كانت للبلكونة مكانة خاصة في حياة المصريين قبل أن تتحول إلي حظيرة دواجن أو مخزن للثوم والبصل. لقد كانت الشقة التي بلا بلكونة أو شرفة أشبه بالمقبرة التي تفصلنا وتعزلنا عن العالم الخارجي. فالبلكونة لا تنتهي مهمتها بنشر الغسيل لكنها تعتبر المكان أو المنفذ الذي نري من خلاله الشارع ونعرف كل ما يدور فيه. وبالإضافة إلي ذلك فإن البلكونة كانت تمثل ملتقي الأحبة وتشهد همسات العشاق ودقات القلوب التي تختلط بخيوط الليل. وفي الواقع فإن البلكونة كانت تمثل عنصرا مهما سواء في الأفلام السينمائية أو الكتب الثقافية. من المعروف أن معظم أفلامنا القديمة تعتبر البلكونة الموقع الأساسي للتعبير عن مشاعر الحب كما الحال في فيلم "شحات الغرام" لمحمد فوزي وليلي مراد. أما بالنسبة للكتب الثقافية فإن الروائي الشاب محمد فتحي قد قام بإصدار كتاب "مصر من البلكونة (2009م) حيث يتناول السلبيات التي يشهدها الشارع المصري بطبقاته المختلفة. ما يثير الحزن والأسي هو أن بعض المباني الحديثة أمست خالية من البلكونة التي أصبحت جزءا من مساحة الشقة بعد أن حل محلها شباك صغير لا يمكن أن يؤدي ذات الوظائف التي تقوم بها البلكونة بكل كفاءة واقتدار. ومع ذلك نري أن أصحاب هذه المباني الحديثة لهم كل الحق في إلغاء البلكونة لأنها لم تعد موقعا للترويح عن النفس بل صارت من أسرع الوسائل لإنهاء العلاقة مع الحياة ومن ثم التخلص من كل المشاكل الحياتية. من المعروف أن السقوط أو الإسقاط من البلكونة قد أصبح من الأمور التي تحدث للمصريين سواء داخل الوطن أو خارجه. لقد قرأنا وسمعنا أن بعض الشخصيات المصرية المرموقة قد ألقت بنفسها أو ألقيت من شرفات المباني التي يقطنونها في لندن. ففي أغسطس 1973م تم العثور علي جثة اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري للسادات أمام عمارة ستيوارت تاور في قلب لندن وبعد مضي قرابة 28 عاما تم العثور علي جثة سندريللا الشاشة سعادة حسني أمام نفس العمارة ومنذ ثلاث سنوات تم العثور علي جثة أشرف مروان صهر الرئيس عبد الناصر أسفل عمارة بسان جيمس بارك بلندن. المثير للدهشة أن شرطة سكوتلانديارد التي تولت التحقيق في الحالات الثلاث لم تتوصل إلي الحقيقة: انتحار أم قتل. لقد كانت البلكونة في هذين المبنيين هي الحل بالنسبة للمنتحرين أو القتلة. لعل تلك البلكونة أو الشرفة تتحدث ذات يوم لتقول لنا ما الذي حدث. ولا تختلف الأمور كثيرا داخل مصر حيث نري بعض المواطنين لا يترددون في اللجوء للبلكونة إذا فشلوا في إيجاد حلول للمشاكل النفسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. لقد شهدت شرفات المباني في مدن المعمورة عدة حوادث مؤسفة في عام 2010م. ففي مارس الماضي قررت سيدة في الأربعينيات من عمرها وتقيم في مدينة بور فؤاد أن تضع نهاية لمشاكلها النفسية من خلال إلقاء نفسها من شرفة منزلها بالطابق الرابع. الغريب أن السيدة سبق أن قامت بمحاولة فاشلة للانتحار من بلكونة المنزل حيث تدخل نجلها لإنقاذها. وفي أبريل المنصرم رأت سيدة مصرية أن الطريقة المثلي للتخلص من مضايقات شاب خليجي من جيرانها هو إرغامه علي الانتحار بالقفز من البلكونة. وفي يونيو 2010م قررت فتاة صغيرة من رشيد أن تتخلص من الشعور بالظلم بعد أن تعرضت للسرقة بالإكراه من خلال إلقاء نفسها من الطابق الخامس لمنزلها. وفي نوفمبر 2010م لم يتحمل عامل في مركز القناطر الخيرية أعباء الحياة ولم يستطع تلبية مطالب الأسرة حيث تفتق ذهنه عن حل نهائي يتمثل في إلقاء زوجته من الطابق الثاني من المنزل مما أدي إلي أصابتها بكسور متفرقة في أنحاء الجسد. كما شهد الشهر نفسه انتحار معيدة بالجامعة تقيم بمدينة أكتوبر حيث ألقت بنفسها من الطابق الثاني وذلك لتخطيها الأربعين من عمرها من دون أن تلحق بقطار الزواج. لكن ما يدعو إلي الغرابة هو أن ضحايا الانتحار الذاتي أو الإلقاء من البلكونة لم تقتصر علي الفتيات والزوجات فحسب بل طالت الأمهات أيضا. ففي سبتمبر 2010م لم يجد سائق بالمحلة الكبري غضاضة في إلقاء والدته من بلكونة الطابق الأول حيث تعرضت لإصابات خطيرة في المخ. والسبب الذي دفعه إلي ذلك هو أنها رفضت أن تعطيه مبلغا بسيطا من المال. وفي ظني فإن الحل الذي يجول بالخاطر هو أن يضاف بند لقانون البناء الموحد بحيث يمنع إقامة شرفات في المباني الجديدة علي أن يطبق ذلك في المدن والقري علي حد سواء لأن المباني في القري والأرياف باتت مزودة بالبلكونات. لعل هذا الاتجاه يحد من الحوادث التي تشهدها البلاد من وقت إلي آخر.