هى المكان المخصص للجلوس فيه من بيتك وفى نفس الوقت تشارك المكان العام فى الشارع. هى مكان مشترك بين الحركة الساكنة في البيت وبين الحركة الديناميكية بالشارع. يمكنك الجلوس فى البلكونة بملابس البيت، وتطل على الناس فى الشارع بملابسهم الخاصة بالخروج. هى المكان العالى المصون والمعزول بعيدا عن ضجيج الشارع حيث كان السكان فيه يلعبون الكوتشينة كما غناها سيد درويش فى بدايات القرن الماضى" فيك عشرة كوتشينة فى البلكونة". تخرج فيه العائلة من غرف الشقة ذات الهواء المقفل الحار الرطب الى البلكونة المنفتحة على الهواء الخارجى الطيب، وشمل هذا أفراد العائلة من الزوج والزوجة والابناء بدون استثناء. متى ظهرت البلكونة فى حضارتنا المحلية بعد اعتيادنا لأجيال عديدة على الجلوس داخل المشربية مختفين خلف غلافها الرقيق؟ قد تكون بدايتها مع بداية تكوين محمد على باشا للطبقة الوسطى التى كان قد أرسل أفرادها للتعليم فى أوروبا وعودتها إلى مصر لتشكل أحياءً خاصة بها فى منتصف القرن التاسع عشر. ومعروف أنها انتشرت فى مبانى الطبقة الجديدة تلك فى عده أحياء مع وقت الخديوى اسماعيل باشا حينما بدأ بقاهرته الجديدة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. ويحتمل أنها ظهرت أولا فى أحياء مثل الحلمية الجديدة ومنشية البكرى والعباسية. وأميل ألى الأعتقاد بأن بداية وجود تلك البلكونات كانت فى وقت الاحتلال البريطانى فى مساكن المرشدين الأجانب لقناة السويس فى الاسماعيلية فى شكل تراسات بمسطحات كبيرة حول غرف الدور الأرضى. وعلى أى الأحوال امتد تواجد تلك التراسات بعد ذلك وتوزعت وانتشرت على واجهات المبانى التى سكنتها الشريحة العالية من الطبقة الوسطى فى ضاحية مصر الجديدة التى نشأت عام 1905. تلك التراسات تجدها بمسطحات واضحة فى شكلٍ راقٍ تسمح بالتواجد فيها ببراح وحرية حركة تمكن الساكن مثلا من وضع منضدة يتناول عليها الإفطار مستمتعاً بشمس الشتاء وبعض الزهور والنباتات الخضراء تحيطه. إنها مشاركة وجدانية هامة بين السكان والمارين فى الشارع، ولاشك أنه كان طابعا جديدا على المصريين بعد ما كان معتادا فيه على الجلوس فى المشربية التقليدية المعزولة بصريا والمختفين عن المارين بالشارع. على النصف الثانى من القرن العشرين تقلصت مساحة التراس واكتسبت معنى جديدا أخذت فيه مسمى البلكونة، ودخلت ضمن قوانين البناء وتحدد بروزها عن الواجهة المطلة على خط تنظيم الشارع بمسافة أقصاها متر وربع. ومع هذا لم يخلو أى بيت سكنى ينتمى للطبقة الوسطى أو للطبقة الأقل أو حتى ينتمى لما يقال عنه العشوائيات من عدة بلكونات فى كل طابق من المبنى ، يتواجد فى معظمها سكانها وخاصة وقت المغرب وبدايات الليل. وهذا كان تحولا فى السلوك اليومى بدلا من الصعود الى السطح مساءً والجلوس فيه طلبا للنسيم الطيب وهو ما كان اعتياداً للسكان فى الهروب من حرارة المبنى التى اكتسبها أثناء النهار من أشعة الشمس المباشرة. وأتصور أن ذلك كان استجابة لدعوة الحداثة التى اطلقتها الدعاية الرسمية وقتها بالاتجاه نحو" الفَرْنَجَة" وابتذال "البلدى"، عندها ظهر الرغيف البلدى والرغيف الأفرنجى، والقميص الافرنجى والجلابية البلدى، والنجارة البلدى، واللبس والأكل وتقريبا كل شئ انقسم إلى بلدى وآخر افرنجى. حاليا نجد فى العمارات السكنية المبنية حديثا، وفى المدن الجديدة خاصة، تلك البلكونات بكثرة وبأشكال جميلة موزعة على الواجهات البحرية مثلها مثل الواجهات القبلية، لكنها خالية من