تحت أمر بلدى فى أى وقت.. وحريص على التعاون ونقل الخبرات للشباب واحد من طيور مصر المهاجرة.. النبت الطيب الذى يثمر للعالم أجمع.. المتميزون الحقيقيون الذين يرفعون قدر هذا البلد ويشرفونه فى المحافل الدولية المختلفة، بعضهم ذاع صيته واشتهر، وأغلبهم يعمل فى صمت وينجز فى هدوء ويرتقى فى تأنٍ لأعلى المراتب وقمم العلوم والمعرفة بجهده وذكائه ودأبه وعمله المخلص مستغنياً عن ضوضاء الشهرة ورياء السوشيال ميديا وهوس المزيفين، غالباً نحن لا نعرفهم ولا نتشرف بإلقاء الضوء على إنجازاتهم إلا بعد أن يذيع صيتهم فى العالم، وتصلنا الأصداء على بعد آلاف الكيلومترات، الطبيب المصرى جراح المخ والأعصاب العالمى الدكتور محمد لبيب واحد من هؤلاء المصريين المتميزين عن جدارة الذى كان ولا يزال حديث الأوساط الطبية الدولية والدوريات العلمية المتخصصة، بعدما نجح فى قيادة فريق طبى أمريكى من المركز الطبى بجامعة ميريلاند «UMMC» لاستئصال ورم سرطانى أمام الفقرات الأولى من العمود الفقرى لفتاة تبلغ من العمر 19 عاماً مستخدماً تقنية فريدة من نوعها عبر تجويف العين «المحجر» ودون جراحة بالمفهوم التقليدى.. الجراحة هى الأولى من نوعها على مستوى العالم، وأثارت إعجاب الصحف العالمية ومنها: الواشنطن بوست التى نشرتها على صفحاتها الأولى باستفاضة، وكذلك الدوريات والمواقع الطبية العالمية المتخصصة وموقع جامعة ميريلاند الذى احتفى بالجراحة والفريق الطبى.. والطريقة الفريدة التى أجُريت الجراحة من خلالها، حتى إنها رغم خطورتها الشديدة لا توجد غرزة واحدة فى جسم المريضة، ناهيك عن صعوبة التقنية وتميزها وتفادى العديد من الآثار الجانبية الخطرة جداً على المريض للفتح من الرقبة وأهمها: إصابة الأعصاب والعمود الفقرى.. ويُعد المقياس الحقيقى لنجاح الدكتور لبيب كمعلم هو مدى الابتكار الذى سيُدخله متدربوه إلى هذا المجال مستقبلًا. «الأخبار» تواصلت مع الطبيب العالمى محمد لبيب عبر بريده الإلكترونى ورتبت معه حواراً عبر وسائل التواصل، وسألناه فى البداية عن اللغة التى يريد إجراء الحوار بها، فوجدناه مصرياً حتى النخاع، لا يزال يتحدث العامية المصرية كأبناء شبرا، وكان هذا نص الحوار معه: ■ الأخبار: دائما يود القارئ التعرف على البدايات؟ الأسرة والدراسة وكيف كانت الانطلاقة إلى عالم الطب؟ - د. محمد لبيب: وُلدت لأب وأم مصريين يعملان فى دولة الإمارات العربية المتحدة، وحصلت على الثانوية العامة من هناك، الأب يعمل طبيباً والأم معلمة، الأبوان سعيا لتعليمنا على أعلى مستوى مُتاح وبفضل الله لم نخذلهم، عقب الحصول على الثانوية سافرت إلى كندا لدراسة الطب، بعد التعليم الجامعى تحول السفر إلى هجرة، واستقريت فى كندا، التعليم فى كنداوالولاياتالمتحدةالأمريكية تقريباً على نفس المستوى ونفس المناهج العلمية، أكملت دراستى فى تخصص جراحة المخ والأعصاب.. «النيابة الطبية» فى كندا فى هذا التخصص مدتها 6 سنين.. بعدها قررت استكمال الدراسة فى معهد «بارو نيولوجيكال» فى فينكس أريزونا الولاياتالمتحدة وهو أكبر معهد فى العالم متخصص فى جراحات المخ والأعصاب، ويشترط المعهد مستوى معيناً للانضمام إليه والحصول على شهادات أكاديمية منه.. بعدها عملت فى المركز الطبى لجراحات المخ والأعصاب بجامعة ميريلاند الأمريكية وحتى الآن. فى معهد بارو، تلقيت التدريب على يد