف سواتر تحجب أهلها, خاصة النساء منهم, من عيون المارة، إلا إذا أردن فتحها. تخترق أشعة الشمس العيون الصغيرة للمشربية مع نسائم الهواء, مما يتيح للمرأة الجلوس فى حالة تأمل ومراقبة ما يحدث فى الشارع من وراء المشربية دون أن يراها أحد. وهذا يمثل قيمة أخلاقية ترتبط بالعادات والتقاليد ويعكس مدى الانغلاق والتحفظ التى كانت تعيشه المرأة فى ذلك العصر,الذى امتد حتى ثورة 1919. ومن قرأ عودة الروح لتوفيق الحكيم يتذكر سنية ومشربيتها المطلة على مقهى المتيمين الذين يرقبون فى وجد خيالها خلف المشربية وهى تبتسم بدلال او تضحك هازئة حسب شخصية العاشق على المقهى. أهتم صانع المشربية بالقيم الجمالية وأبرز فيها قدرته الفنية والزخرفية، فهى مقترنة بالزخارف النباتية، والهندسية، والمستلهمة من حيوانات أو طيور، وكتابات مثل “الله” و”الرحمن”، وتظهر فيها مهارة خرط الخشب الدقيقة على شكل مكعبات وكرات ومستطيلات عاشق ومعشوق, حيث كان يبطن الجزء المغلق من المشربية بالزجاج الملون، مع زوايا مشغولة بالنحاس فبذلك اكتسبت واجهات المنازل المزيد من الفخامة والإبداع. كان يحرص صانع المشربية على وجود موضع للقلل الفخارية بأرضيتها فى مواجهة الهواء ليتفاعل من الجدار الخارجى للقلة فتبرد المياه بداخلها.وعالجت المشربية مشكلة المناخ الحار فى البلاد العربية وتحكمت فى التهوية والإضاءة والرطوبة, حيث تتسع فراغات المشربية فى الأجزاء العليا وتضيق فى الأجزاء السفلية فتقل أشعة الشمس المارة من خلالها مما يساعد على مرور وتوزيع الضوء فلا تبهر العين داخل المنزل، ويستطيع خشب المشربية أن يضبط رطوبة الهواء لأنه مكون من ألياف تمتص الماء وتحتفظ به بسهولة تامة طالما لم يتم تغطيته أو دهانه، كما أن بروز المشربية عن مستوى الحائط ووجود فتحات كبيرة بها يجعلها تتحكم فى سرعة وتدفق الهواء داخل الغرفة. بدأ ظهور المشربية أثناء العصر العباسى وانتشرت فى العصر العثمانى، واستمر استخدامها حتى بدايات القرن الماضى ثم تلاشت تدريجيًا حتى اختفت تماما عن عيون العمارة الحديثة، واحتلت الأبراج والعمائر الشاهقة شوارع العالم العربى.