ساكنيها على مدار اليوم ومدار السنة. فلقد احتفظ المصريون بالشكل وتغيرت الوظيفة. أو قل أن المصريين رجعوا لعادتهم القديمة فى عدم الظهور على خارج البيت. ولم يظهر أحد من ساكنى تلك العمارات فى البلكونة إلا فيما ندر، ولم يعد يجلس فيها أحد ويلعب الكوتشينة على رأى سيد درويش فى القرن الماضى. أثارنى عمران القاهرة الجديدة بتشكيلاتها التى تنتمى فى كثير منها الى فنون مابعد الحداثة، مرتبطة بأعمدة رومانية وبنسب تفككت فى تكويناتها واحتوت فيما بينها البلكونات البارزة والغائرة عن الواجهة، مزينة ومزخرفة بما يوحى للشاهد أن معمارييها مهتمين بإظهار ذلك العنصر المعمارى وفخورين بعملهم ولا أعتقد أنه جاء بناءً على طلب المالك. أو هو من طلب المالك ولكن لايملك الرغبة فى الظهور على العموم. أتمنى أن أصل الى تفسير لتلك الظاهرة. لماذا لم يعد المصريين يستعملون حقهم فى الخروج الى البلكونة لكى يستمتعوا بالهواء الطيب فى آخر النهار؟ هل لقانون المبانى تأثير فى تشكيل واجهات العمارات السكنية بأن يحوى نسبة ما من الواجهة مخصصة للبلكونات؟ فهى مفروضة بالقانون إذن ! فهل راجعنا طلبات المجتمع وتركنا البلكونات حسب رغبة المالك؟ قد يكون الرجوع عن الظهور فى البلكونة مصدره النزعة الاقتصادية الفردية الحديثة وتزايد الإحساس بعدم الانتماء الجماعى الذى انتشر فى المجتمع المصرى أخيرا بدلا من الجماعية التى تميزت بها صفاتنا الشخصية منذ نشأة الإحساس بالعواطف الوطنية أيام عرابى ثم مصطفى كامل وسعد زغلول. نعم، لاشك أن ارتبط العمران بالسياسة والاقتصاد فى كل وقت. ولاشك أيضا فى أن العوامل كلها مرتبطة ببعضها. أننى أسير فى شوارع القاهرة الجديدة وأزعم أنها مثل 6أكتوبر و10رمضان وغيرها من الجديد وعندى إحساس قوى بالغربة، فمبانيها خالية من الناس رغم وجودهم داخلها. المبانى جميلة ولكنها لا تتخاطب مع المارين فى الشارع. انها تماثل فى خيالى الغرفة من الداخل، إن لم يكن على حوائطها أشياء تنتمى الى ساكنها مثل صور أو كتب أو ستائر، وليس بها نافذة تطل منها على شجرة خارجها، فإن الحوائط "صماء بكماء" لاتتفاعل انسانيا مع الوجدان. تصبح واقعيا حائطا من الطوب والخرسانة والبياض، وليس لها ذكريات عندى. وأتذكر فى ذلك المقام أشعار قيس حينما مر على ديار الحبيبة وقال: مررت على الديار ديار ليلى أُقبّل ذاك الجدار وذا الجدارا وما حب الديار ملكن قلبى ولكن حب من سكن الديارا تلك صورة من صور التواصل الاجتماعى الانسانى التى اعتمد عليها القائمون فى تحديث وتطوير برامج الحاسب الألى بعد أن لوحظ ابتعاد الانسان عن مجتعه وتوجهه نحو الألة الذكية والسيارة السريعة. وهى قصة شهيرة عن شباب فى جامعة أمريكية شهيرة أخترعوا برنامج الفيس بوك للتواصل الاجتماعى. والآن نحن نجد الانجذاب الشديد نحو كل برامج التواصل الاجتماعى حتى قيل أنه الآلية الأساسية فى إشعال ثورة 25 يناير، ويسبب الضغوط الاجتماعية فى دول أخرى. فهل نعمل مرة أخرى على تحقيق مثل ذلك التواصل الاجتماعى ولكن بين المبانى السكنية الصماء وأفراد المجتمع الموجودة فى الشارع؟ إننى أبحث عن الحياة الانسانية فى الشارع المصرى وفى المدينة المصرية. أتمنى أن تتحقق أمنيتى فى السير مترجلاً بين جنبات المبانى المملوءة أنشطة إنسانية ودودة. وأتذكر شوارع القاهرة القديمة مثل باب الوزير وسوق السلاح والمغربلين والسيوفية. انها ليست نزعة الحنين الى الماضى أميل اليها بقدر ما هى بحث عن الصفات الإنسانية فى العمران المصرى .