الدكتورين مايكل لوتون وروبرت سبتزلر، اللذين تعلمت منهما خبراتٍ كبيرة فى مجال جراحة الأوعية الدموية الدماغية المُعقدة، بالإضافة إلى الدكتور بيتر ناكاجى، الذى غرس فيّ المفاهيم الحديثة لجراحة الأعصاب طفيفة التوغل، كما أكملت زمالة شاملة فى جراحة قاعدة الجمجمة مع الدكتور سامى يوسف فى جامعة كولورادو، وزمالة فى جراحة قاعدة الجمجمة بالمنظار الأنفى مع الدكتور دانى بريفيديلو والدكتور أمين قاسم فى جامعة بيتسبرج وجامعة أوتاوا على التوالى. كما حصلت على زمالة فى جراحة الأوعية الدموية الدماغية من مستشفى جامعة نورث شور فى نيويورك. ■ الأخبار: كيف كانت وأين وصلت العلاقة بمصر وأنت لم تُولد بها ولم تتعلم بها أيضاً؟ - د. محمد لبيب: أنا أعشق مصر هذه بلدى، أهلى جميعاً فيها، الوالد طبيب من القليوبية وهو مقيم حالياً معى بين الولاياتالمتحدةوكندا بعد تقاعده.. الأم معلمة من الإسماعيلية، وعمل الاثنان معاً فى دولة الإمارات العربية المتحدة معروف أن الجالية المصرية هناك كبيرة، وكل العادات واللغة والثقافة بيننا كانت مصرية بامتياز، الإجازات كلها فى مصر خاصة فى الإسماعيلية، الذكريات الجميلة كلها فى مصر، أنا عاشق لهذا البلد، وحريص أشد الحرص على التواجد به وزيارة أهلى فى مصر كلما أتُيحت فرصة أو مناسبة، لا أرفض أى مشاركة بمؤتمر فى بلدى كلما أتُيح الوقت والإمكانية. ■ الأخبار: وماذا عن التعاون فى المجال العلمى والطبى سواء مع الجهات الطبية أو المؤسسات العلمية؟ - د. محمد لبيب: حريص جداً ومرحب بالتعاون فى هذا المجال و«تحت أمر بلدى» فى أى شىء، أنا حالياً وحتى قبل هذه الجراحة الأخيرة حريص جداً على تعليم الأطباء الشباب فى مصر، أشارك فى المؤتمرات المتخصصة بالقاهرة والإسكندرية بشكل دورى، كنت فى مصر فى مايو الماضى بمؤتمر متخصص فى جراحات المخ والأعصاب، وعاودت الزيارة خلال شهر سبتمبر الجارى فى مؤتمر طبى سنوى بالإسكندرية وأحرص دائماً على التواجد بكليهما، على جانب آخر نفتح الباب أمام الأطباء فى مصر للدراسة فى الولاياتالمتحدة ونسهل عليهم الحصول على البعثات الطبية المتخصصة لزيادة خبراتهم وصقل مهاراتهم الطبية والاطلاع على كل ما هو حديث بشكل مستمر. كما أننى مرحب جداً على إجراء جراحات المخ والعمليات الدقيقة للمرضى فى مصر كلما أتُيحت الفرصة لذلك، وأرحب جداً بالتنسيق مع المستشفيات الطبية المصرية فى هذا الشأن. ■ الأخبار: نعود إلى الجراحة وأصدائها والتقنية المُميزة التى أجُريت بها؟ ما سر هذا الاحتفاء الطبى العالمى بالجراحة؟ - د. محمد لبيب: الأصداء كانت كبيرة جداً للجراحة التى استغرقت 14 ساعة تقريباً وبُذل فيها جهد كبير فعلياً، لأنها نُشرت على مساحة مُميزة فى جريدة «الواشنطن بوست»، ومنها تناولتها العديد من وسائل الإعلام الدولية وخاصة المهتمة بالجانب الطبى وجراحات المخ والأعصاب، ورأيت ترجمات للخبر بلغات عديدة حتى باللغتين الصينية والروسية، وأنا كنت حريصاً على النشر باللغة العربية وترجمته للغتى الأم، وبعدها نُشر فى عدة صحف منها: «الأخبار» المصرية. الجراحة فى حد ذاتها كانت صعبة جداً وجديدة من حيث المنهجية وتم ترتيب الخطوات وفق تخطيط، لأن الورم فى منطقة حرجة جداً أمام الفقرات الأولى للعمود الفقرى وليس خلفها، وهذا يعنى صعوبة أكبر لأن الورم أمام العمود الفقرى من الداخل، لو خلفه لكان سهلاً الوصول إليه بفتح من الرقبة وهى جراحة اعتيادية حالياً.. الورم كان ملتفًا حول الحبل الشوكى للمريضة، وغزا فقرات رقبتها، أسفل قاعدة الجمجمة مباشرة، وبفضل اجتياز الجزء السفلى من تجويف العين، تمكنا من إزالة ورم كان من الصعب جدًا معالجته وخطيرًا للغاية، محاولة الوصول إلى الورم من الظهر كانت ستؤدى إلى احتمالية كبيرة لإتلاف الحبل الشوكى.. تجنبنا إزعاج أو إتلاف هياكل رئيسية مثل: قناة استاكيوس، والأوعية الدموية الرئيسية مثل: الوريد الوداجى والشريان السباتى الداخلى، والأعصاب التى تتحكم فى البلع والكلام، بسبب كل هذا كان الاحتفاء كبيرا». وتابع قائلاً: «غالباً لا نفضل الدخول من الفم لعمليات جراحية مثل هذه تجنباً لنقل أى عدوى من داخل الفم للمريض، لأن الفم دائماً بيئة خصبة للبكتيريا». ■ الأخبار: هل تضعك الجراحة الناجحة على طريق الجوائز الدولية فى المجال الطبى؟ - د. محمد لبيب: بكل صدق لا أهتم كثيراً بهذا الأمر وإن كان يشرفنى بالطبع ترشيحى من قبل جهات علمية وبحثية لنيل الجوائز.. والتقدير العلمى مهم جداً للباحث والطبيب، لكن همى الأول وشغفى الأكبر هو «شفاء المرضى»، لا تدرى كم الفرحة والسعادة عندما رأيت فتاة عمرها 19 عاماً فقط تعود لممارسة حياتها بشكل طبيعى بدون آلام ولا مشاكل صحية، هذه هى جائزة الطبيب الحقيقية. ■ الأخبار: ما دور الفريق الطبى المساعد.. وما أهمية هذا الدور؟ - د. محمد لبيب: الفريق المساعد كان على أعلى درجة من الكفاءة والتعاون والفاعلية وساعد بقوة فى نجاح العملية، وعقدنا جلسات عدة للتدريب على الجراحة قبل إجرائها وبذلنا جهداً كبيراً فى مرحلة التجهيز والإعداد المعملى للجراحة، تم تجريب الفكرة واختبارها أكثر من مرة، الفريق يضم: الدكتورة أندريا هيبرت «أمريكية الجنسية»، الأستاذة المشاركة فى جراحة الأنف والأذن وجراحة الرأس والرقبة فى جامعة ولاية أوهايو، والتى أجرت العملية الأنفية وشاركت فى الجراحة عبر محجر العين، والدكتور كالبيتج فاكاريا «هندى الجنسية» وهو جراح عيون ساعد فى عملية فصل أوردة وشرايين العين عن الممر الجراحى. ونحن كفريق طبى نعكف حالياً على الدراسة العلمية للجراحة بكل تفاصيلها وأبعادها لنشرها فى الجريدة العلمية المعنية عالمياً بهذا الشأن وتسجيل أثر الجراحة المستقبلى من الناحية العلمية على الحالات المماثلة، وهناك بالفعل حالة تحت الفحص حالياً تمهيداً لإجراء الفحوص ومتابعة الحالة انتظاراً لتحديد إجراء جراحة من عدمه. ■ ما نصيحتك لشباب الأطباء فى مصر وللمتدربين الذين يتدربون تحت يدك من كل العالم؟ - د. محمد لبيب: أنصح دائماً شباب الأطباء بالأبحاث المعملية والتجريب والتشريح، يجب أن يذهبوا للمعمل كثيراً، ويمارسوا عملياً ما درسوه نظرياً، لا نجاح بالنظرى فقط، لو يدرون كم عدد الساعات التى قضيتها فى المعمل منفرداً تارة ومع فريق العمل تارة أخرى، لأعطوا اهتماماً متزايداً لهذا الأمر، أرواح المرضى أمر مهم جداً جداً لا يقبل التجارب، لذلك قضيت عشرات وربما مئات الساعات أدرس وأجرب وأتوقع المشاكل التى ربما تحدث أثناء الجراحة وكيفية التعامل معها، أدرس كل شىء بدقة، جربت العملية مراراً فى معمل تشريح الجثث، حتى لا أتفاجأ بأى شىء أثناء الجراحة، وفريق العمل قضى ساعاتٍ طويلة فى نفس الأمر، النجاح لا يأتى صدفة ولا يأتى بدون عمل وجهد صادق.